الأطفال «الذاتويون» دمجٌ لا إقصاء

إلى أن نلتقي

قاعدة بلا استثناء

تذكرني واقعة مقتل الصيدلانية المصرية مروة الشربيني وإصابة زوجها معاوية في مدينة درسدن الألمانية، بمسرحية «القاعدة والاستثناء» للكاتب الألماني «برتولد برخت»، ولا اعتقد أن برخت قد تصور أن مسرحيته الرمزية يمكن أن تصبح واقعاً، وبرخت لمن لايعرفه هو شكسبير المسرح الألماني، وقد ابتدع أسلوبا مسرحيا يقوم على إلغاء الفاصل الوهمي بين الجمهور وخشبة المسرح، حتى يحدث نوعاً من التفاعل بين الممثل والمتفرج، وأطلق عليه اسماً متواضعاً هو المسرح التعليمي، وتدور مسرحية «القاعدة والاستثناء» عن تاجر قاس يخرج في رحلة طويلة، وفي صحبته تابع ذليل، يقوم على خدمته ويتحمل قسوته في صمت وخضوع، ثنائية السيد والتابع التي تتكرر على مر العصور، ثم يقع التاجر مريضا، ويستيقظ التابع في منتصف الليل ليجده يهذي من الحمى والعطش، فيحمل له الماء، ولكن السيد يعتقد أنه يحمل حجرا يريد قتله به، فيتناول مسدسه ويبادر بقتله، وفي المحاكمة يدافع التاجر عن نفسه، بأنه قام بالشيء المنطقي، لقد أساء لتابعه كثيراً وقسا عليه، من الطبيعي إذن أن يكرهه التابع ويتمنى قتله، هذه هي القاعدة التي فكر بها التاجر، وهو يرى التابع قادماً نحوه في الظلام يحمل شيئا ما، إنه قادم لينتقم لكل الإهانات التي لحقت به، ولم يفكر في الاستثناء وهو أنه يحمل له الماء والحياة، لقد قتله وفقا للقاعدة دفاعا عن نفسه، من ذا الذي يبالي بالاستثناء، وقد اقتنعت المحكمة بهذا المنطق وظفر ببراءته، تحولت هذه المسرحية، كما قلت، إلى واقعة حقيقية على خلفية من التعصب والعنصرية البغيضة، الحكاية معروفة ووقائعها مازالت معروضة على المحاكم الألمانية ،كانت مروة مبعوثة مع زوجها معاوية لتحضير الدراسات العليا في مجال الصيدلة، وكانت محجبة، وهذا في حد ذاته تهمة في نظر الكثير من أهل الغرب الكرام، وعندما كانت تتنزه مع ابنها، اشتبك معها مواطن ألماني من أصل روسي، يبدو أن الفودكا قد لعبت في رأسه، وانهال عليها بالسباب متهماً إياها بأنها إرهابية وقاتلة، كانت ألفاظه بذيئة وقاسية لدرجة أن بقية رواد الحديقة من الألمان شهدوا لمصلحتها، لجأت مروة للقضاء، وكسبت القضية في الجولة الأولى، ثم عادت وكسبتها في الاستئناف، فلم يرض الحكم هذا الرجل، أخرج سكينه وهجم على مروة وأخذ يطعنها في جنون، أمام القضاة وأمام زوجها معاوية وابنها الصغير، طعنها سبع عشرة طعنة على مدى تسع دقائق دون أن يتحرك أحد، تدخل زوجها لينقذها فبادره عاشق الفودكا بثلاث طعنات هو أيضاً، وأخيراً تدخل أحد حراس بوابة المحكمة من الخارج، لم يبال بالسيدة العربية الملقاة على الأرض، ولا الرجل الأبيض الهائج الذي يمسك سكينا، ولكنه عمل بالقاعدة العامة وهي أن كل عربي إرهابي، وقاتل محتمل، لذلك فقد وجه مسدسه للزوج المطعون على الفور وأطلق عليه الرصاص، الوجه قد أصبح تهمة كالحجاب، لا يوجد استثناء للعربي الطيب المجني عليه، إنها المركزية الأوربية، التي تحدد الرؤية النمطية التي تنظر بها أوربا لكل ما هو غير أوربي، لقد نجحت إسرائيل في تغيير نظرتها لليهودي، فنمط اليهودي المرابي البخيل الذي لا يتاجر إلا في المال، ويقتطع لحم الآخرين كما صوره شكسبير، تغيرت إلى صورة أخرى، هو اليهودي المحارب الذي يعمر الأرض الخراب التي انتزعها من العرب المتخلفين، ولكن نظرة أوربا للعربي المسلم لم تتغير منذ الحروب الصليبية، بل إنها ازداد سوءا، فمقاومة الشعب الفلسطيني للذين يحتلون أرضه إرهاب، وحصاره جائز، وقصفه مرحب به، ومقتل أي فرد منه لا يستحق حتى الاعتذار، وألمانيا لم تعتذر لمقتل مروة حتى الآن، ولا أظنها ستفعل.

 

 

 

محمد المنسي قنديل