جمال العربية
جمال العربية
غازي القصيْبي شاعر الرمال والبحار والنجوم منذ عشرين عامًا، أتيح لي أن أطّلع على المجموعة الشعرية (الكاملة) لغازي القصيبي، حاملة إهداءه الرقيق. كانت صورته الشعرية في مرآة نفسي قد تشكلت ملامحها الأولى من خلال قصائد متناثرة، تابعتها له هنا وهناك. لكن المواجهة بسبعة دواوين مرة واحدة كانت كفيلة بحملي حْملاً إلى تخوم عالمه، والاقتراب من أسرار بوْحه وأشجانه، والتأمل طويلاً في أعماق واحدة من أصفى التجارب الشعرية الكبرى في حياتنا الشعرية العربية المعاصرة، وأكثرها شفافية ونقاءً وعذوبة. في عالم غازي القصيبي وفي المستقر البعيد من وجدانه تتداخل دوائر الرمال والبيد، وليالي الغوص واللؤلؤ، وآفاق الشموس والنجوم، صانعة بحرًا شعرياً من طراز فريد، شطئانه محتشدة بالوجوه والشخوص والمواقف والخبرات والعذابات والمعانيات، وثبج أمواجه يتصاعد وينبسط، ويجيش ويهدأ، في معادلة تحاكي حياة الشاعر وتوازيها، وتفرض عليه التقلب بين جزر ومدٍّ دائمين، جادّاً وهازلاً، مقبلاً ومعرضًا، راضيًا وساخرًا، وهو في كل حالاته يفتنّ في صنع عباءته الشعرية على عينيه، حريصًا على النأي بنفسه وبشعره عن الشعراء الذين خايلوه في الماضي البعيد وفي الحاضر القريب، وفي مقدمة هؤلاء عمر بن أبي ربيعة القرشي، ونزار قباني الشاميّ. هل نستطيع أن نضع أيدينا على بعض مفاتيح هذا العالم الشعري الثريّ وأسراره ؟ ربما عثرنا على بعض ما نبغي ونحن نتأمل قصيدته المبكّرة «حُبُّنا»: ليس كالنار، ولا كالريح *** حُبُّنا يشرق في عينيْكِ *** حُبُّنا يهمس في ثغرك لحنًا *** حُبُّنا يا أجمل الأقمار هذه قصيدة عمرها أربعون عامًا كما تقول مجموعته الشعرية، لكنها تحمل قدرة الشاعر الفذة في يسرٍ وتدفق واضحين دون مشقة أو إعنات، على أن يبدع لوحته الشعرية ويطرّزها برائع الصور، وأن يسكب نشوته بحميّاه الشعرية إيقاعًا جياشًا غامرًا، يحمل كلماته ويطير بها ويهزّ وجدان المتلقي بفوران هذه النشوة فيشارك فضاءَ قصيدته، ويعيد تشكيلها في نفسه، بنفسه، من جديد. لماذا لم أذكر من الشعراء القدامى والمعاصرين سوى عمر بن أبي ربيعة ونزار قباني؟ هل لأن في شاعرنا غازي «مسًّا» منهما معا ؟ نعم أولهما اجتذب الشاعر والإنسان فيه بالخروج على المألوف، والتقاليد، والأسوار، وتسلّح بقرشيته من أجل الترويج لبضاعة شعرية جديدة على ذوق زمانه، وأرسى دعائم عالمه الشعري متكئًا على لغة عربية غير حوشية أو مستهجنة ممعنة في الفصاحة وإشراق الصياغة وروعة البيان، بعيدة عن العُجْمة والفهاهة والعجز عن الإبانة. أما ثانيهما فقد شغل غازي شعريّاً، في مرحلتيه الأنثوية الهموم والشواغل، والسياسية الطرْح والموقف، ويبدو أن أكثر ما استوقف غازي في شعر نزار، هو قدرة الأخير البارعة على استحداث لغة تناسب أوساط الناس، وهي كما سمّاها صاحبها كستور الفقراء الشعري، وسريان هذه اللغة على الألسنة والأقلام سريان النار في الهشيم، لكن فتنتها مقصورة على القراءة الأولى، ولا تمنح من خلال قراءاتها التالية ما يُعوّض جهد المقاربة، أو مشقة المعاودة، وتظل الكشوف الأولى هي أهم ما يخرج به قارئ القراءات التالية. لكن شاعرنا غازي استطاع أن يفلت من أسْر اللغة «الصحفية» التي هي مقتل الشعر وإن تكن لأول وهلة صاحبة الفوز في سباق المتسابقين. ثم لا تلبث الغفوة أن تزول، وحين ينكشف الغطاء لا يبقى من الشعر وهو إبداع باللغة في الأساس ما يحفظ عليه دوام كيميائه ونفاذ جبروته وتأثيره. في قصيدته «العودة إلى الأماكن القديمة» ما يشعرنا بأننا قريبون من أنفاس نزار في قصيدته النونية الشهيرة التي يذوب فيها حنينًا واشتياقًا إلى دمشق وجبلها الرابض «قاسيون». البحر الشعري والقافية والنغم والمسار الشعري، كأنها جميعًا نزارية لكننا سرعان ما نكتشف المسافة بين العالمين الشعريين، والخصوصية البارزة لكل منهما، وإخلاص غازي الصادق لموطنه ومفردات عالمه وبيئته في البحرين. يقول غازي القصيبي: عدتُ كهلاً تجرّه الأربعونُ أما قصيدة نزار قباني وعنوانها «ترصيع بالذهب على سيف دمشقي» فيقول فيها: أتُراها تُحبّني ميْسونُ النغم الهادر في القصيدتين، والقافية المتدفقة شجنًا وأسًى ولوعة، والبحر الشعري الواحد وكأنه اتفاق، كلُّ هذا لا يحجب عنا أنّ كلا من القصيدتين لها نكهتها ومذاقها، وفضاؤها المختلف، المرصّع بنجوم تسكن الفضاء الشعري للشاعرين .ولأن جمال العربية في شعر غازي القصيبي هو موضوعنا اليوم، فإني أختتم الحديث ببديع من جمالاته حين يقول: أريد أن تمنحيني الموت والكفَنا *** أوّاهُ حبُّكِ في روحي يطاردني ويظلّ غازي القصيبي شاعر الرمال والبحار والنجوم.
|