رسول حمزاتوف: قثيارة داغستان الأصلية مكارم الغمري

شاعر وفنان.. ولد على جبال القوقاز من قومية مسلمة، وترجمت أشعاره إلى سائر أنحاء العالم، ارتبط بتراثه وثقافته، وظلت علاقته بالتراث الشرقي هوية راسخة، واستمدت أشعاره من جبال داغستان الرمز للوطن والحرية والعزة القومية.

على سفوح سلسلة جبال القوقاز الموجودة بين أوربا وآسيا، بين الشرق والغرب تقع جمهورية داغستان السوفييتية (سابقا)، وهي جمهورية ذات حكم ذاتي في إطار روسيا الاتحادية، وتعيش فيها قومية مسلمة تعدادها لا يتجاوز نصف مليون نسمة، وتتحدث عدة لغات إحداها اللغة الآفارية.

وفي إحدى قرى داغستان الصغيرة وهي قرية "تسادا" ولد الشاعر رسول حمزاتوف في أسرة أدبية تشرب فيها حب الشعر في سن مبكرة، فقد كان والده الشاعر الشعبي الداغستاني حمزاتوف تساداسا، الذي تربى رسول على أشعاره: "حين كنت صغيرًا جدًا كان والدي يصحبني معه، وكان يقرأ لي أشعاره، ولذا كنت أحفظ عن ظهر قلب أشعاره قبل أن أتمكن من ركوب الحصان وارتداء الحزام، وكان الجيران الكبار والتلاميذ يجبرونني على قراءة أشعار والدي قبل أن تنشر في الصحافة".

ويعكس إنتاج الشاعر حمزاتوف تساداسا الأب سمات إنتاج الجيل السابق لشاعرنا رسول حمزاتوف، وهو الجيل الذي ينتمي إنتاجه إلى العقود الثلاثة الأولى من القرن الحالي، ذلك الوقت الذي كان لا يزال فيه الأدب الداغستاني مرتبطًا بشكل وثيق بجميع أشكال الفلكلور الداغستاني وتقاليد الشعر الشرقي.

والأدب الداغستاني من الآداب الحديثة نسبيًا، فطريق تطوره يمتد على رقعة زمنية تبلغ حوالي ثلاثة قرون، بالإضافة إلى ذلك فقد ظهرت الطباعة في داغستان في نهاية القرن الماضي، وكان الأدب الداغستاني حتى ذلك الوقت ينتشر بشكل شفهي، وقد كانت الثقافة الداغستانية واقعة تحت تأثير اللغة والثقافة العربية حتى نهاية القرن الماضي، وقد بدأ هذا التأثير العربي في ثقافة داغستان منذ القرن السابع عشر واستمر على امتداد القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ويتضح تأثير الثقافة العربية في داغستان - على نحو خاص - في كتابات المنورين الداغستانيين التي بدأت في الظهور منذ نهاية القرن الماضي، وقد لعب هؤلاء المنورون دورًا كبيرًا ومؤثرًا في الواقع الاجتماعي والثقافي في داغستان في فترة نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي.

ويعكس إنتاج حمزاتوف تساداسا علاقة جيل الآباء بتراث الشرق. لقد كان أبناء هذا الجيل شديدي الارتباط بتقاليد الثقافة الشرقية والتراث القومي الداغستاني، وقد تأثر إنتاجهم بالشاعر الداغستاني محمود الذي لعب دورًا كبير في ازدهار الشعر الغنائي الداغستاني.

وتعتبر فترة الثلاثينيات من القرن الحالي بمثابة مرحلة انتقالية بالنسبة للعديد من الآداب السوفييتية القومية ومنها أدب داغستان، ففي تلك الفترة اشتد الجدل حول مستقبل الثقافة السوفييتية الجديدة ومكانة التراث القومي بها، وظهرت بعض آراء متطرفة عبرت عنها جماعة "البراليتكولتي" (اختصارًا للأحرف الأولى من عبودية البروليتاريا) والتي كانت تنادي بنبذ التراث القومي في محاولة منها لقطع الجسور بين ماضي القوميات وحاضرها.

وقد أثيرت قضية التراث القومي بشكل رسمي في أول اجتماع لاتحاد الأدباء السوفييت (عام 1934)، وقد دعا الأديب مكسيم جوركي في هذا الاجتماع إلى ضرورة الاهتمام بالتراث القومي للآداب والحفاظ عليه، وفي إطار هذه الدعوة رأى البعض في التراث وسيلة فعالة لخدمة أهداف الثورة السوفييتية من خلال إعادة صياغة المضامين الفلكلورية المحبوبة في الآداب القومية وتوظيفها في الأهداف الدعائية للثورة. وقد كان للجدل المثار بشأن مكانة الفلكلور في الثقافة السوفييتية الجديدة انعكاساته في الآداب القومية السوفييتية التي تبلورت بها اتجاهات متباينة بالنسبة للتراث. اتجاه يرى طريق تطور الأدب القومي في الالتحام بالثقافة السوفييتية الجديدة بصرف النظر عن العلاقة بالتراث، واتجاه ثان يرى هذا الطريق في الانغماس كلية في التراث، أما الاتجاه الثالث فقد حاول المواءمة بين التراث القومي ومتطلبات الثقافة السوفييتية الجديدة، وقد انعكس الاتجاه الأخير في إنتاج رسول حمزاتوف الذي تشكلت ثقافته من روافد أدبية متعددة.

رسول حمزاتوف.. بين ثقافتي الشرق والغرب

قضى رسول حمزاتوف فترة التعليم الأساسية في قريته الداغستانية، ثم أكمل تعليمه المتخصص في المعهد الأدبي في موسكو، وهو المعهد الذي كان يضم صفوة الطلاب من أصحاب المواهب الأدبية من جميع الجمهوريات السوفييتية (سابقا)، وقد كان لفترة الدراسة في المعهد الأدبي في موسكو أثرها في تكوين ثقافة رسول حمزاتوف الأدبية، وهو ما أشار إليه في سيرته الذاتية: " لقد فتحت لي موسكو والمعهد الأدبي أسرار الشعر غير المرئية، فكنت أغرم بالتناوب بشعراء مختلفين، تارة بالشاعر بلوك، وتارة بالشاعر مايكوفسكي، أحيانا بالشاعر يسنين، وأحيانا بباسترناك، تارة بالشاعر تسفيتايفا، وتارة بالشاعر باجريتسكي، أحيانا بالشاعر الآفاري محمود، وأحيانا بالألماني هيتة، لكن حبي للشعراء الروس بوشكين وليرمونتوف ونيكراسوف ظل إلى الأبد لا يتغير".

إن جيل رسول حمزاتوف هو ذلك الجيل الذي رضع من ثقافته القومية الشرقية، ثم شب ينهل من مشارب ثقافية متنوعة منها الثقافة الروسية التي كانت لها مكانتها الخاصة عند الشاعر رسول حمزاتوف فأشار إليها بصفتها واحدة من اثنتين يعتبرهما بمثابة الأم: "إحداهما تلك التي ولدتني وهدهدتني، والثانية التي أعطتني صدرها، وأخرجتني إلى طريق الحياة. الأولى هي بلدي داغستان حيث ولدت وعرفت لغتي الأم، والأغنية، وتذوقت أول كسرة خبز، وحيث كانت أعشاب جبال موطني ومياهه تداوي أمراضي وجروحي، كل هذا ولج إلى الشحم والدم والوعي وإلى الأبد. أما الأم الثانية فقد كبرتني وربتني، أعطتني أجنحة، فتحت لي باب الشعر على مصراعيه، وأشعر دائمًا بهدهدتها وحبها. إنني وأشعاري ندين لكل أم منهما، فالشاعر الآفاري محمود والروسي بوشكين كلاهما ينظر من جدران حنجرتي".

ولكن رغم تعرف رسول حمزاتوف على الثقافة الروسية والثقافات الأوربية الأخرى فقد ظلت علاقة الشاعر بالتراث الشرقي قوية راسخة، فمعرفة الآخر لم تكن تعني بالنسبة له الانفصال عن الموروث الشرقي، فالشرق - وكما يؤكد رسول حمزاتوف - قد شيد أدبا عظيمًا عمره آلاف السنين، وأعطى العالم أعظم الأدباء والمفكرين.

وقد عكست أشعار رسول حمزاتوف سمة المزج الحكيم بين الثقافة الأوربية المكتسبة والشرقية الموروثة، وعملية المزج هذه لم تحدث بشكل عفوي بل تبدو انعكاسًا لمنهج واع يسعى إليه الشاعر للموازنة بين الأنا والآخر. إن الذات المنفصلة عن جذورها هي ذات مهتزة، وكذلك الأدب - في مفهوم حمزاتوف - حين يتوقف عن التغذية بغذاء آبائه، وينتقل إلى أطباق أخرى أجنبية، ويستبدل طباعه ولغته، وطابع شعبه فإنه يذبل ويعتل.

غير أن عملية الموازنة بين القديم والجديد حقيقة - كما يؤكد حمزاتوف - عملية معقدة تتطلب من الأديب المقدرة على عبور حد التجربة الفنية للماضي بشكل غير ملحوظ بحثًا عن الجديد، والمضي نحو الجديد مع المحافظة على القديم.

وتتجسد علاقة رسول حمزاتوف بالماضي التراثي من خلال اهتمامه بفلكلور داغستان، فالتراث الشعبي هو ذلك النبع الحي الخالد الذي تنعكس فيه صورة الشعب ويحُتفظ به بذلك الذي صمد أمام الزمن ورسخ في الوعي والذاكرة الشعبية.

قدم رسول حمزاتوف إسهامات عملية في الحفاظ على فلكلور داغستان بالمساهمة في إصدار سلسلة من الشعر الغنائي الشعبي الداغستاني، لكن الاهتمام الأكبر بالتراث الشعبي الداغستاني قد ظهر في أشعاره التي تجسد موهبة الاستيعاب الإبداعي لعناصر التراث القومي الذي كان يمثل المنبع الأساسي بالنسبة لجيل الآباء، ثم جاء جيل رسول حمزاتوف وطور من استخدامات الفلكلور باستلهام عناصره وإعادة تجسيدها من خلال وسائل أسلوبية وتصويرية حديثة، ومن ثم بات تأثير الفلكلور على الأدب أكثر تعقيدًا. وتعد الأساطير الشعبية الداغستانية من أهم عناصر لفلكلور الداغستاني التي تأثر بها حمزاتوف في إنتاجه فهو يرى فيها "الشاهد الخالد على ثراء فكر، وعظمة هدف، وبطولة شعبه الصغير"، "واستلهام الأسطورة في أشعار رسول حمزاتوف هو بمثابة نافذة للتأمل في الحاضر: "أنت يا أساطير في مقدورك الإجابة عن الكثير من الأسئلة التي تؤرق الأديب حتى يومنا هذا، فيك يا أساطير يمتزج البناء البسيط الرشيق بالمضمون الفكري العميق".

وقد انعكست عناصر الفلكلور في أشعار رسول حمزاتوف في العديد من مؤلفاته - خاصة - في المرحلة المبكرة ومنها مجموعات أشعاره "أغاني الجبل"، "عام ميلادي"، "قلبي في الجبال"، "الجبلية".

ولا يقتصر استلهام رسول حمزاتوف لعناصر الفلكلور الداغستاني على المرحلة الأولى من إنتاجه، بل يمتد إلى مراحل إنتاجه المختلفة، ففي مجموعة أشعاره "أساطير" التي صدرت عام 1972 يستلهم رسول حمزاتوف الأساطير الشعبية الداغستانية مثل الأسطورة المعروفة عن البطل الشعبي "خوتشبار" الذي تعكس صورته روح الصمود والاحتجاج ضد الظلم، وترمز إلى الأخلاق الشعبية الداغستانية التي قوامها الشرف والشجاعة.

وتتجسد سمات الروح الشعبية الداغستانية - كذلك - في مجموعة أشعار رسول حمزاتوف "داغستاني"، وهي المجموعة التي تنعكس بها صور الداغستانيين، نمط معيشتهم وعاداتهم. لقد تمكن رسول حمزاتوف في هذه الأشعار من إعطاء صورة بانورامية لداغستان، ففيها - وحسب وصف الناقد ابالكين - " توجد قبل كل شيء داغستان، يوجد التاريخ والمعاصرة، يوجد الشعر وتوجد الحياة، يوجد الفلكلور وتوجد العادات القديمة والطباع، توجد طفولة الشاعر وصباه وشبابه، يوجد العالم المرئي من المنحدرات الشامخة من الجهات الأربع كلها، توجد الأساطير والامثولات".

الجبليون: رمز الحكمة والبطولة

تستمد أشعار رسول حمزاتوف الكثير من أسرارها ورموزها عن الجبليين، سكان جبال داغستان. إنالجبليين في أشعاره هم رمز الحكمة الموروثة، والبطولة، والتجربة الإنسانية الثرية القادرة على فهم لغة الأرض والطبيعة. إن صورة الجبليين عند حمزاتوف تستوعب بداخلها الكثير، فهي تعني الإقدام، حب الوطن، الحرية، العزة القومية، الإصرار والمثابرة.

وقد انعكست صور الجبليين في الكثير من أشعار حمزاتوف - خاصة - في مجموعتي أشعاره "أساطير"، "الجبلية". إن إنسان الجبل في أشعار حمزاتوف هو النموذج الذي يقيس عليه الشاعر صور المعاصرين.

ويوضح المقطع التالي من قصيدة "ثمانية" ملمحًا من المقابلة بين الجبليين والمعاصرين التي نلمسها في أشعار حمزاتوف:

في القديم كان الأجداد يكتبون
بلا عجالة على الخناجر وبالخناجر
ذلك، الذي أجاهد
بالقلم لأعبر عنه بالكلمات المترهلة.
الأجداد على الأحصنة المشعثة
كانوا يقفزون إلى المعركة بعد وداع الحبيبات
وكانوا يكتبون على الأحجار بالدم
ذلك، الذي أجاهد لأكتبه بالمداد.

الثقافة الداغستانية: إلى أين؟

سبعون عامًا عاشتها الثقافة الداغستانية في كنف الثقافة السوفييتية التي كانت تنادي بفكرة "الأممية" في الثقافة، وبضرورة انتقال الآداب القومية السوفييتية من "القومي الخاص" إلى "السوفييتي العام" تحت شعار وحدة مصير الآداب السوفييتية، ووحدة طريق تطورها في إطار منهج الواقعية الاشتراكية.

وقد كان هناك قدر من الاستفادة حصلت عليه الثقافة الداغستانية عن الثقافة الروسية التي لعبت دور الثقافة الأم بالنسبة لكل الآداب القومية، ولكن، بالمقابل كانت هناك مشكلة تتعلق بضياع الهوية القومية بكل ما تمثله من جوانب دينية وحضارية.

واحدة من قصائد رسول حمزاتوف الأخيرة التي ظهرت في أواخر عام 1990 تعكس قلقه على داغستان المعاصرة التي خبرت عالم الفضاء لكنها ابتعدت عن الروح الداغستانية الأصيلة، فأجيال داغستان الجديدة شبت لا تعرف لغة داغستان وعاداتها. القصيدة بعنوان "آه ياجبليون" وقد اخترت منها المقطع التالي لنقرأ معا جانبًا من هموم الشاعر:

أنت هضابي، ماذا حدث؟
رغم أنك مسست أبراج الفضاء
لكن جباهك مهمومة
في أسفل: آمالك وهمومك

آه ياناصيتي الجبلية، انظري إلى الأطفال.
إنهم أملك ودعامتك
ولكن الأطفال. لا يجيبون، لمن هم:
إنهم لا يعرفون لغة وطنهم

فهل ستشهد الأعوام القادمة في داغستان عودة جديدة إلى المنابع الداغستانية الشرقية الأصيلة؟

السنوات التالية - ربما - تحمل إلينا الإجابة عن هذا الاستفسار.