الكويت.. وأدب الحرب

رجال مؤسسون

حديث الشهر

حديثي هذا الشهر يبدو وكأنه قد اختار موضوعه بنفسه. فتداعيات الذكرى في هذا الشهر حركت داخلي إحساساً طالما راودني عبر تجوالي الحياتي والمعرفي في أرجاء عالمنا العربي. فلطالما أحسست. دون تحيز. بأن التربية السياسية الأيديولوجية التي سادت في العقود الخمسة الأخيرة وتشربتها أجيال من المثقفين والقراء العرب ـ لم أكن بعيداً عنهم ـ قد حبست في أطرها الرؤى حبساً لم يتح للرائي حرية كافية ليتعرف كامل الصور ودقائقها.

ومع الاهتزاز الأخير لكثير من الأيديولوجيات التي كانت سائدة ـ ولا أقول بزوالها ولا أدعي كامل تخطئتها ـ صار واضحا أن حبس الرؤى في جمود الأطر الأيديولوجية قد حرمنا من استلهام خبرات عربية عريقة واستخلاص دروس غالية من ماضينا كان يمكن أن تساهم بالكثير في استنقاذ الحاضر أو على الأقل تقويته بدعامات من الأصول والجذور.

لا تقتصر هذه الملاحظة على ما حدث في الشأن المعرفي لمنطقة الخليج العربي وحدها. بل هي عامة تنداح لتشمل الشأن المعرفي لكثير من مواطن تراثنا السياسي والاجتماعي والثقافي البعيد والقريب. لكن مناسبتي هذا الشهر في الكويت ـ ذكرى الاستقلال عن مغير بعيد وذكرى التحرير من مغير قريب ـ واتفاقهما مع زمن مراجعتي ـ بعد القراءة الأولى ـ للكتاب المهم عن المرحوم الملك عبد العزيز ـ طيب الله ثراه. للأستاذ عبـد العزيز بن عبدالمحسن التويجري. قد حددت تمثيل ملاحظتي بما حدث من الجور المعرفي لهذه المنطقة لدى القارئ العربي العادي خارجها.

إن المعادلة أمامي بسيطة وشديدة الوضوح. وهي كذلك لكل مدقق عادل. فالذي حدث في منطقة شبه الجزيرة العربية والخليج العربي أن مدنا زاهرة مريحة لساكنيها قد اشرأبت من الرمال القاسية. ولسنا في حاجة الى الاختلاف حول أن تهيئة حالة مدنية أرقى للإنسان في معيشه اليومي هي حالة حضارية. هذه الحالة الراهنة تجعلنا نعود مباشرة لتذكر المؤسسين الأوائل الذين كانوا ـ على الأقل ـ نبضة البدء في بناء ما وصلت إليه هذه المنطقة. ومن ثم فهم أجدر بالأولوية في عملية الإنصاف المعرفي الذي أدعو إليه.

المؤسسون

تتزاحم الكتب على رفوف المكتبات بالعشرات التي تتحدث عن حياة وسيرة المرحوم الملك عبد العزيز بن عبدالرحمن آل سعود طيب الله ثراه. وأي متابع لتاريخ هذه المنطقة (الجزيرة والخليج) سوف يلاحظ أن رجلين تزامنا في فترة مهمة هي السنوات الأخيرة من القرن الماضي والسنوات الأولى من هذا القرن العشرين ليؤسسا دولتين برغم كل الظروف القاهرة التي أحاطت بهذا التأسيس والتثبيت. أحدهما هو الشيخ مبارك الصباح الذي انتقل إلى رحمة الله سنة 1915 وقد أسس حكماً وبنى دولة. والثاني هو الملك عبد العزيز الذي انتقل إلى رحمة الله سنة 1953. وقد أرسى دولة مركزية تبلغ مساحتها 2.250.000 كيلو متر مربع (1) ويزيد دخلها السنوي من النفط وقت وفاته رحمه الله على مائة مليون جنيه استرليني. وفي الفترة التي تزامن فيها الرجلان وهي السنوات الأخيرة من القرن الماضي والسنوات الأولى والعصيبة من هذا القرن. تعاضد أحدهما بالآخر وشاور عبدالعزيز ـ وكان شاباً يافعاً متطلعاً إلى تاريخ طويل من المعارك والانتصارات وبناء دولة ـ مبارك الذي خبر السياسة في أعصى مراحلها وأدق منحنياتها التاريخية. فقد كانت المنطقة بكاملها تودع عصراً وتستقبل عصراً آخر انطوت في لياليه المفاجآت. وفي أيامه التحديات.

هذه العلاقة يصفها أحد المعاصرين الغربيين للرجلين وهو ستانلي ماليري الطبيب في الإرسالية الأمريكية في الكويت بقوله:(2)

(كان يرأس الكويت الكهل العظيم الشيخ مبارك الصباح. فهو صانع الكويت الحديثة. وهو رجل يتمتع ببعد الرؤية والمقدرة الكبيرة. وكانت تساعده حكومة قديرة. وكان النظام والهدوء سائدين ليلاً ونهاراً. وقد امتد نفوذ مبارك إلى الصحراء. وكان شيخ العشيرة الحقيقي. يدين الملك ابن سعود العظيم بالفضل في تدريبه المبكر للشيخ مبارك. لأنه أمضى حداثته في الكويت وقد أحب مبارك ذلك الشاب الصغير وقام ضمناً ببلورة شخصيته في تلك الفترة المهمة من حياته).

شخصية مبارك التي كتب عنها المؤرخون تظهر بوضوح في رده على (ماليري) في نفس ذلك الكتاب عندما اقترح عليه الأخير أن يقيم سوراً حول الكويت فقال له باقتضاب: أنا سورها.

وتمثل في ناظري ـ ونحن نطوي السنوات الأخيرة من القرن العشرين ـ تحديات ذاك الزمن الصعب الذي لم يوجد به نفط ولا أمم متحدة. وإنما واجهت مخاطره عزائم الرجال وتصميمهم على بناء الدول والحفاظ على الأوطان.

الكتابة الرؤية

عندما وصلني كتاب الصديق الكبير الأستاذ عبد العزيز بن عبدالمحسن التويجري وعنوانه (لسراة الليل هتف الصباح) استبشرت خيراً. فليس أفضل من هذا الوقت وهذا المقام للإطلالة على عصر بذرت فيه البذور ورسخت فيه الأوتاد. وقد خصص الكاتب كتابه لدراسة عصر الملك عبد العزيز وأعماله من زاوية لم يتناولها من كتب قبله. سعدت به وقرأته. كما قرأت بهذه المناسبة عددا من الكتب التي تناولت ذلك العصر وسيرة هؤلاء الرجال.

ولعل الملاحظات التي دارت في خاطري وأنا أقرأ هذه السيرة بقلم رجل ليس سياسياً فقط. ولكنه أديب متمكن جزل العبارة. صادق التعبير. تمحورت حول مجموعة ملاحظات منها:

الملاحظة الأولى: أن هذا الكتاب ليس بكتاب تأريخ ولابكتاب سيرة ـ كما يُعرف التأريخ والسير ـ وإنما هو رؤية عبد العزيز بن عبدالمحسن التويجري بعد كل هذه المسيرة الطويلة التي رافق فيها رجالا تاريخيين لمرحلة تاريخية أراد أن يستخلص منها العبر والدروس قبل أن يقصها بتفاصيلها الكثيرة والمتشعبة والصعبة والمرة في آن. والمتراجعة والمنتصرة في آن آخر. أراد أن يقص تلك القصة كما يفهمها لا لنعرف التاريخ ولا ليعرف الجيل الحالي والقادم السيرة ولكن أيضاً ليستخلص منها العبر والدروس. فالكتاب ليس كتاباً عن الماضي فحسب. ما آراه هو كتاب عن المستقبل أيضاً وعن التحديات الواقفة بباب ذاك المستقبل.

الملاحظة الثانية: أن يعهد التويجري بنشر كتابه إلى دار الريس للطباعة والنشر وصاحبها رياض نجيب الريس الذي يكتب مقدمة للكتاب وهو رجل يخوض في السياسة ويهيم بالنشر. كما أنه صاحب كتابين (رياح الشمال) و(رياح السموم) الذي لم يوفر فيهما ـ كما في غيرهما من كتاباته ـ من الملاحظات القاسية على تجربة أهل الخليج والجزيرة. وأن يعهد الناشر بعد ذلك. وربما بإيحاء من المؤلف إلى شخصية مثل محمد حسنين هيكل بكتابة المقدمة العامة للكتاب وهو صاحب المواقف السياسية المعروفة. ولعل آخرها كتاب (المقالات اليابانية) الذي صدر تقريباً في نفس توقيت صدور كتاب (لسراة الليل هتف الصباح). وهو لم يوفر أيضاً في ذاك الكتاب ـ كما في كتب ومقالات أخرى ـ نقداً لاذعاً لتجربة أهل الجزيرة والخليج في أكثر من مقال من تلك المقالات اليابانية. أقول أن يجمع المؤلف بين هذا وذاك في مقدمة كتابه. فهذا ينبئ عن شخصية محاورة للكاتب ومنفتحة على عصره وقادرة على تحييد من كانت مصادرهم غير دقيقة أو غير منصفة أو الاثنين معاً. وهو دليل على الوثوق بقوة الحجة وسلامة التوجه وعظمة النتائج. وصلابة المنطلق.

الملاحظة الثالثة: لقد ترك المؤلف الوصول المباشر إلى الأهداف القريبة إلى تحقيق الأهداف البعيدة. فالكتاب ليس موجهاً لتحقيق الدعاية والكسب الإعلامي بقدر ماهو موجه إلى وضع الحقائق في نصابها الصحيح. وكل من عرف عبـد العزيز بن عبدالمحسن التويجري عرف قيمة بعد النظر التي يتميز بها وفهمه المحيط بالكليات. وقدرته على بناء الجسور. فالتاريخ بحر عريض يفسره البعض من زوايا مختلفة وانتقائية أيضاً. وهو عندما يسرد تاريخ الرجل العظيم عبد العزيز بن عبدالرحمن آل سعود لا يتوجه إلى التبشير. ولايفصل البشري عن البطولي. ولايلقي الدرس من علٍٍ دون الولوج إلى الأسباب. ولا يزهو بالانتصار بعيدا عن الأهداف الثابتة والأصيلة لذلك الانتصار وهو انتصار إسلامي سمح. فهو يقول في مقدمة كتابه:

(إن من التقوا والملك عبد العزيز على الطريق الواحدة. هم منا وإلينا. ولانرى في تاريخنا الواحد منتصراً أو مهزوماً ولا غالباً أو مغلوباً. إنه مبدأ خلقي متسامح استخلصناه من السيرة العظيمة للملك عبد العزيز وحرصنا على اتباعه).

الملاحظة الرابعة: لقد استخلص المؤلف من جوهر موقف الملك عبد العزيز حول التحالف والقبول بالآخر والصفح عند المقدرة. درساً واضحاً في حياة الكاتب. عمل به. ويريد أن يشيعه في جيل اليوم والغد أيضاً. فقد قال:

(صار مخالف الأمس ـ لعبد العزيز ـ من أجل قرىة أو مدينة أو سلطة وهمية جليس عبد العزيز ـ آنذاك ـ ونديمه ومحل تقديره واحترامه).

وهنا يُلمّح المؤلف بكل تهذيب وتواضع ودون ادعاء. أنه يتبنى هذا الموقف الأخلاقي العظيم. دون أن يتنازل عن وجهة نظره ولنا في ذلك إشارة مهمة. فعندما لمح المؤلف الأستاذ محمد حسنين هيكل في مقدمة الكتاب يقول:

(إن عبد العزيز التويجري لم يزعم لنفسه أنه يقدم بحثاً في التاريخ. ولعله جمع بين منهج البحث وبين فن الأدب فقدم رؤيته لإنسان ولمحارب ورجل دولة... والكتاب في حقيقته قصيدة حب من أول نظرة ـ كما يقولون ـ فالمؤلف عاشق لبطله).

عندما لمح المؤلف ذلك المعنى في المقدمة رد عليه بلباقة تليق به فقال:

(ولئن كان من واجبي أن أشكر للأستاذ هيكل عميق رؤيته للملك عبد العزيز وتجرده في موقفه منه. ومن الدولة التي أسسها. فإنني لا أرى في موقفه هذا غرابة. فالرجال الكبار أمثاله. كما رأيناهم في التاريخ عشاقاً للبطل خلدوه بقصائدهم).

صنعوا من الرمال مدنا زاهرة

فهمي لهذه العجالة الحوارية بين مقدم الكتاب ومؤلفه أن هناك حواراً جاداً دائراً وواضحاً لكل ذي بصيرة يقول: إن عشق البطل في التاريخ ليس مثلبة. المثلبة في نتائج أعمال هذا البطل أو ذاك. فإن من عمر من الرمال بلداً وسقى زرعاً وأنبت رجالاً وخلف دولة لا يستوي مع من خرب في الوديان الخصيبة مدناً تسلمها زاهرة وأحالها إلى متاهات من الشقاء لساكنيها.

بهذه الملاحظات أختتم الجانب الخفي من قيمة هذا الكتاب. وأنتقل إلى جانبه الظاهر.

قبل أن يدخل بنا المؤلف إلى بداية هذا القرن وبدء مسيرة عبد العزيز بن سعود الطويلة والظافرة يستخلص دروساً عدة من قرن مضى. قرن دالت فيه كثير من الدول وتصادمت فيه إرادة القيادات. فالقرن التاسع عشر شهد رحيل دولتين في الجزيرة العربية. والعبرة التي أثار حولها المؤلف تساؤلاته تتجه إلى محصلة مفادها أن تفرق الكلمة هو مدخل لايخطئ. مدخلاً آخر مضمونا للتداعي والتفكك. ويصبح المُلك والدولة نهباً وغنائم للآخرين.

مفتتح القرن في وسط الجزيرة نرى منظراً كئيبا ودولة قيل عنها إنها خرجت من التاريخ ورحلت إلى القفار. ووضعا محليا وإقليميا بالغ التداخل والتعقيد. فقد نَعِمَ من تقاسم التركة. وأصبح مدافعاً عن مصالح صغيرة. واعتقد أن ماهو قائم دائم. وظهرت شوكة التحزب المكاني والقبلي. ولم يكن لأي خيال أن يتصور أن ذاك الملك والمنعة يمكن أن يعودا.

لقد تنقل الإمام عبدالرحمن الفيصل وأسرته في أكثر من مكان في شرق الجزيرة العربية إلى أن استقر في الكويت. كويت مبارك الصباح الذي خبر السياسة ومداخلها. واحتضن عبد العزيز كواحد من أبنائه وعرف في ذلك الفتى النجاعة والذكاء والمقدرة. ويصف لنا المؤلف ذلك الشاب الفتي عبدالعزيز بقوله: (شاب وسعت مداركه الغربة. وأرته ما لم يره أو يحسه لو كان في قصري كسرى وقيصر. شاب لم يدخل التاريخ إلا بعد أن عرف ما التاريخ وأدرك أن الحياة الفانية قصيرة. مثلما أدرك أن ("ذكر الفتى عمره الثاني").

وبقي عبدالعزيز ـ في الكويت في أحسن المصادر ـ ستة عشر عاماً. الكويت الميناء الطبيعي للجزيرة العربية ومفترق الطرق السياسية وقتها بين إمبراطورية آفلة وصبح آخر مبشر باستقلال ومنعة. ورأى مبارك مؤسس الدولة الكويتية الحديثة وهو يخلص هذا الكيان من براثن الطامعين. نظر وتفكر واختزن كل شموخ أجداده وصلابة مجتمعه وصدق دعوته.

وقصة انتقال عبد العزيز من المنفى إلى السلطان قصة لو رواها الناس عن شخصية ضاربة في التاريخ لخالوها أسطورة أكثر مما هي حقيقة. فكيف يستطيع شخص في مثل سنه في بداية القرن مع بضعة عشر نفراً من خلصائه وبعزيمة لايفلها الحديد أن يقرر ويسير إلى قلب حكم أجداده. والجزيرة كلها نهب للصراعات والتحزبات. إمارات صغيرة وكبيرة متشربة بالعزلة. يتوزع جنود الدولة الكبيرة وقتها (تركيا) على التخوم. وقبائل في الصحراء لاتعرف للقانون حدوداً إلا قانونها الخاص. ولا للأمن حرمة إلا أمنها. في هذا المسرح الواسع يتسلم عبدالعزيز الرسالة بهدف واحد هو توحيد هذه الفرقة تحت علم التوحيد. فصار توحيد الله في السماء وتوحيد الدولة في الأرض هدفين لايفترقان.

مسيرة التأسيس

ومع فتح الرياض في مطلع القرن (1901)* الموافق 1319 هـ يسير عبد العزيز مع المجد مسيرة طويلة. فترتها الزمنية في البناء والتأسيس ثلاثة عقود كانت على التوالي: توحيد نجد الصغرى. ثم امتدادها الطبيعي الأحساء في العقد الأول من المسيرة. ثم عموم نجد وتلاها الحجاز. وتوجت بإعلان الدولة سنة 1932. المملكة العربية السعودية. بعض هذه المسيرة لم تكن حرباً ونصراً بالمعنى المادي. بل كانت حرباً ونصراً بالمعنى المعنوي أيضاً لثلاثة أسباب: أولها العدل الذي اشتهر به عبد العزيز بين القبائل أبناء الحضر والبادية على السواء. وثانيها التوحيد ونبذ الفرقة. وثالثها الأمن الذي تاقت إليه النفوس. وتحكى في عدله قصص وحكايات كان لأجداده الأوائل فضل ترسيخها. فقد أخبرنا عبد العزيز التويجري في كتابه هذا أن سعود بن عبد العزيز بن محمد (الكبير):

(لم يسمح لأولاده بممارسة أي نفوذ في الشئون العامة إلا عبدالله. ويذكره سكان مكة بالخير والفخر والثناء).

وينقل لنا ابن بشر قبل ذلك بفترة عن سجايا أمير الدرعية عبد العزيز بن محمد بن سعود حيث:(أتى إليه خمسة وعشـرون حملاً من الريالات. فمر عليها وهي مطروحة. فنخسهـا بسيـفـه وقال: اللهم سلطني عليها ولاتسلطها عليّ... ثم بدأ في تفريقها)(1).الأمر الذي أكده عبدالعزيز بن عبد الرحمن بـعـد ذلك في مسـيرته. فقد نقل إلينا (مكـلـوغن): أن أحد أفكـار عبدالعزيز الرائدة هي أن (الجود لا يفقر)(2).

أما عدل عبد العزيز فينقله لنا أمين الريحاني في كتابه المشهور (ملوك العرب) وهو وصف طبيعي شائق منذ كان بصحبة الملك في العقير وهي قرية صغيرة وقتها على ضفاف الخليج بين الحسا والقطيف. وقد روى لنا الريحاني أن عبدالعزيز وقد أخذ يراقب قافلة أناخت عند خيمة المونة تحمل الخضر والزاد للمخيم. فأمر أن يُحضر قيّمها. وسأله سؤالاً بخصوص جمل من الجمال. فقال القيم: هو حرون يا طويل العمر. فقال السلطان (الملك) اتركه يرعى مع الجيش (مجموع من الإبل العائدة إلى المعسكر). لا ترجعه معك. ثم يكمل الريحاني ـ فيقول ـ ثم عاد إلى حيث وقف في الحديث فاستأنف قائلاً: العدل عندنا يبدأ بالبل ـ الإبل ـ ومن لا ينصف بعيره يا حضرة الأستاذ لا ينصف الناس.

العدل والزهد والتصميم هو الذي أَهَلَ بطـل عبد العزيز التويجري للبطولة ويعترف الكاتب:

(إن العصر وأهله لايحتملون البطل. وأتساءل عن حيرة البطل في التاريخ وهو يرى الأمور العظيمة تتقدم ثم تتعثر منذ مائتي سنة... عند من لم يفهمه ولم يفهم دوره).

شخصية عبد العزيز

يصف أمين الريحاني الملك عبد العزيز بقوله:

(السلطان عبدالعزيز طويل القامة مفتول الساعد. شديد العصب. متناسق الأعضاء. أسمر اللون. أسود الشعر. ذو لحية خفيفة مستديرة وشارب. له من السنين سبع وأربعون. وله في التاريخ ـ تاريخ نجد الحديث ـ مَجْدٌ إذا قيس بالأعوام تجاوز السبع والأربعين والمائة. يلبس في الصيف أثواباً من الكتان بيضاء. وفي الشتاء (قنابيز) من الجوخ تحت عباءة بنية. وهو ينتعل. ويتطيب. ويحمل عصا من الشوحط. له أنامل طويلة لدنه يشير بها في موقف البلاغة. وله عينان عسليتان تثيران أماكن العطف واللطف ساعة الرضا. وتصرمان في كلامه ساعة الغيظ نار الغضب).

ويصفه شاهد عيان غربي آخر هو (ماليري) الطبيب الذي عاش في الكويت منذ مطلع القرن حتى منتصفه تقريبا. يصف لنا الدكتور (ماليري) زاوية أخرى من شخصية عبد العزيز. فقد جاء الملك بعد فتح الأحساء إلى الكويت للقاء صديقه القديم مبارك الصباح. وكان ذلك هو اللقاء الأخير بين الصديقين العظيمين سنة 4191. ومرض بعض رجال ابن سعود بالحمى فأرسل مبارك الطبيب إلى معسكره ويصف لنا الطبيب ابن سعود. وهو في ريعان شبابه فيقول:

(كان ابن سعود شخصية بارزة حقاً. يزيد طوله على ستة أقدام. وكان يرتدي ثوباً أبيض طويلاً وفوقه عباءة بنية مزركشة بخيوط ذهبية وكان يضع على رأسه حطة ذات عقال مزدوج. وكان حافي القدمين إذ ترك حذاءه عند الباب (باب الخيمة) وكان يبدو في صحة جيدة وقدرت عمره بخمس وثلاثين سنة. وكانت كل ملامحه ـ وجهه وجسده ـ تعبر عن الذكاء والنشاط والتصميم والقوة. وكان وجهه جميلاً يتسم مع شهرته بالورع والتقوى. وجه رجل عرف كيف يهذب نفسه. وعرف معنى الصوم والصلاة. وأخيراً كان واضحاً أنه أرستقراطي. ومن المرجح أن كل الأوربيين والأمريكيين الذين تعرضوا لتأثير هذا العربي البارز سيصفونه بالصفات نفسها. كما أن تاريخه خلال السنوات الخمس والثلاثين الماضية يدل على صحة انطباعاتي الأولى عنه).

وصف واضح مباشر لا لبس فيه ولاتزلف.

مدنية مبكرة

هل كان نسب عبد العزيز كافياً لتحقيق ما حقق? يذهب العديد من الكتاب الغربيين خاصة إلى ما أسموه (عصبية القبيلة) في نشوء الدول. ولعل ذلك عائد لفهمهم للتحليل الخلدوني. ولكن الرأي أن عبد العزيز قد أنشأ دولة وبنى وطنا لابسبب العصبية القبلية. ولافيما يذهب إليه البعض من روح البداوة. فقد اعتمد عبد العزيز على الحضر والتحضير. والإسلام منذ نشأته هو دين مدينة ومدنية. بل للقرآن وصف في الأعراب لايشجع على القول إن مدنية أو مدينة يمكن أن تعتمد عليهم. وعلينا من زاوية التبيين والتمحيص أن ننظر إلى موضوعين: الأول ما نقله عبد العزيز التويجري في كتابه. فقد قال:

(قيل إنه التقى جمع من أمراء القبائل عند الملك عبد العزيز في يوم من الأيام وأخذت كل قبيلة تفاخر بنسبها وتعتز. ففوجئ الملك عبد العزيز بسؤال من أحد الحاضرين: ماهو نسبك يا عبدالعزيز? من أي القبائل أنت? فنادى أحد رجاله وقال: آتني بسيف ومصحف. ثم قال: نسبي هذا السيف به أخدم هذا الكتاب الكريم. فإني لا أرى لي نسباً غير هذين). أضاف التويجري (لم يفاخر بنسبه الرفيع).

أما الموضوع الثاني فنقله الريحاني عندما قص علينا تطوراً آخر لهذه الفكرة المركزية عند عبدالعزيز. يقول: (قرأت مرة في حضرة السلطان (عبد العزيز) ما كتب فوق بابه:

لسنا وإن كرمت أوائلنا

 

يوماً على الأنساب نتكل

ويلاحظ الريحاني أن البيت جاء مغلوطاً من حيث المبنى فهو يقول إنه للمتوكل الليثي وصحته:

لسنا وإن أحسابنا كرمت

 

يوماً على الأحساب نتكل

إلا أن المعنى واضح فقال الريحاني مخاطباً عبد العزيز:

ليس أشرف منه مبدأ يا مولاي. ولا أجمل منها حكمة. وإني أجلكم وأحترم أهل نجد لأنهم يعملون بهذه الحكمة.

المعنيان لدى عبد العزيز التويجري والريحاني يتقاطعان لإثبات شيء واحد أن بناء الدول يحتاج إلى أكثر من الحسب الطيب وإن حضر. يحتاج إلى العزيمة وسياسة الأمور والترفع عن الصغائر دون وضع السيف في موضع الندى.

واحد من اهتمامات الملك عبد العزيز التي أهملت من بعض المؤرخين هو الاهتمام بالتوطين أو المدنية. فقد وجد أن هذا التحضير يرسخ الإسلام الصميم ويبني الدولة. فكانت (الهجر) وكانت الواحدة منها مكتفية ذاتياً تقريباً ومستعدة للدفاع عن الدولة الوليدة. كان هدفه تسكين البناء القبلي في نسيج الدولة. الهدف الذي لم يفطن إليه الآخرون إلا بعد ذلك بوقت طويل.

في بداية العشرينيات عندما زار الريحاني نجد لاحـظ على عبدالعزيز أنه (يقوم بتخضير البلد وتأسيس المدن ويستخدم من يحسن الخدمة مهما كان مذهبه).

هذه الحسنات لعبد العزيز كان مناوئوه يرومون تغييرها. فقد تحداه البعض إن كان ينوي الخير ـ كما نقل لنا التويجري ـ فعليه أن يفرق هذه الجماعات (الهجر) بعد أن جمع أهلها. ويتركهم للبداوة والجهل متفرقين في الصحراء. وهي دعوة سلبية كما نرى. ينظر عبدالعزيز إلى المستقبل وهم ينظرون إلى الماضي.

ومما ذكره (لزلي مكلوغن) في كتابه الموسوم (ابن سعود) ويؤكد هذا التوجه أن الملك عبد العزيز لم يذعن ولم يتحول عندما انشق عليه بعض مؤيديه عن اتجاهه الثاقب نحو المستقبل. وكان هذا مستمداً من خبرة أجداده الذين هاجمتهم مدافع العثمانيين في الثلث الأول من القرن التاسع عشر.كانت تكنولوجيا متقدمة وقتها. لم يعرفها أهل نجد. ولكن عبد العزيز كان يعرف أن العلم هو مفتاح العصر. وعندما قاومه بعضهم بسبب أبسط أشكال التحديث. استعان بالإيمان والصبر دون تنازل عن التحديث فاستخدم بصيرته كي يدخل دولته إلى العصر الحديث.

ومن ثاقب نظرته إلى المستقبل أنه استخدم عقول الرجال بصرف النظر عن مسقط رأسهم. وهاهم نعدهم للتاريخ (حافظ وهبة (مصري) عبد الله الدملوجي (عراقي) يوسف ياسين (سوري) وفؤاد حمزة (لبناني) وغيرهم). فنرى كوكبة منهم قدموا إلى الرياض إيمانا برسالة الرجل وإيماناً بالهدف الذي يسعى إليه. فاحتضنوا فكرته ووالوه وأخلصوا له النصح فأخلص لهم الوفاء. على الرغم من أن بعضهم ـ بسبب مشورته ـ أثار ردود فعل سلبية لدى الرسميين البريطانيين كونهم (قانونيين دقيقين. بل حرفيين حتى العظم).

كنوز الجذور

هذه المنطقة لها كنوزها الإنسانية الخاصة وخصوصيتها الثقافية. وهي تتقاطع مع خصوصيات عربية أصيلة. ونظرة على التفاعلات الإنسانية للدفعة الأولى التي رسخت بناء الدولة على ضفاف الخليج وفي قلب الجزيرة تفسر لنا مدى أصالتها وقوتها وجذور ما حدث بعد ذلك وما يحدث اليوم من بناء مجتمع متماسك وقادر على مقاومة تحديات مشهودة. فقد أصبحت هذه المنطقة تعج بالمدن الآمنة المريحة نسبيا وسط عالم كبير مضطرب. ليس لأنها بلاد مترفة. أو لديها فائض مالي. فهناك البعض لايزال برغم ثراء أرضه وعنفوان إنسانه يرزح تحت طائل الهموم غير المنقطعة. هذه دول نتيجة حكمتها السياسية ذات الجذور الصلبة استثمرت مصادرها في بناء المجتمع المدني. فبناء المدن يكشف عن عمق إنجازاتها مقارنة مع كيانات عرفت في بداية هذا القرن مجتمعات مدنية وهي تتحول في نهاية هذا القرن إلى عشائر وبطون.

ولعلي هنا لا أذيع سراً فقد قابلت منذ أكثر من سنة رجلا عربياً له مساهماته الثقافية وله خبرته. هو الأستاذ معن بشور في بيروت. وكان عائداً لتوه من الرياض بعد أن حضر مهرجان الجنادرية السنوي قال لي: (لقد شاهدت في المملكة العربية السعودية ما سرني. ولقد أسفت على أننا أردنا أن نحرق المراحل فخسرنا الماضي دون أن نكسب المستقبل.أما التجربة في الجزيرة العربية فقد أسست على الماضي وتطاول البناء في الحاضر)

هذه الشهادة لاتتوقف عند كونها إشادة عادلة بالحاضر. بل برجال الماضي المؤسـسين الذين لايزالون يعيشـون بجليل أعمالهم وطيب سيرتهم في الحاضر.

وإذا كان الكتاب الأساسي في هذه المراجعة يتتبع سيرة المرحوم الملك عبد العزيز. فإنه يحيلنا إلى رجل كبير آخر هو المرحوم الشيخ مبارك الصباح. فكلاهما تقارب حياة وعقلاً في فترة مهمة من عمريهما الجليلين ـ طيب الله ثراهماـ.

كلاهما أخذ من الصحراء وضوحها وشدة عزمها. ومن الحاضرة الاطلاع على محاورات السياسة وعصف رياحها. وكلاهما طالب باستقلال بلاده بعيدا عن الهيمنة في فترة حرجة كانت حبلى برياح التغيير السياسي في العالم.

إنهما نموذجان كبيران لذكاء الفطرة العربية الصافية. وشدة العزم النابع من الجذور والأصول. وهما صاحبا فراسة سياسية لاشك في قدرتها على اجتياز امتحان الزمن بنجاح كبير. والدليل واضح ملموس. ينطق به الحاضر الزاهر برغم كل الاشتباكات والالتباسات والضغوط على هذه المنطقة.

 

محمد الرميحي

 
  




غلاف الكتاب





الملك عبدالعزيز آل سعود مؤسس الدولة السعودية الحديثة





الشيخ مبارك الصباح مؤسس الكويت الحديثة





يعتقد انها أول صورة فوتوغرافية أخذت للمرحوم الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود في الكويت 1910