مساحة ود

مساحة ود

صورة الكاتب

لفترة طويلة من الوقت، ظللت مشغولاً ومنبهراً بصورة الكاتب. كيف يكتب وما هي طقوس الكتابة لديه وما هي الظروف التي تؤدي إلى ظهور الفكرة وتبلورها، والظروف البيئية المحيطة التي تجعل عملية الكتابة سلسلة وسهلة لتخرج الكتابة نفسها جيدة. هل ظروف الكتابة الجيدة تصنع أدباً جيداً؟ أم لعلها الظروف الصعبة القاهرة التي تنضج الأدب؟

في فترة من الفترات، ترسّب لديّ اعتقاد، من كثرة قراءتي للأدب العظيم الذي كتب في السجون أعمال كثيرة لمصطفى أمين مثلا ولنوال السعداوي وصنع الله إبراهيم أن الأديب لكي يكتب جيدا يجب أن يدخل السجن! وتقريباً معظم الأدباء العظام من جيل الستينيات قضوا فترة من حياتهم داخل السجن. لكن ما الذي يجعل السجن يشحذ الهمة الأدبية بهذا الشكل؟ هل هو وقت الفراغ الهائل؟ بالفعل يوفر السجن وقت فراغ كبيراً بعد التحرر من قيود الوظيفة والأعباء الأسريّة، لكني أعود فأفكر أنه يكفي أن يجبر المرء نفسه على التفرغ للكتابة للحصول على وقت فراغ مريح ولا داعي لـ«البهدلة» في السجون!

ومما ساهم في تعزيز تلك الفكرة لديّ كتاب يوميات الواحات لصنع الله إبراهيم، الذي يحكي فيه عن العوامل التي صنعت منه كاتباً، خاصة تلك الأشهر التي قضاها في سجن الواحات، وقراءاته وتجاربه في الكتابة التي بدأها هناك. ويخبرنا أنه بعد أن خرج من السجن انتقل إلى غرفة صغيرة في مصر الجديدة بدأ فيها مشروعه ككاتب، ثم ينهي الكتاب بهذه الجملة البليغة الرائعة: «ففي غرفة مصر الجديدة والغرف التي تلتها كنت أتدبر أكبر مغامرة قمت بها في حياتي وهي أن أكون كاتبا».

هل الألم والقهر ينضجان الأدب بهذا الشكل؟ ربما، لكن صورة الأديب المسجون المقهور لم تعد تبهرني بعد أن تفرجت على صور لأدباء أجانب مليونيرات يكتبون في مكاتبهم المكيفة في الأدوار العليا من ناطحات السحاب ذات الواجهات الزجاجية التي تطل على المحيط، وهناك سكرتيرة بالخارج تبحث لهم عن الكتب والمعلومات التي يحتاجون إليها، والبوفيه يحضر ما لذ وطاب من مشروبات عند الضغط على الزر الذي على المكتب الفخم، أمامهم اللابتوب وبجوارهم سماعات ستريو بالريموت كونترول تسمعهم الموسيقى التي يحبونها. تبهرني أيضا الصورة التي تضعها جوان رولينج في الصفحة الافتتاحية لموقعها. أزرار الكيبورد والأوراق والصور واللبان والبونبون والديسكات. كل شيء مبعثر بطريقة خلاّقة! هذه هي صورة الكاتب التي أحببتها وأبهرتني، فلم أعد الآن منبهرا بالكاتب المسجون طويل الذقن الذي يقضي حاجته في الدلو ويكتب قصصه على أوراق التواليت.

هناك الكثير من القصص التي تدور في عالم الكتّاب، ويبدو أن فعل الكتابة يصيب مرتكبه بالجنون في النهاية! كثير جدا من قصص ستيفن كينج - كاتب الرعب الأشهر تدور في عالم الكتّاب وعاداتهم التي تنتهي بهم نهايات مرعبة. قصة «النصف المظلم» بطلها كاتب يصاب بانفصام في الشخصية ويخرج منه كاتب آخر كان يعيش بداخله ويكتب قصصا بذيئة. «النافذة السرية» بطلها كاتب يتخيل أن هناك شخصاً يتهمه بأنه يسرق قصصه منه. في «البريق» يصاب الكاتب جاك نيكلسون بالجنون ويظل عدة أشهر لا يكتب سوى جملة واحدة يكررها آلاف المرات على الورق. الكاتب فعلا معرض لكل هذه الأنواع من الرعب، لأنه شخص شارد طوال الوقت، يعيش في عوالم من صنعه الخاص، أي أنه قريب فعلا من عالم الشخص المصاب بالشيزوفرينيا. الكتابة في الغرب تستحق هذه المعاناة، لأن الكتابة عندهم تثمر أموالاً ومجداً وشهرة، أما عندنا فسيظل مصير الكاتب هو السجن أو الاكتئاب أو الإفلاس!.

 

 

 

ميشيل حنا