انقسام الذات

انقسام الذات

هل استطاعت السيرة الذاتية تجاوز أحادية رجع الصوت الواحد، والانطـلاق إلـى الإمكانـات المفتوحـة للـروايـة؟

نتيجة لافتة يمكن أن ينتهي إليها القارئ المتأمل لتجليات الكتابة السردية في الأدب العربي الحديث والمعاصر بوجه عام, وهي أن رواية السيرة الذاتية أكثر حضورا من فن السيرة الذاتية في دوائر الكتابة التي تؤكد شيوع القص الذي يأخذ من سيرة الشخص ما ينبني به على نحو غير مباشر, أكثر من السيرة الذاتية التي تنبنى بما ينطقه الشخص عن حياته صراحة وعلى نحو مباشر, وأتصور أن ارتفاع نسبة رواية السيرة الذاتية, كمياوكيفيا, بالقياس إلى كتابة السيرة الذاتية, من هذا المنظور, هي دال ينطوي على أكثر من مدلول ويشير إلى أكثر من دلالة, تتصل الدلالة الأولى بعلاقة جنس الرواية نفسه بفن السيرة الذاتية, في الدائرة الخاصة بالإمكانات النوعية التي ينفرد بها كل جنس من أجناس الأدب. أما الدلالة الثانية فتتصل بعلاقة السيرة الذاتية نفسها بمساحة المسكوت عنه في المجتمع, ومن ثم تحديد درجات المباح أو المنهي عن النطق المباشر به في الكتابة الذاتية. وتنصرف الدلالة الثالثة والأخيرة إلى طبيعة أو نوع الاستجابة التي يستجيب بها المجتمع إلى أشكال الإفضاء أو الاعتراف الشخصي في الكتابة التي لاتفارق هموم الذات الفردية وهواجس رغباتها.

خداع الذاكرة

تفضي الدلالة الأولى إلى نقيض ما ذهب إليه الدكتور جونسون من أنه لايوجد من هو أقدر على كتابة حياة المرء من المرء نفسه, ليس على أساس أن الذاكرة يمكن أن تخدع صاحبها, وأن قليلين هم الذين يمكن أن يستعيدوا بوضوح تفاصيل حياتهم الباكرة, وإنما على أساس أن كل إنسان يميل إلى تذكر ما يوافق هواه الشخصي في التداعي العفوي لمشاعره التلقائية, وأن الكتابة المباشرة عن الذات سرعان ما تنتهي إلى الدفق الانفعالي المباشر الذي يتباعد بهذه الذات عن الحقيقة الموضوعية بدرجات, فيحول بينها وبين موقف التأمل المحايد الذي يقتضي تباعدها عن موضوعها الذي هو إياها في واقع معرفتها, ولذلك كانت كتابة السيرة الذاتية الناجحة هي الكتابة التي تنطوي تقنياتها على ما يباعد, نسبيا, بين الذات وموضوع تأملها السردي الذي هو إياها, وذلك بواسطة تأكيد لوازم انقسام الذات على نفسها, من حيث تحولها إلى فاعل للتأمل ومفعول له ومنفعل به, من حيث انعكاس هذا الانقسام على علاقات اللغة التي يمكن أن يلعب فيها تحويل ضمائر الخطاب, مثلا, دوراً فاعلا في الابتعاد بالذات عن الدفق الانفعالي المباشر, على نحوما حدث في (الأيام) لطه حسين: إذ أتاح ضمير الغائب المعلن لضميرالمتكلم المضمر أن يجتلي حضور الخاص في نوع من الانفصال المعرفي, الأمر الذي أتاح للمؤلف المضمر أن يتحدث عن نفسه كما لو كان غيره, وكما لو كان يتطلع إلى نفسه في مرآة تتيح له معاينة إن لم تكن محايدة فهي قريبة من الحياد, والنتيجة هي ما تنتهي إليه (أنا) المؤلف المضمر من معرفة بما لم تكن تعرف من دلالات وقائع تاريخها الشخصي الذي تجفوه لتعرفه, وتنأى عنه لتدنو منه بإداك جديد له.

ويبدو أن جنس الرواية بوجه أعم, ورواية السيرة الذاتية بوجه أخص, يتيح لهذا الانقسام أن يتحقق على نحو أكثر تركيبا وشمولا وتنوعا, لأنه يتيح للمؤلف أن يختفي وراء أقنعة الشخصيات المختلفة, وأن يتأمل نفسه في مراياها التي تعكسه بأكثر من معنى, وذلك على نحو يتيح للذات التي ينطوي عليها المؤلف, في إعلانه أو إضماره, أن تتعرف نفسها بواسطة غيرها, وتستبطن تحولات وعيها أو مشكلاته في علاقتها بغيرها, منعكسة على تجليات وعي الآخر المغاير, بل متجسدة في مواقف وأحداث الشخصيات المتباينة التي تعاين فيها الذات ما يؤرقها من مشكلات الحضور أو الوجود. هكذا تقترب الذات من الحقيقة الموضوعية بأوجهها المتعددة في إطارها الأوسع, بواسطة تعرفها حقيقتها الشخصية في علاقتها بهذه الحقيقة الموضوعية.

وقد أصبحنا أكثر وعيا بهذا النوع من انقسام الذات منذ أن تراكمت دراسات التحليل النفسي التي انطلقت من مفهوم فرويد عن (انشطار الذات). وهي الدراسات التي تركت آثارها على قراءة ما عرف باسم الرواية النفسية, ربما من قبل أن ينشر فرويد كتابه عن (الأنا والهو) (الذي ترجمه جورج طرابيشي إلى العربية بعنوان (الأنا والهذا) في بيروت سنة 1983) بسنوات عديدة, وتحديدا منذ أن كتب سنة 1908, ملاحظا أن الرواية النفسية بوجه عام تدين بخواصها إلى ما يميل إليه الكتاب المحدثون من شطر ذواتهم, بواسطة الملاحظة الذاتية التي تحيل (الذات) الواحدة إلى (ذوات) متعددة في مدى تأملها نفسها, وذلك على نحو أتاح لهؤلاء الكتاب تشخيص النزعات المتصارعة في حياتهم العقلية بواسطة أبطال متعددين.

هذا الميل المحدث له جذوره القديمة, بالطبع, في كتابات الأدباء الذين شعروا أكثر من غيرهم بالتمزق بين دوافع متعارضة ورغبات متصارعة, والذين أبرزوا هذا التمزق في كتاباتهم التي جسدته بقدر ما تضمنته, إلى أن أصبحت الجذور الأولى القديمة تيارا أساسياً في الكتابة الحداثية, خصوصا ما اقترنت به هذه الكتابة من قص نفسي مركب, يتميز بمعالجاته الرهيفة المتقصية للصراعات الداخلية, تلك الصراعات التي كشفت عنها كتابة أمثال جيمس جويس وفرجينيا وولف في النصف الأول من هذا القرن. وهي الكتابة التي غدت ممكنة بسبب تزايد المعرفة حول مفهوم (الوعي المنقسم), الذي طرحه التحليل النفسي الفرويدي, منذ أن بدأ بالحديث عن (انشطار الذات) ودلالاته وتجلياته, على نحو ما تؤكد جاليا ديمنت في كتابها عن (رواية السيرة الذاتية) من حيث هي تعبير عن الوعي المزدوج في كتابة كل من إيفان ألكسندروفتش جوتاشاروف, وفرجينيا وولف, وجيمس جويس.

المضمر والمعلن

ويمكن القول, تعميما, إن جنس الرواية أقدر من فن السيرة الذاتية في حدودها المعتادة على سبر أغوار التجليات المختلفة لانقسامات الذات في مستوياتها المتعددة, وذلك بسبب الطبيعة الحوارية لهذا الجنس, ومن ثم قدرته على الجمع بين الأصوات المتآلفة والمتنافرة مهما كان تعددها أو تنوعها أو تباينها, ومن ثم مساعدة المؤلف المضمر والقارئ المعلن على تأمل طبيعة الانقسامات التي تنطوي عليها ذات المؤلف بوجه عام, أعني الانقسامات التي تتحول إلى أصوات متباينة تنعكس بقدر ما تتجسد في مرايا البطل الواحد أو الأبطال المتعددين, تاركة أصداءها على الملامح المائزة لأقنعة الشخصيات وعلاقات الأحداث. وإذا نظرنا إلى الأمر من زاوية المؤلف وحده, مضمرا أو معلنا, لاحظنا ما تنطوي عليه حوارية الجنس الروائي من إمكانات معرفية, تتوسل بها الذات في سعيها إلى معرفة أكثر موضوعية بنفسها, خصوصا في أحوالها الأولى التي كانت أساس كل المراحل اللاحقة.

والصلة جد وثيقة بين (رواية السيرة الذاتية) و(رواية التكوين) و(رواية التربية) من هذا المنظور, ذلك لأن كل نوع من هذه الأنواع الفرعية لجنس الروايةيتماس مع فن السيرة الذاتية ويتداخل معها في مرحلة التكوين الأولى أو مرحلة التربية الأساسية التي هي أساس نشأة البطل الذي يصل خطابه المباشر بخطاب السيرة الذاتية في أكثر من مجلى. ولكن تظل كل هذه الأنواع الفرعية من الرواية متميزة عن السيرة الذاتية بقدرتها على الإحالة إلى الذات بوسائط متعددة, متنوعة, متباينة المستويات, الأمر الذي يترتب عليه إبطاء إيقاع اللقاء بهذه الذات, وإبراز انقساماتها المتعددة في مختلف تجلياتها على نحو يؤدي إلى شمول النظرة وتعمق إدراكها.

وقد انتبه النقاد بوجه خاص إلى أبعاد الصلة الدالة بين (رواية التكوين) و(رواية التربية) من ناحية وفن السيرة الذاتية من ناحية ثانية, وأشاروا إلى أن الأصل في ذلك هو الاهتمام بالتحليل النقدي الذي يقدمه المؤلف للعصر الذي يعيش فيه بواسطة شخصيات تدل عليه بأكثر من دلالة. ويجتلي فيها حضوره المضمر بطرائق متعددة. وفي ذلك, تحديدا, ما يشير إلى تميز السرد الروائي لهذين النوعين خصوصا في إطار المرجع الخارجي أو الشفرة اللاشعورية التي ينقلب بها المؤلف المضمر إلى مؤلف معلن, أو يتحول بها البطل أو الأبطال إلى قناع أو أقنعة للمؤلف الذي يتحدث من وراء حجاب, أو يراقب حضوره في مرايا غيره التي هي إياه بمعنى أو آخر.

التطهر بالبوح

ويبدو أن الأمر هو نفسه من منظور مايسمى برواية الاعتراف التي تزايد حضورها الإبداعي في الأدب العالمي الحداثي, كاشفة عن تصاعد ميل الفرد المعاصر إلى الإفضاء بمكنون نفسه, والاعتراف إلى نظيره القارئ بما يدني بهذا الاعتراف إلى حال شعائري أقرب إلى التطهر بالبوح الذي يشبه إفصاح السيرة الذاتية عن كاتبها, أو يشبه استرسال الذات المستلقية على أريكة التحليل النفسي في شكل مواز من أشكال الاعتراف التطهري, فرواية الاعتراف التي هي نوع قصصي غير بعيد عن السيرة الذاتية تكتب, عادة, بضمير المتكلم الذي تتكشف به أعماق المؤلف المضمر, ذلك الذي لايغادر دائرة أقنعة ومرايا الشخصيات التي يختفي وراءها, أو يكشف عن أعماقه في تكشف أعماقها. والمثال العالمي المشهور الذي تضربه معاجم الأدب على هذا النوع من رواية الاعتراف هو رواية ألبير كامي (السقوط). ولكن ما يصل رواية الاعتراف بالسيرة الذاتية هو ما يميزها عنها. أقصد إلى القدرة الحوارية التي تتجلى في انقسام الذات التي تعترف إلى نفسها في الوقت الذي تعترف إلى غيرها, والتي تشير إلى نفسها في إشارتها إلى غيرها, مستخدمة تقنية المغايرة على سبيل القناع والمرآة اللذين يتعدد بهما حضور الشخصيات, ومن ثم تتسع أمام الأنا حدود الممكن من حوارها الذاتي متعدد المستويات والوسائط, وهو الحوار الذي يثريه تباين الأقنعة والمرايا التي تكشف عن كل ما لايمكن الكشف عنه من دونها.

وأتصور أن تقنية القرين (Double ) وسيلة أساسية في هذا النوع الأخير من كشف المعرفة الإبداعية, ومن ثم إمكان آخر من الإمكانات التي تتيحها حيل الرواية في مدى الاعتراف بانشطار الذات, خصوصا لأن تقنية القرين تقوم على تخيل ذاتين أو أكثر في ذات واحدة. وترجع إلى ما شاع اعتقاده بأوربا في القرن التاسع عشر من الإيمان بازدواج الشخصية الإنسانية, الأمر الذي انعكس على الأدب بعامة والقصة بخاصة, فظهرت أعمال متعددة محورها القرين: الذات المتحولة, أو الذات الثانية, أو الذات الأخرى, أو الذات الحديثة المتعددة, في كتابات تجمع مابين إدجار آلان بو, وشارلز ديكنز, ودوستيفسكي, وجوزيف كونراد, وروبرت لويل, ونورمان ميللر, وسول بيلو, وقد قدمت السينما أكثر من مرة الرواية التي كتبها روبرت لويس ستيفنسون بعنوان (دكتور جيكل ومستر هايد) سنة 1886 فأصبحت الرواية أكثر روايات الشخصية المزدوجة شهرة في أوساط عوام المثقفين, بل أشهر حتى من اسم مؤلفها الذي لم تنل بقية أعماله (من مثل (عبر السهول) 1892 (المهاجر الساذج) 1895) الحظ نفسه من الشهرة.

وعموما, فتقنية القرين تقنية دالة في حضورها أو غيابها, سواء من منظور الأدب العالمي الذي يحتفي بالقرين احتفاءه بانشطار الذات وانقساماتها, أو منظور الأدب العربي الذي لايزال حضور القرين شاحبا, بل غائبا فيه. وتلك ظاهرة دالة في ذاتها, يكشف مدلولها عن اتساع رقعة المسكوت عنه والمقموع في خطاب الذات في دوائر هذا الأدب بالقياس إلى غيره من الآداب العالمية, ومن ثم يكشف عن النتيجة المترتبة على الظاهرة, وهي ندرة استخدام المصطلح وعدم شيوعه في السياقات النقدية العامة والخاصة المرتبطة بفن القصة. ولذلك لم نجد في نقدنا العربي الحديث أو المعاصر كتابا من صنف كتاب رالف تيس عن (القرناء في علم النفس الأدبي) 1949 أو من وزن الكتاب الذي عرف به كارل ميللر عن (القرناء) 1985 وهو دراسة, موحية, شاملة لتقاليد انشطار الوعي في الثقافة الأنجلو أمريكية خلال القرنين الأخيرين.

أحادية الصوت

والحق أن الارتفاع المتزايد في معدلات كتابة الرواية التي تصل العنصر الذاتي, في حياة كاتبها, بتقنيات رواية التكوين والتعليم, وأساليب رواية الاعتراف أو رواية القناع, تدفعنا إلى وضع السيرة الذاتية بمعناها التقليدي موضع المساءلة, وفي الوقت نفسه, نعيد النظر في الخصائص النوعية التي ينطوي عليها جنس الرواية في علاقته بأنواعه الفرعية من ناحية, وعلاقته الملتبسة بفن السيرة الذاتية من ناحية ثانية, وعندئذ, نلتفت إلى حقيقة دالة, مؤداها أن هناك بين كبار الكتاب من يؤثر الشكل الروائي بحواريته متعددة الأصوات على شكل السيرة الذاتية بنجواه أحادية الصوت, مختصا الأول بصفات إيجابية في إمكاناتها الجمالية والمعرفية من حيث التنوع والثراء, سواء من حيث درجات الإبانة عن أحوال الذات أو الكشف عن انقساماتها والإشارة إلى قدرتها على مجاوزة حدودها.

ويشير الممكن الأخير إلى مدى المعرفة التي تمتلكها هذه الذات, حين تضع وعيها المنقسم موضع المساءلة المباشرة بواسطة الأقنعة والمرايا: أقنعة الشخصيات ومرايا الأحداث الموازية رمزيا للواقع أو الوقائع.

هكذا, ينقل فيليب لوجان, فيما كتبه عن السيرة الذاتية, عبارات أندريه جيد التي تقول: لايمكن أن تكون المذكرات إلا نصف صادقة, حتى لو كان هم الحقيقة كبيرا جدا, فكل شيء أكثر تعقيدا, دائما, مما نقوله, وربما كنا نقترب من الحقيقة أكثر في الرواية. وتلك عبارات لاتختلف في مغزاها عن ما قصد إليه فرنسوا مورياك حين انحاز إلى الرواية بالقياس إلى السيرة الذاتية, لأن الأولى تعبر عن الجوهري فينا أنفسنا, ولأن المتخيل هو وحده الذي لايكذب, إذ أنه يشق بابا سريا في حياة إنسان ما, تلج مه روحه المجهولة إلى ما يخرجها عن كل شكل من أشكال الرقابة. وقد أقام ألبير تيبوديه تعارضا ثنائيا بين الرواية التي رآها عميقة متنوعة والسيرة الذاتية التي رآها سطـحية مبسطة.

أما جان بول سارتر الذي نشر جانبا من سيرته الذاتية بعنوان (الكلمات) فقد قرر أن يكمل عمله في القالب التخييلي للرواية, قائلا: (لقد حان الوقت لكي أقول الحقيقة, أخيرا, لكن لايمكن أن أقولها إلا في عمل تخييلي). ويوضح ما كتبه بتقرير عقد القراءة الذي يفرضه على قارئه بقوله: (نويت كتابة قصة أريد أن أمرر فيها بطريقة غير مباشرة ما كنت أنوي قوله سابقا في نوع من الوصية السياسية, ستكون تتمة سيرتي الذاتية التي تخليت عنها. وإذ ذاك سيكون التخييل رهيفا جدا, لأني سأبدع شخصية يمكن للقارئ أن يقول عنها: هذا الإنـسـان الذي يتعلق به الأمر هو سارتر).

لا يعني ذلك بالتأكيد التقليل من أهمية كتابة السيرة الذاتية أو إنكار إلحاحها على الوعي المعاصر في نزوعه الفردي, فالترابط وثيق بين الوعي بحضور الفرد وتأسيس السيرة الذاتية, والصلة قوية بين تجلياتها المتحولة وتحولات الطبقة التي أنتجتها: الطبقة الوسطى, والعلاقة دالة بين تنويعاتها المتصاعدة والارتفاع المطرد لميل الفرد المعاصر إلى الإفضاء بمكنون نفسه. ولاسبيل إلى إنكار دافعها الأولي الذي يقترن بما تسهم به ذاكرة الفرد في تحريره بالكشف عن إنجازه الخاص, فالسيرة الذاتية من أكثر الظواهر الكاشفة لواحدة من كبرى أساطير الحضارة الغربية الحديثة ـ أسطورة الأنا, ومن خلالها يتجلى مفهوم الشخصية والنزعة الفردية التي اقترنت بالليبرالية الغربية فما يقول فيليب لوجان فيما كتبه عن الميثاق المرجعي للسيرة الذاتية. ولكن ذلك كله لايقلل من دلالات ما تنطوي عليه الرواية من إمكانات إبداعية, لاتمتلكها السيرة الذاتية التي لاتستطيع, في التحليل النهائي لحدودها الممكنة, أن تفارق أحادية رجع الصوت الواحد المتجسدة به والمجسدة له إلى الإمكانات اللانهائية للتعددية المذهلة التي تنطوي عليها البنية الحوارية المفتوحة للرواية, وهي البنية التي تحررها, دائما, من توثن أو توثين أي شكل أو قالب من أشكال القص وقوالبه.

 

جابر عصفور