قبيلة الشك .. وطقوس تنصيب الرث مبارك الصادق

.. يبدو العنوان حين يصل القارئ إلى الكلمة الأخيرة فيه.. ولابد أن يتساءل: عمَّا يكون "الرث.."؟.. والرث هو الملك المتوج لقبيلة الشلك، ولابد له من مواصفات ومميزات.. وحين يتم تنصيبه لابد من طقوس فريدة وغريبة.. ولكن قبل ذلك كله.. من هم الشُلُك..؟ لنبدأ الرحلة إليهم حيث هم .. في جنوب السودان ..

يتكون جنوب السودان من ثلاثة أقاليم هي إقليم أعالي النيل، وإقليم بحر الغزال، والإقليم الاستوائي .. وتشكل مساحة هذه الأقاليم الثلاثة حوالي 250000 ميل مربع يقطنها ما يربو على الأربعة ملايين نسمة. وتنقسم المجموعات القبلية التي تقطن جنوب السودان إلى ثلاث مجموعات رئيسية هي:

1 - القبائل النيلية وتشمل الشُّلُك، والدينكا، والنوير.

2 - القبائل النيلية الحامية وتشمل اللاتوكا، والتبوسا، والردنقا.

3 - قبائل نزحت للجنوب من غرب إفريقيا وأهمها قبيلة الزاندي. وقد تم هذا التقسيم وفقًا لتشابه سحن وعادات وتقاليد تلك القبائل ...

كذلك ثمة قبائل صغيرة أخرى لكنها تندرج وفقًا لذلك التقسيم داخل هذه المجموعات الثلاث. ويتكلم سكان الجنوب ثمانين لهجة مختلفة، ولأن لكل قبيلة مهمتها الخاصة بها فإن التفاهم بين تلك القبائل يتم بلهجة عربية متعثرة تعرف اصطلاحيًا باسم "عربي جوبا" إلاّ أن المتعلمين من تلك القبائل يتخذون من الإنجليزية وسيلة للتفاهم بينهم .. وينتمي حوالي 90% من سكان الجنوب إلى أديان محلية قبلية، فيما ينتمي ال 10% للدينين الإسلامي والمسيحي.

وقبيلة الشلك هي واحدة من القبائل النيلية العريقة.

موطن الشلك

تقطن قبيلة الشلك على ضفتي النيل الأبيض شمالاً وجنوبًا من ناحية مدينة ملكال عاصمة أعالي النيل، وتمتد قرى الشلك في نسق بديع أشبه ما يكون بمنظومة من العقد النضيد، بعض مناطق الشلك وسط قرى الدينكا والنوير، وعند التقاء نهر "سوباط" بالنيل الأبيض.

ثمة اعتقاد بأن الشلك قوم نزحوا من إفريقيا الشرقية تحت إمرة بطلهم المقدس "نياكانق" وهو في نظرهم يحتل مرتبة وسطى بين الإنسان والإله، على أن هناك من يرون أن الشلك نزحوا على وجه التحديد من كينيا ويوغندا في القرن الثالث عشر الميلادي، فجاءوا إلى موطنهم الحالي.

لا أحد يدري سبب هذه الهجرة، بيد أن بعض الأقوال تشير إلى أن بطلهم المقدس "نياكانق" قد استبد به الغضب عندما عين أخوه ملكا بدون الرجوع إليه، عندها قرر أن يرحل، وقد رحل بالفعل إلى الوطن الحالي عن طريق بحر الغزال..

ورغم تعدد الروايات عن أسباب الهجرة إلا أنها تتفق كلها على أن "نياكانق" قد هاجر من موطنه الأصلي إلى موطنه الحالي برفقة أهله وأتباعه طلبًا لمملكة يحكمها وحده!

سُبُل كسب العيش لديهم

يعتمد الشلك في حياتهم المعيشية على الرعي وتربية الماشية، والضأن والأغنام، فهي تمدهم باللحوم والجلود والألبان ومشتقاتها، كما يقومون بصيد الحيوانات التي تكثر بتلك المناطق.. ويلعب النيل الأبيض وروافده دورًا أساسيا في حياة الشلك.. هذا بالإضافة إلى الأنهار الصغيرة والمستنقعات التي تتغذى جميعها من النيل الأبيض. فيزرعون على الشواطئ بعض الخضراوات والطماطم والتبغ - والذي يطلقون عليه نبات الأجداد - كما يزرعون الذرة والدخن، وإلى جانب ذلك كله فإنهم يصطادون السمك الذي يحبونه كثير وما فاض عن حاجتهم يبيعونه ليشتروا من عائده مستلزماتهم الأخرى كالملابس والسكر، والملح.. وتقوم معاملات البيوع لديهم على أساس المقايضة. بيد أن النقود دخلت الآن في معاملاتهم ولكن بصورة ضيقة. إلاّ أنهم في مناسباتهم الاجتماعية، كالزواج مثلاً لا يقدمون المال كمهر بل يدفعون الأبقار بدلاً من المال.

"نياكانق" بطل الشلك المقدس

"نياكانق" هو البطل المقدس لدى الشلك، وهو قائدهم ورمزهم العظيم والذي يمثل روح القبيلة. ويتحدث الشلك في أساطيرهم وأدبهم الشعبي بفخر واعتزاز عن مزايا "نياكانق"، عن قواه الخارقة، ومقدرته الأسطورية. إذ كان يثير الرياح والزوابع، ويأتي بالمطر الغزير، ويبارك الزرع فيأتي بالحصاد الوفير، كما أنه يبسط حمايته على الأرض حارسًا وراعيًا أمينًا... والشلك كمحاربين تبهرهم البطولة ولذا يقولون عن "نياكانق" إنه محارب جسور، انتصر على كل القبائل التي مروا بها في طريق هجرتهم، كما يقولون إنه انتصر على الشمس عندما اعترضتهم وهم يهمون بعبور بحر الغزال إذ مالت الشمس عليهم واشتد وهجها وسلطت عليهم شواظها فما كان من نياكانق إلاّ إن أمسك بحزمة من الأرز البري الذي كان ينبت على الشاطئ فغمسها في ماء النهر فرش بها الشمس الملتهبة فخبا وهجها، وتراجعت حرارتها وسكنت باردة مستسلمة. ومن معتقدات الشلك أن نياكانق لم يمت بل تبخر في الهواء في شكل دخان وذلك حتى تبقى روحه ترفرف على القبيلة حارسة وراعية لها، ومن ثم فإنهم عندما يتوجون مليكهم الجديد "الرث" فإنهم يجيئون برمز البطل الأسطورى نياكانق لكي يسبغ على الرث الجديد روحه، وتحل فيه فيكون الرث الجديد كل كان نياكانق قوياً يحمي كل القبيلة.!

مواصفات الرث وسلوكه

بما أن الرث هو الملك المتوج للشلك فإنه لا يتم اختياره عشوائيًا، ولكن وفقًا لأسس وقواعد مرعية. فهو مثلا لابد أن يكون منحدرًا من سلالة العائلة المالكة - عائلة البطل المقدس نياكانق - إذ إن هذا من أهم الشروط التي ينبغي أن تراعى، كما يجب أن يكون الرث المختار ابنًا لرث، وفوق ذلك فإنه يتوجب أن يكون سليم البنية متينها.. لا يشكو من عاهة جسدية أو أي تشويه.. وليس به أي عيب في بنائه الجسماني، فإن أي تشويه كقطع إصبع، أو خلع سن، أو عرج يفقد الشخص فرصة اختياره كرث ذلك أنهم يعتقدون أن روح نياكانق يجب أن تجد جسدًا قادرًا، ومكتملاً لتحل فيه، وحتى يكون ذلك الجسد قادرًا على احتوائها يجب أن يكون مبرأ من كل عيب .. ولهذا فإنهم إذا مرض الرث أو ضعف ولم يعد قادرًا على تحمل أعبائه أو إذا أشرف على الموت .. ساعدوه على الموت ولم يتركوه ليموت موتًا طبيعيًا.. لأنهم يعتقدون أن الرث لو قدر له أن يموت موتًا طبيعيًا فإن ذلك يضعف روح النياكانق الثاوية في جسده، وكل ملوك الشلك السابقين لم يموتوا موتًا طبيعيًا ما عدا الرث قبل الأخير "كورفافيتي" والذي توفى بمستشفى الخرطوم عام 1974 م وقد عين خلفه الرث الثالث والثلاثون "أنيق آني" عام 1975.

إن الرث كما يعتقد الشلك له موقع بين الألوهية والملوكية، فهو يلعب دورًا إلهيا، مثلما يصرف أعباء المملكة.

ولذا وتماشيًا مع ذلك الدور فإن الرث يتكتم على تصرفاته الشخصية ولا يظهرها أمام الرعية. كيفية اختيار الرث في مرحلة الاختيار الأولى يتم الاختيار بواسطة شيوخ القبيلة والسلاطين فينظرون في البدء إلى البيت الذي عليه الدور، ومن ثم يعمدون إلى اختيار المرشحين.. ويبدأ بعد ذلك التداول في أمرهم بين مجلس شيوخ القبيلة والسلاطين وكبار السن والحكماء.

وفي النهاية يخلصون إلى اختيار أحدهم ليكون هو الرث المختار حسب الشروط والمواصفات.. وقد تتوافر معظم الشروط في بعض المرشحين إلاّ أن الفيصل في الاختيار في نهاية الأمر هو ما يتمتع به المرشح من أخلاق فاضلة، وحسن تعامل مع أفراد القبيلة وسعة صدره وحكمته..

إن عملية الاختيار تتم بطريقة تقليدية وسرية للغاية فلا أحد يدري بتاتًا المرشح الذي سيقع أو وقع عليه الاختيار، إذ إنهم يتكتمون على ذلك غاية التكتم.. بل حتى كبار رجالات الدولة خارج الإطار القبلي كحاكم الإقليم أو القاضي أو المدير الإداري لا يدرون شيئًا عما هو جار إلا بعد أن تتم عملية الاختيار، وعندها يصل الخبر إلى كل قرى الشلك لتأتي الموافقة والمباركة لما توصل إليه الشيوخ والحكماء والسلاطين من اختيار موفق.

ولعمليات التنصيب مستلزمات لابد من تحضيرها وإعدادها.. ومن المعلوم أن لكل قرية من قرى الشلك دورها المرسوم في عملية التنصيب وفقًا للطقوس التاريخية. من هنا فإن كل قرية تقوم بالدور المنوط بها وفقًا للتقاليد المرعية. فهناك قرى عليها تجهيز العاج المقدس.. وقرى أخرى عليها صنع الحراب المقدسة محلاة بالفضة المجلوبة خصيصًا لهذا الغرض.

كما تصنع قوارب جديدة يسافرون بها عبر النيل الأبيض لجلب "العنبح" وهو عبارة عن "طرور" خاص بالزينة الداخلة في طقوس التنصيب. كما يصطادون نوعًا من الغزلان النادرة للحصول على جلودها التي يصنع منها الثوب الذي سيلبسه الرث عند التتويج.

هذا ويتوجب أيضا الحصول على ثور قوي بلون أسود، وله ذيل أبيض، كما يجب جلب نوع من لحاء الأشجار لتصنع منها حبال خاصة بالمراسم المتعلقة بالتنصيب. وبالجملة فإن الأيام السابقة للتنصيب، أيام حافلة بالعمل للإعداد لهذه المناسبة التي لا تتكرر كثيراً.

فتاة التنصيب المحظوظة

بطبيعة الحال كان الرث - قبل أن يصير رثًا - رجلاً سويًا يعيش حياته العادية وسط قبيلته وعشيرته وله أسرته وزوجاته.

والشلك عادة يتزوجون دونما تحديد لعدد الزوجات، ولكن تكثر نساء الرجل أو تقل وفقا لمقدرته المالية والجسدية ورغبته الشخصية.

على أنه وبالنسبة للرث ووفقًا للتقاليد والطقوس فإنه ينبغي اختيار فتاة عذراء ليتم تنصيبها مع الرث عند بداية مراسم التنصيب ليضمها الرث إلى نسائه الأخريات ولتغدو هي الأولى والمميزة لكونها المليكة المتوجة! هذه الفتاة شأنها شأن الرث يتم اختيارها بانتقاء ودقة من حيث الجمال والتكوين الجسماني.. ولا يشترط انحدارها من صلب العائلة المالكة.

كذلك هنالك فتاة أخرى لها دورها الطقسي، تعرف باسم فتاة "الأرورو" هذه الفتاة هي الأخرى يجب أن تكون بارعة الجمال وافرة الجاذبية والسحر. وهي تابعة لجماعة النياكانق. وحسب الدور المرسوم فإنه يتوجب على هذه الفتاة أن تقدم نفسها للرث المنتظر وتقوم بإغرائه واستمالته عارضة عليه أن تسلمه نفسها وطالبة منه أن يتخلى عن تلك الفتاة المختارة ليتخذ منها هي تلك الفتاة المحظوظة..!

لكن الرث يرفض ذلك بشدة تأكيدًا لفضيلة الوفاء، وتعبيرا عن قوة الإرادة وعدم الانسياق لإغراء النساء، الأمر الذي يتناسب مع دوره كرث!.

مسيرة جماعة النياكانق

تبدأ هذه المسيرة وهي أولى خطوات التنصيب الرسمي من قرية (أكروا) حيث معبدنياكانق قوامها العديد من الرجال وبعض النساء يصحبهم حملة الطبول المقدسة يبدأون السير وهم يغنون وينشدون أغاني البطولة ويحملون معهم رمز النياكانق المصنوع من أعواد القنا ومعها قطع من العنبح مغطاة بريش نعام أسود، ويشبه الرمز في تكوينه زهرة اللوتس، هذه المسيرة حسب الطقوس هي عبارة عن جيش نياكانق حيث يمرون في طريقهم إلى العاصمة "فاشودة" مكان التنصيب عبر قرى الشلك في موكب مهيب يصحبهم الكاهن حامل رمز النياكانق. والكاهن في ذلك الموضع والموقع كأنما هو النياكانق نفسه إذ تكون روح النياكانق قد حلت به وهو يقود هذه المسيرة الفريدة.

وعند مرور هذا الموكب بقرى الشلك المتناثرة تقدم تلك القرى القرابين بينما يقوم الكاهن بمعالجة المرضى، ومباركة المواليد، وفض النزاعات.. وعند اشتداد الغناء وارتفاع إيقاع الطبول المقدسة تنتاب الفتيات حالة من الهيستريا والتشنج إلى درجة الإغماء، عندئذ يقوم الكاهن بعملية الرقي والتعاويذ ليطرد عنهن الأرواح الشريرة ويهبهن العافية..

وهكذا تستمر المسيرة في طريقها لعدة أيام، ولكن بحساب معلوم. إذ إن التنصيب يجب أن يتم في وقته المحدد عند اكتمال القمر في اليوم الرابع عشر.

وعند وصول المسيرة إلى قرية "أدودو" جنوب فاشودة وعلى مسافة قصيرة منها يرسل كاهن النياكانق رسولاً إلى الرث لإخطاره بأن الموكب قد وصل إلى "أدودو" ولحظتئذ يكون على الرث أن يتسلل سرًا وتحت جنح الظلام من فاشودة ليكمن في قرية "دبالو" وفي الصباح تخلى العاصمة فاشودة من جيش الرث إذ يلحق به في دبالو في موكب شبيه بموكب النياكانق، فيعسكر الرث وجيشه في قرية دبالو، وهي الأخرى على مقربة من فاشودة يعسكر بها لمدة أربعة أيام يبقى الرث فيها لا يغادرها مطلقًا ولا يُرى، إذ يظل محجوبًا عن الأعين. وفيما تبقى العاصمة فاشودة خاوية من الرجال طيلة هذه الأيام الأربعة، ما عدا النساء والشيوخ والعجزة فإن قرية دبالو هي الأخرى تبقى هادئة لا يسمع فيها إلا صوت مغني الرث الجهوري الصوت وهو يغني مرددًا ومعددًا خصائص وخصائل الرث الجديد مادحًا مزاياه النبيلة بينما يقوم الأهلون بتقديم الهدايا والقرابين حيث تطعن الثيران بالمحراب المقدسة.

وهكذا يبقى الرث محروسًا بحرسه الخاص لا يسمح لكائن ما بالاقتراب منه. وفي اليوم الرابع يرسل كاهن النياكانق رسولاً للرث يخبره أنه لا ينوي الدخول إلى فاشودة الخالية.. بيد أن الرث يعلن استعداده لمقابلة جيش النياكانق في خور "أرباجور" ذلك أنه يجب أن تنشأ حرب صورية بين جيش نياكانق وجيش الرث.. ومن ثم يخرج جيش الرث متحديًا جيش النياكانق فيخرج إلى خور أرباجور وهو يجر معه ثورًا أسود اللون بذيل أبيض مغطى بثوب أبيض .. أما اللون الأبيض فإنه يعني في عرفهم أن الخير قادم إلى فاشودة، أما لون الثور الأسود فإنه يعني أن الرث قادر على قهر الشر المرموز له باللون الأسود فيخرج بالتالي جيش النياكانق إلى الموقع المحدد، وعندما يتراءى الجيشان تطلق صيحات الحرب ويتسلح كل جانب بسيقان الذرة بدلا من الرماح وتنشأ المعركة الصورية وإن هي إلاّ هنيهة حتى تنكشف المعركة بانهزام جيش الرث وانتصار جيش النياكانق والذي يفلح في اعتقال الرث وحمله أسيرًا إلى فاشودة.

إن انتصار نياكانق هنا له دلالته ومعناه حيث يشير إلى أن الرث وحتى هذه اللحظة لا يعدو كونه مواطنًا عاديًا لم تتقمصه - بعد - روح البطل الأسطوري النياكانق فكيف يتأتى له الانتصار؟.

التتويج

عندما يصل موكب كاهن النياكانق والرث المأسور إلى فاشودة يكون ذلك في اليوم الرابع عشر للشهر القمري موعد التنصيب..

وحال وصول الموكب يدخل الرث لإجراء الحمام التطهري.. ثم يحلق له شعر رأسه. بعد ذلك يؤتى بالكرسى المقدس من المقر الرئيسي للرث محجوبًا بستارة بيضاء ومحمولا في تؤدة. فيجلس كاهن النياكانق على ذلك الكرسي حاملاً رمز النياكانق.

ومن ثم يؤتى بالرث وهو يسير ببطء بعد أن يكون قد ألبس زي التتويج الكامل والمكون من جلد الظبي النادر، وجلد الفهد، والأسورة العاجية على الذراعين والرسغين، والخرز، وعقود بيض النعام، وعلى الرث أن يجلس على الأرض ممسكًا برجلي الكرسي الأماميتين، وما يكاد يفعل ذلك حتى تدق الطبول المقدسة بأصوات عالية، ويرفع الكاهن صوته مرددًا التراتيل والتعاويذ الطقوسية، وإن هي إلا لحظة حتى تعتري الرث حالة من الهيستريا والارتجاف العنيف مما يدل على أن روح النياكانق قد حلت بجسده، وسكنت فيه. عندها تتعالى صيحات الحضور معبرة عن الرضاء. وهنا يتوجب أن تنشأ المعركة الصورية الثانية بين جماعة النياكانق وجماعة الرث وبالطريقة الأولى نفسها فيتسلح كل طرف بسيقان الذرة لتبدأ المعركة ولا تمر لحظات حتى تنجلي المعركة عن انتصار جيش الرث الذي أصبحت له القدرة الخارقة بعد أن حلت به روح جده البطل المقدس نياكانق.

عقب ذلك يغسل الرث والفتاة المتوجة معه بماء خاص.

وأخيرًا وبعد اكتمال تلك العملية يجلس الرث على الكرسي المقدس ويستمع إلى خطب الشيوخ التي تحمل في جوهرها الترحيب بالرث والنصح له ومباركته، وحال انتهاء تلك الخطب يحمل الرث وفتاته إلى بناء أقيم خصيصًا عبارة عن أكواخ من القش مخروطية الشكل ليقضي بها الرث وفتاته ثلاثة أيام يخرج بعدها الرث لممارسة سلطاته.

وهكذا وكما يبدو فإن للشلك تصورًا ذهنيًا لعملية التنصيب ينبع من كونهم يعتبرون أنفسهم في حالة تناقض وصراع وانقسام وتفكك، ومن أجل هذا، وسعيًا للوصول إلى مستوى من الوحدة والتكامل فإنهم يسعون إلى تنصيب رث تتجسد فيه روح جدهم الأول وموحد المملكة يبطل شبه الإله نياكانق الذي يعتقدون أنه وحده الذي قادهم ويقودهم نحو المستقبل المشرق.