جابرييل جارسيا ماركيز.. سيرة حياة

جابرييل جارسيا ماركيز.. سيرة حياة

يستمد كتاب «جابرييل جارسيا ماركيز.. سيرة حياة» من تأليف جيرالد مارتن أهميته من مصادر عدة، كفلت له الاحتفاء النقدي الكبير الذي حظي به فور صدوره، وأيضاً سلسلة السجالات والخلافات، بل والصدامات، التي أثارها مع تعدد النقاشات التي دارت حوله.

بالإضافة لقصة «جابو» وما يمثله بين عمالقة الأدب، فإن أحد أوجه أهمية هذا الكتاب تحققها طبيعة الجهد الذي بذل في الوصول بهذا الكتاب إلى أيدي القرّاء، فعلى امتداد سبعة عشر عاماً، قام جيرالد مارتن بإجراء مقابلات مع أكثر من ثلاثمائة شخص من بينهم كارلوس فوينتس، الفارو موتيس، ماريو فارجاس يوسا وتوماس إيلوي مارتينيز، وعائلة ماركيز بمن في ذلك زوجته وأمه وأبناؤه وإخوته وأخواته وأصدقاؤه، والذين تعاونوا معه على الصعيد المهني في الأدب والصحافة والسينما والسياسة.

وتعود أهمية الكتاب أيضاً إلى مؤلفه أيضاً، فجيرالد مارتن هو أستاذ اللغات الحديثة بجامعة بتسبيرج والباحث الأقدم في دراسات الكاريبي بجامعة متروبوليتان اللندنية، وقد زار جميع دول أمريكا اللاتينية وكتب باستفاضة وعمق عن القارة، وعلى امتداد ربع قرن، كان العضو الوحيد الناطق بالإنجليزية في أرشيف أدب القرن العشرين الأمريكي اللاتيني في باريس، وتولى رئاسة المعهد الدولي للأدب الأيبرو - أمريكي في الولايات المتحدة. وأصدر العديد من المؤلفات، في مقدمتها «رحلة عبر المتاهة - الرواية الأمريكية في القرن العشرين»، وأنجز ترجمة نقدية لرواية ميجيل أنجيل استورياس «رجال في متاهة».

وفيما يتعلق بالإطار الموضوعي لصدور الكتاب، فقد أطل المؤلف كأنما للحاق بوهج ما قبل الغروب في حياة ماركيز، وفي الوقت الذي تشهد فيه أمريكا اللاتينية حركة اختمار هائلة في الأدب والصحافة والسياسة، وهي المجالات الأساسية التي نشط فيها «جابو» وتبدو تغيرات هائلة في أفق علاقات القارة بكل من إسبانيا والولايات المتحدة على حد سواء.

وتتعدد أبعاد أهمية هذا الكتاب بما يتجاور قدرتنا على تفصيل القول فيها، أو حتى الإشارة إليها هنا، لكن هذا التعدد يدفعنا في الوقت ذاته إلى تبني رؤية نقدية من الكتاب منذ البداية ذاتها.

فهناك تيار بكامله من الفكر النقدي، بأمه وأبيه، لا يرى أن الكتب المتعلقة بحياة المؤلف، أي مؤلف، لها أهمية على الإطلاق، ذلك أن الأهمية المطلقة يعقد لواؤها للنصوص التي أبدعها المؤلف. وهي بين أيدينا، تنتظر المزيد من الاشتغال عليها هي ذاتها في نسيجها الداخلي، وبعيداً عن أي صلة بمؤلفها.

وسواء قبلنا هذا التيار النقدي أم رفضناه، فإنه قائم وموجود، ولا مجال لإنكار حضوره على الساحة النقدية العالمية.

وإذا كان المؤلف قد شاء أن يصيغ كتابه في ثلاثة أجزاء، يدور أولها حول «الوطن» والثاني حول «الخارج: أوربا وأمريكا اللاتينية»، والثالث حول «رجل العالم: الشهرة والسياسة»، فإن هناك من الكتّاب مَن يعتقدون أن الجزء الأول كان يمكن اختصاره إلى حد كبير بحذف المقدمات الطويلة، وغير الضرورية منطقياً، المتعلقة بعائلة ماركيز وجذورها قبل ولادته، باعتبار أن هذا كله ينتمي إلى عالم صناعة الأساطير الأدبية بأكثر مما ينتمي إلى الدراسات النقدية الحقيقية للأدباء والمبدعين.

أخيراً، قد لا يتردد البعض في إبداء تحفظهم حيال الكتاب، حيث إن قيمته الموضوعية قد تبدو متواضعة، بعد أن قال ماركيز نفسه كلمته في سيرة حياته الذاتية التي حملت عنوان «أعيش لأرويها».

هنا لابد من التوقف حيال حقيقة أساسية، وهي أن هذه النقاط كلها التي تدفع إلى الحماس للكتاب أو التحفظ حياله، إنما تصب في اتجاه واحد، وهو التأكيد على أهميته، فقدرته على إثارة كل هذا الجدل والخلاف تضرب جذورها في أرض خصبة، وفي عطاء لا موضع للتشكيك في جدارته بالتوقف عنده طويلاً.

اكتب ما تراه

يوضح لنا المؤلف منذ البداية أنه قد أمضى ما مجموعه شهر بكامله مع ماركيز على امتداد سبعة عشر عاماً، في غمار العكوف على إنجاز هذا الكتاب، وأنه عندما كان يوجه إليه السؤال عما إذا كانت سيرة الحياة هذه تحمل تفويضاً من ماركيز، كان ردّه دائماً: «لا، إنها ليست سيرة حياة مفوض بها، وإنما سيرة حياة يجري تحمّلها».

غير أن ماركيز نفسه فاجأ الكثيرين على امتداد العالم عندما صرح في مؤتمر صحفي عالمي في عام 2006 بأن مارتن هو كاتب سيرة حياته «الرسمي».

كان الشرط الوحيد الذي اشترطه ماركيز على مارتن هو ألا يجعله يقوم بعمله، وخلص في النهاية إلى أن يقول له: «اكتب ما تراه فقط، وأياً كان ما ستكتبه فسوف يكون هذا ما سأصبح عليه».

وأظن أنه ليس من قبيل التعسّف القول إن الصفحات الثلاث والتسعين الأولى من الكتاب، كان من الممكن الاستغناء عنها دون خسارة حقيقية، فالأجزاء المتعلقة بحياة عائلة ماركيز وحياة جده وجدته، ربما لا تعني إلا الباحثين المتخصصين.

لكن القارئ يبدأ في الاهتمام حقاً منذ الفصل الخامس من الفصول الثمانية، التي يضمها الجزء الأول، حيث نتابع انخراط ماركيز في الدراسة في جامعة كولومبيا الوطنية في 25 فبراير 1947، وانتقاله من دراسة القانون إلى اهتماماته الحقيقية بالتعمّق في قراءة فرانز كافكا، الذي فتح آفاق مخيلته على إمكان أن يكون هو نفسه كاتباً. ودستويفسكي وغيرهما من عمالقة الأدب العالمي.

وعلى امتداد باقي هذا الجزء، ستتابع انخراط ماركيز في عالم الصحافة، وإعادة اكتشافه لنفسه، وإدراكه المفاجئ، كأنما في لحظة أقرب إلى تألق البرق اللامع، كيف تعلم الكتاب الطليعيون المنتمون إلى عشرينيات القرن العشرين النظر إلى العالم من داخل وعيهم الفني.

كانت تلك هي المرحلة التي تأثر فيها ماركيز بإنجاز الحداثيين الأوربيين والأمريكيين المنتمين إلى العشرينيات والثلاثينيات، ولكنه فتنه أيضاً ما حظي به كتاب بعينهم من شهرة ومجد وقدرة على صنع أساطير حول أنفسهم وكتاباتهم، وفي مقدمة هؤلاء بالطبع وليام فوكنر وآرنست هيمنجواي.

قبل اختتام هذا الجزء سوف يركز المؤلف على الارتباط العاطفي الذي جمع ماركيز ومرسيدس بارشا، وهو ما لا يتردد المؤلف في وصفه بأنه لغز من البداية إلى النهاية يتحدى محاولة التفسير، وعندما نحلل عيوب هذا الكتاب في موضع لاحق من هذه القراءة له سوف نرى أن عجز المؤلف عن فهم أو تفسير هذه العلاقة يعد إحدى أبرز نقاط الضعف في إجمالي ما أنجزه.

لعل الجزء الأكثر أهمية في الكتاب هو الجزء الثاني الذي يحمل عنوان «الخارج: أوربا وأمريكا اللاتينية 1955 - 1967» حيث نتابع هنا الرحلة الهائلة التي قام بها ماركيز على جانبي الستار الحديدي، ليكتشف فيها أوربا الحقيقية، وليكتشف عبرها أيضا، نفسه.

أيام الترحال

بعد عشر سنوات على وجه الدقة من وضع الحرب العالمية الثانية أوزارها، حطت الطائرة التي أقلت ماركيز رحالها في باريس، وفي صباح اليوم التالي كان يستقل القطار إلى جنيف ليصلها عصراً، بعد يومين من مغادرته بارانكيلا، حيث يتعين عليه أن يغطي قمة الأربعة الكبار، وهي الدول الكبرى الأكثر انغماساً في الحرب الباردة، بناء على تكليف من صحيفة «الاسبكتادور».

ومن المحقق أن برقيته الأولى من جنيف قد أثارت انزعاج رؤسائه في الاسبكتادور، ذلك أنها شقت طريقها إلى النشر تحت عنوان «جنيف لاتكترث بالمؤتمر».

هذه هي أيام الترحال الهائلة بالنسبة لماركيز، فمن جنيف انطلق إلى إيطاليا لتغطية مهرجان البندقية السينمائي السادس عشر، ومن روما سينطلق إلى فيينا، ومن ثم إلى تشيكوسلوفاكيا وبولندا ليعود مجدداً إلى روما، وليلتحق بمسابقة حول الإخراج السينمائي في مركز الفيلم التجريبي، وليظل مثار اهتمامه في المقام الأول كتابة السيناريو.

وهو يقول مستعيداً ذكرى تلك الأيام: «اليوم لايمكنك أن تتخيل ما الذي كان يعنيه ظهور الواقعية الجديدة في بداية الخمسينيات بالنسبة لجيلنا، لقد كان يعني اختراع السينما مجدداً».

لسوف تصل هذه التجربة إلى طريق مسدود، ومع اقتراب الأيام الأخيرة من عام 1955، سيجد ماركيز نفسه وهو يستقل القطار في طريقه إلى باريس، ومن قبيل المفارقة أنه في غمار محاولته الانتقال إلى ميدان آخر، وهو السينما، وجد نفسه يعود مجدداً إلى الأدب.

إذا كان هناك فصل في هذا الكتاب يمس القلب بعمق، ويخاطب العقل بمزيد من التركيز، فإنه لن يكون إلا الفصل العاشر من الجزء الثاني الذي يحمل عنوان «جائع في باريس - البوهيمي 1956 - 1957».

خلافاً لوضع الكثير من الكتّاب العرب الذين يشدون الرحال إلى أوربا، فإن موقف ماركيز حيال القارة العجوز كان بصفة عامة، ومنذ البداية، أنها ليس لديها إلا القليل مما يمكن أن تعلمه إياه ومما لم يعرفه بالفعل عبر الكتب أو الشرائط السينمائية، حتى ليكاد يبدو - كما يؤكد لنا المؤلف في صفحة 196 - أنه جاء ليشهد أوربا وهي تتعفن، حيث داهمته رائحة الكرنب المسلوق وليس عبق الجوافة الاستوائية الذي كان على الدوام أثيراً بالنسبة لفؤاده وحواسه.

في الأسبوع الأول من يناير 1956 علم ماركيز بإغلاق صحيفة «الاسبكتادور» التي يعمل بها، وعلى الرغم من محاولته التقليل من أهمية هذا الحدث، فإنه كان بالغ الخطورة، فقد توقفت الشيكات التي كان يعيش عليها عن الوصول واعتباراً من أول فبراير لن يكون بمقدوره دفع إيجار غرفته في «أوتيل دي فلاندر». وعلى الرغم من أن مدام دي لاكروا، صاحبة الفندق ومديرته، سمحت له بالتأخر عن دفع الإيجار، إلا أنها ستنقل غرفته إلى طوابق أعلى فأعلى في البناية إلى أن يصل في نهاية المطاف إلى الإقامة في العلية التي لا تصلها التدفئة في الطابق السابع، وستتظاهر بنسيان أمره كلية، وهنالك سيجده أصدقاؤه عاكفاً على الكتابة، وقد وضع يديه في قفاز واستعان بحرملة صوفية على مواجهة البرد الضاري.

سيتقن ماركيز الفرنسية، في هذين العامين، وسيعرف باريس مثلما يعرف خطوط كفه، وسيتشرب روحها كالنسغ في عروقه، لكنه سيعرف أيضاً الجوع المضني، الذي يجبره على التقاط البقايا من سلال المهملات والنفايات، وسيعيش بملابس متواضعة وأحذية ممزقة.

الحقيقة الثابتة هنا هي أن ماركيز عاش ثمانية عشر شهراً في باريس على قيمة بطاقة عودته بالطائرة إلى بلاده ومعونات أقرب إلى هبات خيرية من أصدقائه وبعض المدخرات القليلة الباقية لديه، من دون أن يكون أمامه سبيل للعودة إلى كولومبيا.

في تلك الأيام الوحشية سيعكف على كتابة روايته «في ساعة نحس» بمزيد من الدأب والإصرار، من دون أن يعرف أن هذا الكتاب لن يقدر له أن ينشر إلا في عام 1962، وعلى الرغم من أن أحداثه تجري في المدينة النهرية الصغيرة التي التقى فيها لأول مرة مع مرسيدس، فإنها ستكون بعيدة تماماً عن الرومانسية وستتركز على العنف الذي شغل بال أبناء كولومبيا داخلها وخارجها على السواء.

لكنه سرعان ما سيجد أن الرواية التي بدأها وأحرز فيها تقدماً كبيراً تنزلق من يديه. وكما أن الحنين الذي جلبته رحلة له مع أمه كان الأداة التي دفعت إلى النور بكتابه «عاصفة الأوراق»، فإن شعوراً موجعاً مماثلاً هو الذي سيطلق كتابه الذي سيحمل عنوان «العقيد لا يجد مَن يكاتبه».

ماركيز والعرب

من المهم أن نلاحظ أن المؤلف يلفت نظرنا إلى الصلات التي ربطت ماركيز بالعرب في باريس، فهو ابتداء كان في مظهره يشبه العرب، وبالتالي كانت الشرطة تخلط بينه وبينهم، ولا ينبغي أن ننسى أن تلك كانت أيام حرب السويس والصراع على الجزائر، وهكذا فإن الشرطة الفرنسية قامت أكثر من مرة بإلقاء القبض على ماركيز في إطار الإجراءات الأمنية الدورية التي تتخذها ضد العرب المقيمين في باريس.

وكانت تلك هي الفترة التي اكتسب فيها ماركيز صديقاً جديداً هو أحمد الطبال، الطبيب الذي أطلعه على وجهة النظر الجزائرية حيال الصراع، وجعله ينخرط في العديد من الأنشطة الإيجابية لمصلحةالقضية الجزائرية.

يضع هرنان فيكو نهاية لمعظم متاعب ماركيز المالية بإقراضه مبلغ المائة وعشرين ألف فرنك التي يحتاج إليها لسداد ديونه المستحقة عليه من قبل مدام دي لاكروا.

قبل أن يرحل ماركيز عن القارة العجوز في 16 ديسمبر 1957 عائداً إلى العاصمة الفنزويلية للعمل في صحيفة «مومينتو» سيحدث له شيء أقرب إلى الأحلام أو إلى لحظة عبقرية في سيناريو ملهم، لسوف يلتقي بطله الأثير، آرنست هيمنجواي.

في يوم مشرق من أوائل 1957 سيلمح ماركيز هيمنجواي وهو يتنزه مع زوجته ماري ويلش في جادة سان ميشال في اتجاه حديقة اللوكسمبورج، مرتدياً سروالاً من الجينز، وقميصاً من طراز لامبرجاك، ومعتمراً قبعة بيسبول، وسيبادر وقد كبح الخجل جماحه، فلم يستطع الاقتراب منه، بينما كان أكثر انفعالاً من أن يلزم الصمت بمناداة هيمنجواي من الجانب الآخر من الطريق «يامايسترو!»، وسيهتف الكاتب الذي ألهمه عبر روايته «العجوز والبحر» كتابة «العقيد لا يجد مَن يكاتبه» في معرض الرد: «آديوس، أميجوا».

نهر التساؤلات

ربما يعمد بعض القرّاء الذين لا يتحمسون للاسترسال الهائل لمادة هذا الكتاب، إلى القفز من عودة ماركيز إلى القارة وصولاً إلى الجزء الثالث من الكتاب، باعتبار أن ذلك أحد المستويات الممكنة لقراءة هذا العمل، لكن ذلك من شأنه أن يعكس خطاً هيكلياً في متابعة العمل.

يرجع ذلك في المقام الأول إلى أن عامي 1958 و 1959 ومن ثم امتداداً حتى 1967 هما بمنزلة الجسر الممتد عبر جانب مدهش من الإبداع الحقيقي لأدب ماركيز، فتلك هي سنوات زواج ماركيز من مرسيدس بارشا ونشره لرائعته الجميلة «العقيد لا يجد مَن يكاتبه» وانطلاق الصحفي النشط للقاء كاسترو في يناير 1959 وكتابة «جنازة الأم الكبيرة». ونهاية المرحلة الواقعية، أو الواقعية الجديدة، بالنسبة لماركيز.

في المكسيك سنتابع جهود ماركيز في كتابة السيناريو، وبصفة خاصة السيناريو الذي كتبه لرواية رولفو «الديك الذهبي».

سنتابع أيضاً العام الذي استغرقه إنجاز «مائة عام من العزلة» من يوليو 1965 إلى يوليو أو أغسطس 1966، بما في ذلك العديد من الانقطاعات، وذلك على الرغم من أن ماركيز سيردد مراراً وتكراراً أن تأليف هذه الرواية تم إنجازه في ثمانية عشر شهراً، وأن مشكلته الكبرى في التعامل معها كانت في استهلالها.

هنا يطرح المؤلف مجموعة مهمة من التساؤلات - ص 297 - ما الذي حدث لماركيز؟ لماذا أصبح بمقدوره الآن بعد كل هذا الانتظار الطويل أن يقوم بتأليف هذا الكتاب؟

إن الإجابة عن مثل هذه النوعية من التساؤلات تمر بإدراك أنه في لحظة فريدة كلمعة برق عرف ماركيز أن عليه بدلاً من أن يؤلف كتاباً عن طفولته أن يكتب عملاً عن ذكرياته الخاصة بطفولته، بدلاً من أن يكتب عن الواقع ينبغي أن يدور الكتاب حول تقديم الواقع، بدلاً من كتاب حول أراكاتاكا وأهلها ينبغي أن يكون العمل كتاباً يتم سرده من خلال رؤية هؤلاء الناس للدنيا، وبدلاً من أن يحاول بعث أراكاتاكا مجدداً عليه أن يقول وداعاً لها، ليس بأن يحكي من خلال رؤية أهلها للدنيا، وإنما بأن يضع في الرواية كل ما حدث له.

في صبيحة يوم من أيام أغسطس اصطحب «جابو» مرسيدس إلى مكتب البريد القريب من دارهما لإرسال المخطوط المنجز «مائة عام من العزلة» إلى الناشر في بوينس أيريس، وكانت الرزمة تضم 490 صفحة مكتوبة بالآلة الكاتبة، وطالبهما الموظف باثنين وثمانين بيزو، لكنهما لم يكن لديهما إلا خمسون بيزو لاغيرها، ولم يكن بمقدورهما أن يرسلا إلا نصف المخطوط، وهكذا جعلا الرجل يستبعد الصفحات كأنها شرائح من اللحم المقدد إلى أن بقيت صفحات تكفي الخمسين بيزو لإرسالها، وعادا إلى الدار، حيث قاما برهن سخان ومجفف شعر وخلاط، وعادا إلى مكتب البريد ليرسلا باقي العمل، الذي قدر له أن يصبح أشهر رواية في النصف الثاني من القرن العشرين.

الشهرة أخيراً

تحت عنوان «الشهرة أخيراً» سنتابع أحداث العامين 1966 و 1967 اللذين شهدا النجاح المدوي لهذه الرواية وما جلبته من شهرة لمؤلفها على امتداد العالم بأسره.

تحت آفاق الجزء الثالث الذي يحمل عنوان «رجل العالم: الشهرة والسياسة 1967 - 2005» سنتابع انتقال ماركيز إلى إسبانيا، وندرك أنه إذا كانت مكسيكو سيتي قد ارتبطت بـ«مائة عام من العزلة» فإن برشلونة سوف ترتبط بـ«خريف البطريرك»، ووصول ماركيز إليها سيطلق تياراً قوامه قدوم كتاب أمريكا اللاتينية إلى إسبانيا.

بالتوازي مع متابعة المؤلف لإنجازات ماركيز الإبداعية، فإنه يقدم لنا مساهماته في الحركة السياسية النشطة على امتداد القارة، وبصفة خاصة دفاعه المستمر عن الثورة الكوبية، على الرغم من كل ما تعرض له قادتها من انتقادات.

ويدخل المؤلف في نفق طويل في غمار محاولته تفسير فوز ماركيز بجائزة نوبل للأدب وتأثير هذا الفوز على مجمل إبداعه وأنشطته.

وتحظى رواية «الحب في زمن الكوليرا» باهتمام كبير من المؤلف وبصفة خاصة من خلال انعكاسها على صقل رؤية ماركيز للعالم في مرحلة تأليفها، وينقل لنا اعتراف ماركيز له: «لقد كنت أتأمل «الحب في زمن الكوليرا»أخيراً، وقد دُهشت حقاً، فأحشائي كامنة هناك، ولست أدري كيف أفلحت في إنجازها وفي الكتابة عن هذا كله. وساورني - بالفعل - الشعور بالفخر بها، ومضيت أتصفحها. لقد اجتزت بعض الأوقات المغرقة في السواد في حياتي، في السنوات التي أعقبت جائزة نوبل، وغالباً ما اعتقدت أنني بسبيلي إلى الموت، فقد كان هنالك شيء ما، في الخلفية، شيء أسود، شيء تحت سطح الأشياء».

على الرغم من هذه السوداوية، وربما بسببها، فإن ماركيز يعود ليطرق أبواب الدنيا عبر رواية «الجنرال في متاهته» التي شرع في كتابتها فور الانتهاء من إنجاز «الحب في زمن الكوليرا».

وفي تطبيق مباشر للقاعدة التي درج عليها، كان ماركيز يعود إلى الكتابة، وهذه المرة ليقدم لنا «الحب وشياطين أخرى».

غير أن مسيرته الهادرة كان لابد لها من التمهّل إلى حد التوقف عندما لاح شبح سرطان الرئة في حياته وطرق أبوابه بالفعل، وأوشك أن يودي بحياته.

ويشاء القدر ألا تكون تلك هي النهاية، فقد انفتح المجال أمامه ليكتب روايته «ذكريات عن عاهراتي الحزينات» والأكثر أهمية أن يقدم لنا رؤيته الأكثر نضجاً وشمولاً للعالم من خلال مجلدات مذكراته التي حملت عنوان «أعيش لأرويها»، والتي يقول مارتن إنه كان يتحدث عنها منذ إصدار روايته العظيمة عن ماكوندو، ولابد أن ذلك قد أعطى القرّاء مفاتيح لمغاليق أعمق حوافزه باعتباره كاتباً، فالعودة إلى الوراء والكتابة عن نفسه كانت هي كل ما أراده.

والذين يتصوّرون أن جوهر رسالة مارتن عبر كتابه الممتد هذا تنتهي عند هذه المصافحة لـ «أعيش لأرويها» عليهم أن يعيدوا النظر فيما يتصوّرونه، لأن الصفحات القلائل التي يضمها مختتم الكتاب تحت عنوان «الخلود - سرفانتس الجديد 2006 - 2007» هي صفحات على جانب كبير من الأهمية.

رسالة ما قبل الرحيل

في هذه الصفحات، سنتابع الإعداد للاحتفال بعيد ميلاد «جابو» الثمانين، وعلى الرغم من أن مارتن يؤكد لنا أنه بدا واضحاً له أن ماركيز لم يعد بمقدوره أن يقدم المزيد من الكتب للعالم، إلا أنه كان بمقدوره أن يبعث برسالة أخيرة للدنيا في كلمته في هذا الاحتفال.

لقد فقد ملوك البوربون أمريكا اللاتينية في أوائل القرن التاسع عشر، والآن في هذا الحفل كان سليلهم الملك خوان كارلوس، عاهل إسبانيا، يبذل قصارى جهده لمصالحة القارة دبلوماسياً واقتصادياً.

الذين كانوا قريبين من المنصة التي جلس إزاءها ماركيز والعاهل الإسباني وكبار المدعوين، ومن بينهم بيل كلينتون وعدد من رؤساء كولومبيا، وبينهم الرئيس الكولومبي الحالي، لابد أنهم قد لاحظوا أنه عندما اقترب ماركيز من العاهل الإسباني وصافحه، فعل ذلك بالطريقة التقليدية التي يعتمدها طلاب أمريكا اللاتينية، والتي تتحدث عن مصافحة بين أنداد.

وعلى الرغم من أن هذا الكتاب الذي قدمه جيرالد مارتن يظل قادراً عل استقطابنا وإثارة اهتمامنا، وطرح التساؤلات بما يحلق به إلى مصاف أرقى الكتب في فئة سيرة الحياة، فإننا لا نملك إلا أن نرصد العديد من سلبياته.

وبينها الطول المفرط للكتاب الذي لا نجد له مبرراً إلا آليات العمل في إطار صناعة الأساطير الأدبية.

وثاني السلبيات يتمثل في الغموض الذي يلقي بظلاله على جوانب شتى من حياة المؤلف الكولومبي وإبداعه في مرحلة ما بعد ظفره بالشهرة المدوية على امتداد العالم.

وكما سبقت لنا الإشارة، فإن الارتباط العاطفي منذ البدايات المبكرة بين «جابو» وزوجته مرسيدس، يظل لغزاً يستعصي على المؤلف تفسيره دع جانب محاولة حلّه.

ونحن لا نعرف أبداً شيئاً عن السر الكامن وراء المواجهة الشهيرة بين ماركيز وفارجاس يوسا، التي توّجت بقيام هذا الأخير بتوجيه لكمة موجعة إلى ماركيز.

وهناك اختلال لا يمكن إلا أن يكون ملحوظاً بين سرد المؤلف لوقائع حياة ماركيز وبين الجهد الذي يبذله في إلقاء الضوء على أعماله الإبداعية.

ونشاط ماركيز الكبير منذ السبعينيات بصفة خاصة في مجال العمل السياسي على امتداد أمريكا اللاتينية، لا يمكن إلا أن يهيمن على سيرة حياته بصورة متصاعدة، لكن المؤلف لا يستطيع إلا أن يعرب عن استيائه حيال بعض جوانب هذا النشاط، وهو أمر لا يمكن فهمه بالنسبة للكثيرين.

أخيراً، فإن القارئ لابد له من أن يلاحظ أن مارتن يتابع ماركيز بإعجاب كلي الحضور، وهو أمر تبرره الجاذبية التي طالما اشتهر بها «جابو» وهي نفسها التي كان ينبغي أن تدفع المؤلف إلى وضع مسافة أكبر بينه وبين موضوع كتابه تحقيقاً للمزيد من الموضوعية في التناول.

على الرغم من ذلك كله، فإننا نظل أمام كتاب جدير بالاهتمام حقاً، ويملك القدرة على طرح علامات الاستفهام الأكثر أهمية، وعلى خوض مغامرة الإجابة عن العديد منها، وربما لهذا فإنه يستحق أن يلقى اهتماماً من المترجمين العرب الذين طالما سارعوا إلى ترجمة كل ما يحمل توقيع ماركيز أو يدور حوله.

 

 

 

جيرالد مارتن