الطاقة النووية كيف نستخدمها سلمياً؟

الطاقة النووية كيف نستخدمها سلمياً؟

كيف يمكن ترويض هذا المارد النووي وجعله سلمياً، وهو القادر على التطور تلقائيا؟ وهل يتم السماح للعالم العربي بالدخول في هذا المجال، في وقت يتم فيه محاصرته في مجال الأسلحة التقليدية؟

ترجع الإشكالية العامة لهذا الموضوع إلى ثلاثة عوامل: أولها، التدفق الغزير للمعلومات الاقتصادية حول الإمكانات والممكنات للاستخدام السلمي لبدائل الطاقة التقليدية، مثل: النووية والرياح ومصبات المياه وغيرها. ثانيها، عسر المعلومات السياسية الاستراتيجية، حيث إن الاستخدام السلمي يتطلب طبيعة مجتمعية معينة وتستدعي خلق مصفوفات للمعلومات السياسية والاستراتيجية والتي يتم على أساسها التفكير والتخطيط.

ثالثها، غياب التصورات السياسية والاستراتيجية من تحديد الغرض النهائي من الاستخدام.

فإشكالية الاستخدام السلمي للطاقة النووية في واقع الأمر مرتبطة بالتفاعل بين مقتضيين: أولهما، إن التكنولوجيا النووية هي تكنولوجيا قادرة على توليد وتطوير ذاتها في الوقت ذاته، وثانيها إن التكنولوجيا النووية في تطورها تعيد صياغة المجتمع والدولة. وهناك أربعة محاور لابد من التدبر والتفكير بشأنها عند الحديث عن العلاقة بين التكنولوجيا النووية من ناحية والدولة والمجتمع من ناحية أخرى. أما الجزء الخاص بالتوليد والتطوير الذاتي للتكنولوجيا فلن يتم التعامل مع هذا المجال بسبب تطلبه خبرة هندسية فيزيقية خارج التخصص الدقيق للكاتب، والمحاور الأربعة هي:

1 - القرار في التوسع في توليد الكهرباء من خلال الطاقة النووية هو قرار سياسي، حيث إنه مرتبط بديناميكية الصراع والتوافق داخل النظام السياسي وبصياغة الشرعية السياسية.

فإذا اعتبرنا النظام السياسي هو آلية لتخصيص الموارد، فالولوج إلى مشروع توليد الطاقة النووية سيتطلب في المقام الأول العمل على إعادة تخصيص وتوزيع الموارد المجتمعية وعلى الأخص السياسية منها. بعبارة أخرى بالنسبة للدول التي تعيش على الاستثمار الأجنبي المباشر سيتطلب من الدولة التدخل لإعادة توصيف الاستثمار المربح لها ولكبار المستثمرين الوطنيين وكبار المستثمرين الأجانب بالإضافة إلى دولهم. سيتطلب الأمر من دون شك إعادة صياغة التوازن داخل النظام السياسي.

فإذا كان المجتمع لا تُمارس فيه السلطات السياسية سلطة سيادة قاهرة، يصبح من الصعب التحول إلى الطاقة النووية، لما يتطلبه المشروع من اتصال وثيق بين القطاعين المدني والعسكري.

فتوليد الطاقة النووية مرتبط بتغير طبيعة الدولة. حيث نجد من الصعب أن تولد الطاقة النووية في دولة ذات طبيعة رخوة أو تسعى لحسر ظلها من على المجتمع. الأمر الذي سيتطلب إعادة صياغة الشرعية السياسية بشكل يسمح ببروز شكل من أشكال الاستقلال الذاتي للدولة عن تفاعلات مجتمعها، بحيث تتغلب في النهاية مقتضيات شرعية الإنجاز والعقلانية على أنماط أخرى، كالشرعيات المعتمدة على التقاليد أو السلف أو الوراثة. بالتأكيد هذا سيدفع المجتمع والدولة إلى إعادة هيكلة النظام السياسي برمته.

باختصار هناك علاقة ضرورية بين تطور طبيعة النظام السياسي، ومن ثم الدولة والتعمق في إنجاز المشروع النووي حتى السلمي منها.

تغيير النظام العام

2 - قرار انتهاج منحى إعادة صياغة المجتمع ليصلح كدولة ذات مؤسسات قادرة على صناعة الطاقة النووية هو قرار مرتبط بصياغة السياسات العامة، بعبارة محددة إن الدخول في صناعة الطاقة النووية يتطلب تغييراً في النظام العام للدولة.

يقصد بالنظام العام كل ما يمس كيان الدولة أو يتعلق بمصلحة أساسية من مصالحها، التي يتطلب تحقيقها حتى تسير في طريقها. فالنظام العام هو مجموعة الأسس التي يقوم عليها كيان الجماعة، سواء كانت أسساً سياسية أو اقتصادية أو مالية أو اجتماعية أو أخلاقية. بعبارة أخرى هي المصالح الجوهرية للدولة والمجتمع والتي يمكن تعريفها بأنها مصالح عامة لكل المواطنين. فالنظام العام ليس مسألة أيديولوجية ولكنه مسألة عامة مرتبطة بجوهر وصميم تكوين آليات المصالح العامة في المجتمع. فالمجتمع الذي يهدف إلى توليد الطاقة النووية لابد أولا أن يرى أن هناك مصلحة عامة في تقدمه التكنولوجي.

هنا يثار التساؤل حول مدى الحسم المجتمعي بشأن التصميم من أجل التقدم التكنولوجي.

وفي الواقع إن التعامل مع إشكالية الحسم المجتمعي تثير عدة قضايا منهجية في تحليل وصياغة قرار السياسات العامة. أولا - إننا نعرف في منهجية تحليل السياسات العامة أن الإحساس بالمشكلة والاعتراف بها هما الخطوتان الأوليتان الصحيحتان لتحديد المشكلة، ومن ثم البدء في نظام ما للسياسات العامة التفضيلية.

ينبع الإحساس بالمشكلة من اتجاهات الرأي العام واتجاهات الصحافة والإعلام واتجاهات العمل الأهلي. فعلى سبيل المثال ليس هناك اتجاه واضح في دول الخليج العربية بالإحساس بالمشكلة. هذا مع إدراك أن الإحساس بالمشكلة لا يؤدي بشكل تلقائي إلى الاعتراف بها، هذا لأن الاعتراف بالمشكلة متعلق بالتصورات الحكومية وتصورات القوى الاجتماعية المسيطرة وتصورات المعارضة. بعبارة أخرى، إن الإحساس بالمشكلة يتم اختزاله وإعادة تصويره ليتناسب مع أهل الحكم أو أهل القوة أو أهل المعارضة. وفي ضوء الاختلاف العميق بين هذه التصورات يضيع الإجماع حول الاعتراف بالمشكلة.

هذا لكي نتقدم لتحديد حدود المشكلة، المشكلة المحسوسة هنا من الصعب صياغتها في اعتراف اجتماعي عام بسبب اضطراب واستقطاب البيئة الاجتماعية الخليجية. فلا يعرف المراقب هل ما تحسه دول العالم العربي ودول الخليج هو مشكلة مرتبطة بالدفاع الوطني؟ أم بالصناعة والتقدم والطاقة؟! فالمشكلة المرتبطة بالدفاع هي بالتأكيد لها سياق ومقتضيات غير تلك المرتبطة بالصناعة، حيث المشكلة المرتبطة بالدفاع في إطار صناعة الطاقة النووية تستدعي الفهم العميق لميزانيات الدفاع وتصورها عبر الزمن، وقياس المهام داخلها. بالإضافة إلى أن مسائل الدفاع في المجال النووي مرتبطة بإعادة تأهيل الرأسمال البشري في المجتمع كرصيد تكنولوجي من ناحية بالتخطيط من أجل تعميق مبدأ البحوث والتنمية في المجتمع والدولة. أما في إطار الصناعة والتقدم فالمشكلة تعاد صياغتها بشكل يدفع المجتمع إلى صياغة ذاته كمجتمع تعددي لا تسيطر عليه رغبة واحدة، وإيمان بحقيقة مطلقة.

سياسة القرار النووي

ويتم زرع خمسة مبادئ للإنصاف الاجتماعي في سبيل نظام ديمقراطي من التفصيلات العامة، حيث إن القرار النووي يعبر في جوهره عن سياسة عامة:

1 - إن الفرد غير مقيد في اختياره بين البدائل.

2 - في حال إن تم حصر التفضيلات بين تفضيلين فقط فيجب عدم اعتبار التفضيلات غير شعبية، بل ويجب دائماً إدراجها ضمن نظام التفضيلات العامة في المجتمع والدولة وقعاً بتغير الأحوال في المستقبل.

3 - عدم خصم البدائل غير ذي صلة بالاحتمالات، وهذا المبدأ قائم على اعتبار أن المجتمع هو في الحقيقة عملية تطورية مفتوحة النهايات من ناحية المستقبل.

4 - يجب إدراج كل رغبات أفراد الجماعة المعينة المستهدفة، أو الجماعات المستهدفة، ولكن في شكل أولويات تفضيل.

5 - يجب على الفرد ألا يمارس رغباته بديكتاتورية على الآخرين، ويعتبر هذا المبدأ مضادا لمبدأ الاختيار البيروقراطي السلطوي. فالاختيار الاجتماعي يسمح للفرد بالتساؤل حول معايير جودة الأداء، هذا بالإضافة إلى السماح للفرد أن يبني نظامه الخاص في التفضيلات المجتمعية. وتطبيق ذلك على مجتمعات الخليج, يعني أن الدخول في الطاقة النووية سيغير بشكل حاسم طبيعة الدولة والمجتمع وحقوق الأفراد، حيث إن الصناعة في الخليج هي في الأساس صناعة استخراجية، أو قائمة على تصنيع المنتجات المستخرجة.

إن الدخول في صناعة الطاقة النووية يتطلب صناعة قائمة على مدخلات مادية وتكنولوجية وعلمية وكثيفة، يتم تحديد التفضيلات فيها على أساس نظام اجتماعي واضح من التفضيلات الاجتماعية. فصناعة الطاقة النووية تستدعي نظاما بيروقراطيا صناعيا حديثا، ذا بعد يأخذ الإرادة الشعبية في الاعتبار.

الطاقة النووية والمجتمع الدولي

3 - القرار في العمل على صناعة الطاقة النووية هي قرار دولي، ويقصد بالقرار الدولي معنيان: أولهما - أنه قرار مرتبط بطبيعة المجتمع الدولي.

المجتمع الدولي يوجد بوجود قواعد هادية لسلوك الدول والجماعات والأفراد. فالطاقة النووية هي طاقة نافذة في اختراقها عبر الحدود السياسية وعبر البيئات الطبيعية والاجتماعية المختلفة. في هذا السياق تأتي المنظمات الدولية المهتمة بتنظيم الاستخدام السلمي للطاقة النووية. ثانيهما - إنه قرار مرتبط بالقدرة على ممارسة السلوك الدولي بعقلانية، بحيث لا يسمح باستخدامها في الصراع الدولي إلا كمرجع أخير لحماية الدول من الزوال. في هذا السياق يأتي ما يعرف في أدبيات العلاقات الدولية بنماذج السلوك الدولي العاقل. ففي إطار مفاهيم المجتمع الدولي نجد إشكالية بناء المصالح المشتركة.

ويبزغ السؤال: ما المصالح المشتركة بين دول الخليج التي تقود إلى بناء مشروع مشترك لتوليد الطاقة النووية؟ المصالح المشتركة بين دول الخليج في الأساس مصالح توافقية، وليست إنشائية. بمعنى أنه ليس هناك بشكل حاسم في دول الخليج تكوين اجتماعي يعرف بأنه يفرز في البدء والأساس قطاعا خليجيا صناعيا أو ماليا. كما أنه نظريا وتطبيقيا حتى الآن لا يعرف ما هو إمكان مشروع مشترك إقليمي دولي لتوليد طاقة نووية؟ فالنموذج الأوربي للتكامل يشير إلى فشل محاولات بناء مشاريع أوربية صناعية قائدة على أساس أوربي. وعند خبراء دراسات الاتحاد الأوربي نجد أن الاتحاد لم ينجح إلا في نطاق المشاريع الصناعية الخاصة بالتنميط الصناعي القاري أو الربط التكنولوجي، أو الدمج بين الصناعات عبر الحدود الأوربية، أو قيام الشركات على استحواذ على بعضها البعض.

بعبارة أخرى إن توليد الطاقة النووية بصرف النظر عن مدى سلمية الاستخدام في الأصل مشروع قومي للدول وليس مشروعا إقليميا. في دراسات التكامل الإقليمي تواضع الخبراء والمحللون في العلاقات الدولية أنه فقط عند بناء مستوى فوق قومي إقليمي وفق صياغة دستورية واحدة فوق قومية، يمكن القول بتوافر فرصة بنائية. فدول الخليج من الأرجح أن تفتح أمامها الفرصة لإقامة مشروع طاقة نووية خليجية مع السلطة الدستورية الواحدة أو الموحدة. كما أن بناء مشروع طاقة نووية خليجية يفترض إعادة صياغة قيم الأمن المشترك الخليجي بشكل يتوافق مع مفاهيم عقلانية الاشتراك الدولي. والمقصود هو أولوية الدبلوماسية باعتبارها مؤسسة اجتماعية دولية تؤمن بالتفاوض كوسيلة لتخفيض حدة الصراع الدولي. وهذا ربما يتطلب من الدول الخليجية ثورة ثقافية للاندماج العصري في العالم، على اعتبار أن الطاقة النووية ليست مسألة فنية فقط، ولكن والأهم مسألة مرتبطة بالحداثة في العادات والتقاليد.

4 - القرار من أجل السير في تطوير الطاقة النووية هو قرار مرتبط بتوازن القوى في النظام الدولي، ويقصد بذلك ارتباط القرار بميزان القدرات المادية للدول، بصرف النظر عن سلمية الاستخدام من عدمه. هذا لأن الدولة التي لديها قدرة على التخصيب النووي هي دولة أعلى في سلم القدرات الدولي، بصرف النظر إلى صناعة السلاح ذاته. ولكن ما أهمية القدرة الاستراتيجية على التخصيب كوسيلة للأمن القومي؟ بل ما هي فاعلية السلاح النووي في الردع في عالم العولمة؟ وهل له فاعلية في عالم الهيمنة الواحدية الأمريكية؟ دعنا نفكر معا. كان يدور التفكير في قضايا الأمن القومي للدول في سياق أنه محكوم في إطارين. هما إطار داخلي والآخر خارجي أو قل بيئة داخلية وبيئة خارجية، حيث تنصرف البيئة الداخلية إلى مدى السيطرة على السكان سواء أكان ذلك من خلال استخدام القوة والعنف أو من خلال التراضي وشبكات العلاقات غير الرسمية العائلات والشلل وجماعات المصالح والنفوذ، أو من خلال مؤسسية مختلفة يندرج فيها الأفراد والجماعات، الأمر الذي يتطلب من الدولة السيطرة على متغيرات داخلية مهمة ورئيسية، وعلى رأسها السيطرة على تنظيم حمل السلاح بأشكاله المختلفة وخلق الأطر اللازمة للعمل الاقتصادي والاستثماري وتأمين الشرعية السياسية وهندسة أنماط القوى الاجتماعية. أما البيئة الخارجية فهي مرتبطة بالنظام الدولي وتفاعلات الصراع الدولي بين الدول. الأمر الذي يجعل تحقيق الأمن الخارجي صنوان للسيطرة على المخاطر الدولية والعمل على ردع الاختراقات الخارجية، والحد من التجسس المضاد. والمنطق العام في سياسات الدول خلال القرن الماضي هو العمل على إحباط الارتباط بين قضايا الداخل وقضايا الخارج. ودول الشرق الأوسط لديها خبرات كثيرة في هذا السياق. ولكن في إطار تطور العالم إلى نظام دولي جديد شعر مخططو الاستراتيجية والأمن القومي أن هناك بيئة جديدة للأمن القومي تتخلق وتأخذ في البروز ألا وهي البيئة المحلية العالمية. هذه البيئة الجديدة تعبّر وتؤشّر عن الارتباطات التفاعلية عبر الحدود والتي لا تستطيع الدول إيقافها.

الأمن القومي

وجاء تأسيس البيئة الجديدة للأمن القومي وهي البيئة الثالثة معتمدا على المعايير التالية:

1 - إن النظام الدولي الجديد هو لتوافر معيارين، أولهما، اختلاف شكل السيطرة الدولية، وثانيهما، الاختلاف في مدى السيطرة داخل الوحدة الرئيسية للنظام ألا وهي الدولة. والمعيار الأول متعلق بتوزيع القوة داخل النظام الدولي ككل، أما المعيار الثاني فمتصل بتوزيع القوة داخل الدولة في حد ذاتها.

2 - انخفاض مستوى السيطرة داخل الدولة على سلوك الأفراد والجماعات والعمليات وربما المؤسسات الوطنية مما أدى إلى بروز اشتباك هذه التكوينات في سلك خارجي، بحيث لم تصبح الدولة هي الفاعل الوحيد المتحكم في تقرير السلوك.

3 - إعادة توزيع القوة الدولية إلى الانتقاء البناء لمنطق القوة الدولية المسيطرة بشكل حاسم أو إمبراطوري على العالم، بل وأصبح النظام يعتمد على ائتلافات دولية حول موضوعات بعينها وقرارات محددة.

4 - ساهم المعنيون السابقون في خلق مساحة من التفاعل الاجتماعي المؤسسي الدولي العابر للحدود أفقيا ورأسيا. بحيث أصبحت البيئة الدولية الأمنية في العالم تحتوي على قواعد داخلية وفواعل خارجية وفواعل عابرة للحدود. وهذه الفواعل الأخيرة تخلق البيئة المحلية العالمية.

وربما ما حدث في جورجيا وأوكرانيا وما يحدث في لبنان والعراق الآن خير مثال على آليات هذه البيئة وأسلوب عمل هذه القوى العابرة للحدود.

والسؤال، ما هو تأثير هذا على القدرة على التخصيب النووي؟ هذه البيئة الجديدة تكون حاملا لاحتمالات التخصيب النووي، حيث شاهدنا ذلك في إيران والعراق تحت صدام وباكستان على سبيل المثال. غير أنه من الضروري ملاحظة أن واحدا من عناصر هذه البيئة الأمنية الجديدة هو فاعلية المنظمات الدولية على الرقابة والاختراق والعقاب. لكن لابد من إدراك أن فاعلية هذه البيئة تتأثر بمدى قدرة الدولة والتصميم على مشروعها النووي. حيث إن هذا التصميم مرتبط بمعضلة بقاء وفناء الدولة في النظام الدولي.

الأمر الذي يدفعنا إلى ضرورة الاهتمام النظري والعملي بقدرة الدول على التكيّف في خضم المتغيرات الدولية واسعة النطاق، بحيث لا يجري عليها قانون الفناء الاستراتيجي والذي يمارس عمله بالقضاء على الدولة، وتفتيت المجتمع.

البقاء في النظام الدولي

والبقاء في النظام الدولي له ثلاثة معان محددة: أولا - بقاء الدولة في سياق حدودها الوطنية لا تتغير بالانتقاص، ثانياً - بقاء نفوذ الدولة الإقليمي أو الدولي كما هو، ثالثاً - البقاء بالموارد الرئيسية نفسها على الأقل. وتصبح المهمة الأولى للدبلوماسية هي التأكيد على هذا الواقع وحمايته والدفاع عنه. وبصرف النظر عن كيف تورطت النظم العربية في هذه المعضلة، فهذا موضوع للبحث التاريخي، ولكن الأهم الآن هو العناصر الأساسية لمعضلة البقاء وملامح استراتيجية الانفكاك منها. والمعضلة تتمثل بما يلي:

1 - إن الدولة تكون معرضة لحالة من حالات التراجع الاستراتيجي مما يهدد بقاءها بواحد من المعاني الثلاثة عندما تكون غير مرتبطة بتجمع إقليمي أو دولي أو قوة دولية بشكل إيجابي، إن الدولة المعرّضة للتراجع الاستراتيجي يجب أن تكون حذرة عند استخدامها للقوة العسكرية بالمعنى التقليدي لإيقاف هذا التراجع، لأن هذا ربما في الأرجح يساهم وفقط في تسريع التراجع وتصعيب الاختيارات أمام صانع القرار الاستراتيجي.

3 - إن الدولة المعرضة للتراجع الاستراتيجي لابد لها من تفعيل العناصر الأخرى غير العسكرية في معادلة أمنها القومي لإيقاف التراجع.

4 - إن الدولة المعرضة للتراجع لابد لها من البحث استراتيجياً في كيف لها أن تتكيّف أجهزة وسكانا في حالة استمرار التراجع كمدخل لإيقاف هذا التراجع، وبما يكون ذلك شكلا إصلاحا سياسيا واقتصاديا.

5 - إن الدولة المعرّضة للتراجع، لابد من اتباع دبلوماسية خلاّقة لتخفيض: سواء ثمن التراجع أو السيطرة على الانهيارات الداخلية والإقليمية والدولية المرتبطة بتخفيض الثمن.

6 - في هذا السياق، تتغير معادلة المساومة الوطنية لتقبّل قيود دولية أو إقليمية لم تكن الدولة في السابق تتصورها.

7 - في هذا السياق أيضاً تتحول مصادر النفوذ الإقليمي للنخبة الوطنية لتصبح أقل تنافسية على مستوى الإقليم، بل وأكثر تكاملاً مع متنافسين سابقين.

8 - الدولة المعرضة للتراجع لابد لها أن تخطط على مستويين أحدهما مرتبط بإدارة التراجع، والآخر مرتبط ببناء تصورات في كيفية النهوض من جديد.

9 - إن التخطيط لمواجهة تراجع الدولة في العالم العربي له بعد إقليمي عربي. في ضوء هذه العناصر تتغير مكانة الدولة وتتغير سياستها الدفاعية ودبلوماسيتها. ولفهم هذه ديناميكياً، لدينا مجموعتان من الخبرات، الأولى لدول تتعرض للتراجع ونهضت من جديد، والأخرى تعرضت للتراجع وفشلت في إدارة التراجع. وللنظر إلى دولة الكويت كيف استطاعت بعد احتلالها، والقضاء عليها كوحدة فاعلة في العلاقات الدولية أن تدير ببراعة عودتها مرة أخرى إلى الوجود الدولي والتواؤم بسرعة مع الأحوال الدولية، وخلق جو من الاستقرار. ولننظر مرة أخرى إلى ليبيا، وكيف تم حصارها حتى أصبحت منبوذة دولياً، وكيف استطاعت استعادة توازنها الوطني. بالنسبة للسعودية كيف تغلبت على سيناريوهات انقضائها استراتيجياً لتستعيد انطلاقها الدولي والإقليمي. أما بالنسبة للفشل في إدارة التراجع، ولننظر لسودان النميري، حيث كان سودان النميري عضواً فعالاً في الفاعليات العربية والإفريقية، كيف انتهى الأمر بالسودان ممزقاً وضعيفاً. ولننظر إلى عراق صدام حسين كيف كان قادراً وعزيزاً في السبعينيات، وكيف انتهى به الأمر محتلاً وعلى شفا حرب أهلية. وهناك أيضاً حالة الصومال. والمقصود من هذه الحالات، شرح عناصر معادلة معضلة البقاء/الفناء الاستراتيجيين، كما حدث أن تطورت في العالم العربي. ويصبح السؤال الكبير: هل الانغماس في صناعة الطاقة النووية يسرع الدولة إلى الفناء الاستراتيجي؟ أم إلى النهوض دولة جديدة؟.

في الختام، دول الخليج بإعلان رغبتها البحث في وسائل الطاقة النووية فتحت على نفسها واقعا جديدا غير معروف مداه أو احتمالاته.

 

 

جهاد عودة