اللغة حياة.. النيابة الدلاليّة غير النيابة الإعرابيّة

اللغة حياة.. النيابة الدلاليّة غير النيابة الإعرابيّة

ظللتُ أحسب أنّ مصطلحَي «نائب المفعول المطلق» و «نائب المفعول فيه» المتنازَع في صحّتهما، مختَرَعان لبنانيّان، من صنع بعض متوسّطي المعرفة النحويّة، حتى وقعتُ على قولٍ لِلّغويّ السوريّ سعيد الأفغانيّ في ما ومهما وأيّ، وهو: «إذا دلّت (...) على حدث أُعربت نائبة عن مفعول مطلق»، وذلك في باب «جزم المضارع»؛ والطريف أنّه لم يقل هذا في باب «المفعول المطلق»!

ورأيت على مواقع ألكترونيّة كثيرة استعمالاً للمصطلح عينه. غير أنّ العلاّمة المجمعيّ، الشيخ مصطفى الغلايينيّ، تحدّث في مطلع القرن الماضي عن الأشياء النائبة عن المصدر فقال: «ينوب عن المصدر فيعطَى حكمه في كونه منصوباً على أنّه مفعول مطلق اثنا عشر شيئاً»، وكأنّه يرفض مصطلح «نائب المفعول المطلق». كما أنّ الدكتور عبده الراجحيّ، المجمعيّ المعروف، ينفي صراحةً صحّة المصطلح المومأ إليه وينكر وجوده، رائياً أنّ المفعوليّة المطلقة وظيفة يقوم بها المصدر، ولا ينوب ما ينوب عنه إلاّ في الدلالة على المفعول المطلق. وقد سألتُ أحد الزملاء عن مسوّغ استعماله هو لذلك المصطلح الحديث الذي لم يستعمله القدماء قطّ، فأجاب: «لأنّ المصدر مفعول مطلق، فما ينوب عنه نائب عن المفعول المطلق»؛ وهو منطق صوريّ مغلوط، على ما سنرى. ويقتضينا الأمر توضيح معنى النيابة وأنواعها عند النحاة للتفريق، بصورة خاصّة، بين النيابة في العمل والنيابة في الدلالة اللغويّة.

نستطيع أن نستنبط من أقوال النحاة عدّة ضروب من النيابة، هي: النيابة عن حركة، والنيابة عن كلمة، والنيابة عن مَحَلّ.

فأمّا الأولى، فهي أن تنوب حركةُ إعراب طويلة أو قصيرة عن حركة أخرى، كنيابة الواو والألف والياء، في الأسماء الستّة، عن الضمّة والفتحة والكسرة؛ وكنيابة الألف في المثنى، والواو في الجمع، عن الضمّة، إلخ. والأمر ينحصر، هنا، في العلامات، ولا يتجاوزها إلى المحلّ الإعرابيّ.

وأمّا الثانية، فهي أن تنوب كلمة مفردة أو جملة أو شبه جملة عن اسم بسيط أو مركّب، أو عن فعل؛ وتجري النيابة بين الأسماء المفردة إذا انتمت إلى أسرة معنويّة واحدة، يعود أكثرها إلى جذر واحد، كالاسم الجامد (ولاسيما المصدر) وما يضاف إليه من أسماء مبهمة (كلّ وبعض وغير)، وما يوصف به، وما يشتقّ منه، وما يرادفه، وما يتّصل به، وما يمكن أن يؤوّل بمعناه. كما تجري بين الأفعال وشبه الأفعال من الأسماء وأسماء الأفعال والمؤوّلات بمشتقّات. وقد تنوب الجمل ذات المحلّ الإعرابيّ وأشباهها عن الاسم المفرد، كالجمل الخبريّة والحاليّة والواقعة مفعولاً به أو مضافاً إليه أو صفة. وهذه النيابة تفيد علاقاتٍ دلاليّة محضة، لا أثر لها في العمل الإعرابيّ، أي في المحلّ. والأسماء المنضوية تحتها تحتلّ موضع الرفع فتُرفع، والنصب فتُنصب، والجرّ فتُجرّ، من غير تفريق إعرابيّ بينها؛ فعبارة «بعض الوقت»، قد تنوب عن كلمة «الوقت»، مع الدلالة على الجزئيّة، لكن ليس لهذه الدلالة من أثر نحويّ؛ فنحن نقول: الوقتُ ثمينٌ، وبعضُ الوقت ثمينٌ، نرفعهما على الابتداء؛ وإنّ الوقتَ ثمينٌ، وإنّ بعضَ الوقت ثمينٌ، ننصبهما بإنّ؛ وانتظرت وقتاً، وانتظرت بعضَ الوقت، ننصبهما على الظرفيّة الزمانيّة؛ والتضحية بالوقتِ، والتضحية ببعضِ الوقت، نجرّهما بِمَنْ؛ وما أشبه ذلك. والجملة وشبهها تؤوّلان بمفرد، كقولنا: جاء عصامٌ يختال، حيث تؤوّل الجملة المؤلّفة من «يختال» وفاعله بالحال المفردة «مختالاً».

وأمّا الثالثة، فهي الوحيدة التي تتّصل بالمحلّ الإعرابيّ، ولها مفهوم خاصّ عند النحاة العرب، وهو وقوع الاسم في محلّ مختلف عن محلّه الإعرابيّ الأصليّ، لا على سبيل التبعيّة لصاحب المحلّ، بل على سبيل إلغائه. وهم لم يختاروا من تلك النيابة إلاّ ما يُفترض أنّه نيابة المفعول به عن الفاعل، فسمّوه نائباً له أو عنه. فحين يُلغى الفاعل ويُعدّ مجهولاً، أو حين لا يُسمّى، وفق تعبير القدماء، يحتلّ المفعول به مكانه؛ وهو مكان لا يكون محتلُّه إلاّ مرفوعاً. ففي التصوّر النحويّ العربيّ أنّ الفعل يلزمه فاعل، بالضرورة، والفاعل مرفوع، فإذا أُلغي الفاعل فلا بدّ من اسم مرفوع آخر يشغل مكانه، وهو في هذه الحال المفعول به، فينتقل من حال النصب إلى حال الرفع. وقد سمّوه نائب فاعل، لا فاعلاً، للتفريق بين ما يكون فاعلاً أصيلاً، وما يصبح فاعلاً للضرورة المحليّة، لاعلى الحقيقة.

لكنّ النحاة لم يُدخلوا في النيابة عن المحلّ سائر الحالات المشابهة، مثل المفعول به المنصوب بنـزع الخافض (حرف الجرّ)، فهو مجرور أصبح منصوباً بسبب حذف الجارّ، نحو قول الآية الكريمة: «واختارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعينَ رَجَلاً»، وأصلها: مِنْ قومه؛ ولم يُدخلوا عكس تلك الحالة أيضاً، مثل المفعول به غير الصريح، نحو: ذهبَ الطمعُ بالطامع؛ فالطامع مجرور لفظاً منصوب محلاًّ، على أنّه مفعول به؛ وقريب من ذلك المجرور بحرف جرّ زائد، أو شبه زائد، نحو: رُبَّ ضارّةٍ نافعةٌ، حيث «ضارّة» مجرورة لفظاً مرفوعة محلاًّ على أنّها مبتدأ. ولم يدخلوا، أخيراً، الحال السادّة مَسَدّ الخبر، وإن استعمل لها ابن عقيل عبارةً ملتبسة هي «النائبة مناب الخبر». لعلّهم لم يدخلوا كلّ ذلك في النيابة المحليّة لأنّ الاعتبار بقي للمحلّ، ونُسب التغيير الطارئ إلى اللفظ؛ أمّا الحال السادّة مسدّ الخبر فبقيت منصوبة لم تنتقل إلى الرفع، ومع ذلك كاد بعضهم يجعل لها نيابة محليّة.

والمهمّ أنّ الأسماء التي تنوب عن المصدر في المفعوليّة المطلقة، وعن الظرف في المفعول فيه، تدخل في الضرب الثاني من النيابات، أي ما سمّيناه النيابة عن كلمة، وتقتضي الانتماء إلى أسرة معنويّة واحدة، تسمح للأسماء المتناوبة أن تقوم بالعمل نفسه، أو تخضع للعمل نفسه، أي لمحلّ إعرابيّ واحد. فهي ليست، إذن، نيابة عن محلّ، كنيابة المفعول به عن الفاعل. ولذلك لايجوز، وفق التصوّر النحويّ العربيّ، أن يسمّى أيّ منها نائباً عن المفعول؛ ولعلّه من أجل ذلك اجتنب القدماء تلك التسمية. والحقّ أنّ الإشارة إلى تلك النيابة، في هذين البابين، أسلوب في تعداد الأنواع الصالحة للمفعوليّة. وقد اختار النحاة في أبواب أخرى، كباب المبتدأ والخبر، مثلاً، أسلوباً مختلفاً، فعرّفوا المبتدأ بأنّه اسم أو ما هو بمنـزلة الاسم (الجملة المؤوّلة باسم) أو وصف؛ وكان بوسعهم القول: «هو الاسم المجرّد عن العوامل، وتنوب عن الاسم الصفة والجملة المؤوّلة بالاسم»، فلا يختلف المعنى؛ أي أنّ الأمر مجرّد أسلوب في التعبير وليس اصطلاحاً دقيقاً.

 

 

 

مصطفى الجوزو