المأزق العربي.. والمشروع الصهيوني

المأزق العربي.. والمشروع الصهيوني

بعد قرابة قرنين من الزمن على بداية النهضة العربية الأولى في عهد محمد علي باشا في مصر, هناك من يؤكد أن أيا من الشعارات التي أطلقتها تلك النهضة لم يتحقق حتى الآن. وقد دفع الباحث العربي المعروف فوزي منصور بهذه المقولة إلى حدها الأقصى حين نشر كتابا مهما منذ سنوات قليلة بعنوان: (خروج العرب من التاريخ). أي أن العرب لم يعجزوا فقط عن التأثير في حركة التاريخ الكوني في القرنين التاسع عشر والعشرين بل فقدوا القدرة على مواكبة التطورات الكبرى فيه.

لا يتسع المجال لمناقشة مثل هذه المقولات السجالية التي انتشرت في العقد الأخير من القرن العشرين, وبشكل خاص بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية السابقة, لتبشر بـ : (نهاية عصر الأيديولوجيات), أو (موت القومية العربية), أو (نهاية التاريخ والإنسان الأخير), أو (صدام الحضارات) أو النظام الشرق ـ أوسطي الجديد, أو عصر العولمة الأمريكية وغيرها.

إلا أن الشعارات الأساسية التي أطلقتها النهضة العربية الأولى حول الديموقراطية, والوحدة القومية, والأمة العربية الواحدة, والحرية, والاشتراكية, والتنمية الشمولية, ونفط العرب للعرب, وإزالة المشروع الصهيوني عن الأرض العربية, والسوق العربية الواحدة, وغيرها الكثير بقيت مجرد شعارات لم تحقق, وخفت بريقها وقل استخدامها بعد انخراط جميع الأنظمة العربية في مفاوضات السلام مع إسرائيل تبعا لمؤتمري مدريد وأوسلو اللذين ترعاهما الولايات المتحدة الأمريكية, وموافقة معظم الدول الكبرى في العالم.

دخل العرب مرحلة التفاوض السلمي مع العدو القومي من موقع العجز عن تحقيق الشعارات القومية التي تعطي المفاوض العربي القدرة على انتزاع مكاسب أكبر على طاولة المفاوضات.

ومازال العجز العربي يغري إسرائيل بالتصلب في مواقفها, ورفضها لكل أشكال التنازلات السياسية والجغرافية, مع الإصرار على استغلال مرحلة الضعف العربي لتحقيق خطوات ملموسة على طريق بناء إسرائيل الكبرى, حربا أو سلما, في ظروف دولية تلقى فيها إسرائيل الدعم الأمريكي الكامل على حساب الحقوق الأساسية للعرب.

فعصر العولمة وتفرد الولايات المتحدة الامريكية بالسيطرة على العالم لا يعطي العرب أية فرصة للتسليح الحديث بهدف القيام بحرب نظامية ضد العدو الصهيوني. لكن حرص الأمريكيين على منع حرب إقليمية بين العرب وإسرائيل خوفا من تدمير شامل لهذه المنطقة الاستراتيجية والبالغة الأهمية بالنسبة للاحتكارات العالمية, لا يمنع تمسك العرب بحقوقهم الأساسية المشروعة في مواجهة التعنت الإسرائيلي ورفض حزب الليكود تنفيذ الاتفاقيات الدولية التي تم التوصل اليها في مدريد واوسلو. وذلك يعني أن على العرب إعداد العدة للمجابهة العسكرية دفاعا عن النفس وإلا تعرضت جميع دولهم لمخاطر حروب أهلية مدمرة لا يستفيد منها إلا العدو الصهيوني.

وقد دلت السنوات المنصرمة بعد اتفاقيات مدريد أن السياسة العربية قد اتسمت بكثير من العقلانية في إدارة الصراع مع العدو الصهيوني الذي كان يراهن على انفجار الصدامات العربية ـ العربية, وبشكل خاص ما بين الفصائل الفلسطينية, فور الإعلان عن بداية التفاوض السلمي مع إسرائيل, فالساحة السياسية العربية كانت مشبعة بالشعارات القومية المتشددة التي ترفض التفاوض, أو الاعتراف, أو الصلح مع إسرائيل. ومن نافل القول أن التمسك بهذه الشعارات المتشددة في عصر العولمة وما يرافقها من ضعف عربي, على جميع المستويات, سيقود حتما إلى تدمير ما تبقى من ركائز الصمود العربي في مواجهة المشروع الصهيوني, وبشكل خاص ضرب القوى الشعبية العربية المسلحة التي تقاتل إسرائيل في فلسطين المحتلة وجنوب لبنان. وكانت إسرائيل تخطط لابادة هذه القوى المسلحة على أيدي الجيوش العربية بعد تحويل منظمة التحرير الفلسطينية إلى جيش نظامي.

تناقض إسرائيلي

لكن الصدامات العربية ـ العربية لم تقع بل على العكس من ذلك قام تلاحم واضح ما بين القوى العربية على أساس مواجهة إسرائيل بكل الوسائل المتاحة وعدم تغليب التناقضات ما بين وجهات النظر العربية على التناقض الأساسي مع العدو القومي. وسرعان ما تبلور صراع علني داخل إسرائيل ما بين قوى تريد تهجير العرب وبناء إسرائيل الكبرى بالقوة, وقوى ترى أن إسرائيل عجزت عن استقطاب ثلث يهود العالم خلال مائة عام, وبدا واضحا ان إسرائيل الكبرى مشروع صعب التحقيق ويجب التخلي عنه كمشروع جغرافي لصالح إسرائيل الكبرى كمشروع اقتصادي استنادا إلى ما كتبه شمعون بيريز في (الشرق الأوسط الجديد), وهو المشروع الذي يعطي إسرائيل دوراً أساسيا وفعالاً في هذه المنطقة, وبمشاركة عربية علنية.

ما يعنينا من هذا المسار التاريخي أن الحد الأدنى من السياسة العقلانية العربية الذي تجلى في رفض الاستمرار في الصراعات العربية ـ العربية منذ مؤتمر مدريد حتى الآن, ومحاولة حل النزاعات بين العرب بالطرق السلمية قاد إلى بروز تناقضات حادة داخل المشروع الصهيوني لدرجة أن وزير خارجية إسرائيل الأسبق اعتبر أن مشروع إسرائيل الكبرى غير قابل للتحقيق, ولابد من الرجوع عنه, وذلك يفترض تمسك العرب برفض المشروع الصهيوني والارتقاء بالسياسة العربية إلى مرحلة التنسيق الإستراتيجي بين العرب لقيام نهضة عربية جديدة على أساس التغيير الجذري للواقع العربي. انطلاقا من ثقافة التغيير الجذري لبناء إنسان عربي حر وقادر على مجابهة تحديات القرن الحادي والعشرين, يمكن تحديد السمات الأساسية للنهضة العربية القادرة على مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين.

لابد أولاً من إعادة التفكير جديا ببناء الوحدة العربية بشكل تدريجي وعلى أسس عقلانية تتجاوز كل العقد ومقولات المرحلة السابقة, وبشكل خاص مقولات (الوحدة الاندماجية) و(الاقليم القاعدة), و(إزالة الدول القطرية صنيعة الاستعمار الغربي), وغيرها, فشعار الدولة القومية الواحدة, على أسس ديموقراطية وعقلانية وليبرالية, يحتل الآن المرتبة الأولى في عصر التكتلات الجغراسية والقارية الكبيرة. فالدول الصغيرة, الغنية منها والفقيرة على حد سواء, غير قادرة على حماية سكانها في زمن السلم كما في زمن الحرب. وهي ملزمة على عقد اتفاقيات, وتحالفات, والقيام بمناورات عسكرية مشتركة مع دولة عظمى لحماية نفسها من مخاطر الحروب الأهلية, والنزاعات الإقليمية, والمضاربات المالية التي تشكل سلاحاً فتاكا لتدمير اقتصاد الدول الصغيرة والنامية من الداخل.

استراتيجية قومية

وبناء الدولة العربية الواحدة القادرة على نقل العرب من عصر الدويلات الضعيفة إلى عصر الدولة القومية الموحدة والقوية يحتاج, بالدرجة الأولى, إلى استراتيجية طويلة الأمد لإزالة كل المعوقات التي تحد من بناء هذه الدولة وفي طليعتها إزالة المشروع الصهيوني وكل المشاريع التقسيمية الرديفة. ومن المعروف جيدا أن الإرث العثماني الطويل الأمد من جهة, والإرث الاستعماري الغربي من جهة أخرى قد تركا ألغاما كثيرة داخل كل دولة عربية ما بين هذه الدول. وعلى الرغم من رحيل قسم كبير من جيوش الدول الاستعمارية عن الأراضي العربية فإن الاستعمار الغربي نجح في تفجير كثير من تلك الالغام التي كان من نتائجها المباشرة زيادة حدة التناقضات العربية ـ العربية وتعزيز مواقع المشروع الاستيطاني الصهيوني في المشرق العربي, وبالتالي خفوت الدعوة إلى القومية العربية, وتعزيز الشعور القطري في كل دولة عربية على حساب الوحدة القومية. ونتيجة لذلك, ضعف دور العرب كثيرا في المجالين الإقليمي والدولي, وباتت الدولة العربية الحديثة عرضة لأزمات حادة في داخلها, وتستخدم كل أشكال العنف لدرء الحرب الأهلية, وذلك على حساب التنمية والخدمات الاجتماعية لمواطنيها.

لقد عارضت الدول العربية الحديثة, لعقود طويلة, مشروع الدولة القومية الواحدة والموحدة بأشكال مختلفة. إلا أنها محكومة الآن, وأكثر من أي وقت مضى, بقانون الدولة العربية الواحدة, دون تحديد مسبق للشكل الأفضل لهذه الدولة, فالنظام العالمي الجديد يقدم كل الدعم للمشروع الاستيطاني الصهيوني الذي يهدد بتوحيد المشرق العربي, سلما أو حرباً.

نزيف الأدمغة العربية

يضاف إلى ذلك أن الزيادة الحادة في نزيف الأدمغة العربية عاما بعد عام جعلت بعض المثقفين, من العرب وغير العرب, يشككون بإمكانية قيام نهضة عربية جديدة. إذ كيف يمكن تصور نهضة بدون أبرز ركائزها أي الإنسان الحر, وبشكل خاص المثقف العربي الذي يمارس فعل الإبداع على أرضه العربية, ويلعب دوره الطليعي في بناء النهضة العربية الجديدة القادرة على مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين. فوسائل الإعلام, المرئي منها والمسموع والمقروء, تلعب دورا بالغ الأهمية في صياغة كثير من المواقف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية, وتشارك بفاعلية كبيرة في صياغة التاريخ الكوني. نشير أخيرا, إلى أنه لدى العرب طاقات بشرية هائلة من المبدعين الذين يشاركون في إنتاج مختلف حقول المعرفة الإنسانية والثورة العلمية والتكنولوجية, إلا أن فساد الإدارة في الأنظمة العربية وإمعانها في تجاهل الكفاءات العلمية العربية ومنعها من ممارسة دورها الطبيعي في التغيير العلمي والاجتماعي جعلت أعدادا كبيرة من النخب الثقافية والإبداعية العربية تغادر دولها إلى بلاد الاغتراب حيث تقدم لهم كل الإغراءات المادية والمعنوية ليستقروا خارج الوطن العربي. يكفي التذكير بأن الغالبية الساحقة من مراكز البحث العلمي في الدول العربية تحتاج إلى جهود مضنية وموازنات ضخمة, واستقطاب جميع الباحثين والمبدعين العرب حتى تستطيع تغيير الواقع العربي الراهن تغييرا جذريا.

من أجل سياسة عقلانية

نخلص إلى القول أن بروز الحد الأدنى من السياسة العقلانية في الوطن العربي قد سمح ببروز تناقضات ملموسة في المشروع الصهيوني أربكت السياسة الأمريكية في دعمها غير المشروط لإسرائيل. لقد ظهرت صورة إسرائيل على حقيقتها تجاه سكانها وتجاه الرأي العام العالمي. فهي دولة عنصرية قمعية وليست واحة للديموقراطية. ويمارس حكامها أشكالا من التمييز العنصري ما بين اليهود الشرقيين واليهود الغربيين بالإضافة إلى كل أشكال القمع والإرهاب ضد العرب, على اختلاف طوائفهم وطبقاتهم الاجتماعية.

ولذلك فإن بناء النهضة العربية الجديدة لا يمكن أن يتم إلا عبر ثقافة عصرية, وممارسات ديموقراطية حقيقية, والمشاركة الفاعلة في الثورات الإعلامية والتكنولوجية والعلمية عبر تخصيص الموازنات الكبيرة لمراكز البحث العلمي في الوطن العربي والاستفادة من الطاقات العلمية العربية والصديقة لإطلاق نهضة عربية جديدة قادرة على مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين. وليس من شك في أن الفرصة متاحة الآن لبناء هذه النهضة على أسس جديدة. فهل يستفيد العرب من تأزم المشروع الصهيوني لإطلاق نهضتهم الثانية أم تفلت الفرصة من أيديهم ويفسحوا في المجال أمام إسرائيل كي تتجاوز أزمتها الداخلية الراهنة لتجدد مشروعها الاستيطاني المعادي لكل أشكال النهوض العربي والذي لا يقبل بأقل من (خروج العرب من التاريخ)?

 

مسعود ضاهر