محمود درويش... على هذه الأرض ما يستحق الحياة (شاعر العدد)

محمود درويش... على هذه الأرض ما يستحق الحياة (شاعر العدد)

محمود درويش.. الشاعر الذي قاوم الموت وهو يصر على الحياة عبر بوابة القصيدة الموشاة بالأمل، فكان أن مات بعد أن ترك أسئلته الوجودية مفتوحة على أساه الدائم وقصيدته التي جعلها عنوانا للوطن وللإنسان، فصارت اسما له، وهوية لوجوده وإيقونة للوجد في صورته البشرية الأكثر قدرة على اختزال الإنسان.

في مثل هذا الشهر قبل عام واحد، توقف قلب الشاعر محمود درويش إثر عملية جراحية خضع لها في إحدى مستشفيات مدينة هيوستن في الولايات المتحدة الأمريكية. وعلى الرغم من أن درويش قد خضع لمشارط الجراحين مرتين قبل ذلك، وفي كل مرة كان يعود للحياة بعد أن يقف على حافة الموت، بالكثير من الأسئلة الجديدة، والتي سرعان ما يزرعها في أرض القصيد شعرا كامنا في الفتنة، وكأنها بذرته الأولى، إلا أنه في المرة الثالثة عبر الحافة، إلى الحقيقة الأخيرة، فكان موته النهائي وكان انتصاره المكتمل وكانت قصيدته التي لا يريد لها أن تنتهي، وكانت جدارية القدر في غياهب الموت.

بدأت قصيدة الشاعر الفلسطيني محمود درويش جرحا مفتوحا على تضاريس وطن سليب، ورصاصة مدوية في صدر عدو شرس وغادر. وظلت هكذا إلى أن صنعت له اسمه الكبير في ديوان العرب ولدى جمهور الشعر الذي صفق طويلا لدوي المفردات وصهيلها العنيف. لكن قصيدة درويش تحولت بعد ذلك إلى أغنية للأمل وللحياة وللإنسان في كل مكان من دون أن تنتهي أو تتخلى عن هم الوطن الذي صار البيت والقلب والروح والسماء والأجنحة والفضاء والحبيبة.. والوردة أيضا.

ولد هذا الشاعر, الذي صار خلال نصف القرن الأخير الشاعر العربي الأهم, في قرية البروة الفلسطينية يوم الثالث عشر من مارس العام 1941، وفي عام النكبة 1948 لجأ مع عائلته إلى لبنان، وبقي هناك عاما واحدا قبل أن تعود العائلة كلها إلى فلسطين تسللا، حيث استقروا في قرية الجديدة بالقرب من قريته الأم، التي كانت قد تحولت على يد الاحتلال الإسرائيلي إلى مستوطنة يهودية.

أكمل درويش تعليمه في فلسطين وانضم خلال ذلك إلى الحزب الشيوعي في إسرائيل، وعمل بالصحافة منتشيا برائحة القصيدة التي صارت همه وموهبته، فلم يسلم من مضايقات السلطات الإسرائيلية، حيث اعتقل أكثر من مرة، لكن الاحتلال لم يستطع اعتقال قصيدته التي بدأت تصير أقوى من الرصاصة وأمضى، فاتسعت روحه من خلالها، وصار حنينه إلى قهوة أمه وخبزها وهو في السجن أغنية لجميع المعتقلين في سبيل الوطن والحرية في الدنيا كلها.

عندما أصدر درويش ديوانه الأول «عصافير بلا أجنحة» لم يكن يتجاوز التاسعة عشرة من عمره، لكن قصيدته كانت قد تجاوزت مداها المحلي، فسبقه اسمه بتتابع صدور مجموعاته الشعرية الى العالم العربي. وعندما هاجر العام 1972 إلى مصر، كان الوسط الثقافي المصري بانتظار هذا الشاعر الشاب الذي صار أحد أضلاع مثلث شعر المقاومة الفلسطينية الى جانب رفيقيه توفيق زياد وسميح القاسم. ومن القاهرة انطلق الشاعر وتفاقم الشعر، وبقى الوطن سرا كامنا بينهما في المبنى والمعنى.

انتقل محمود درويش بعد ذلك إلى بيروت حيث عمل في مؤسسات النشر والدراسات التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية وأسس مجلة الكرمل وبعض المطبوعات الأخرى، واقترب كثيرا من قائد الثورة الفلسطينية آنذاك ياسر عرفات، حتى إنه أصبح عضوا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، مما عرضه لانتقاد بعض المثقفين ممن يرون الاقتراب من السلطة إلى هذا الحد تصرفا لا يليق بالشعراء. لكنه استقال بعد ذلك بعدة سنوات احتجاجا على اتفاقيات أوسلو التي عقدتها المنظمة مع إسرائيل.

فضل درويش الإقامة بعد استقالته في باريس قبل عودته إلى وطنه في السنوات الأخيرة مقيما في رام الله..متفرغا للكرمل وللشعر حيث تتابعت مجموعاته الشعرية في السنوات الأخيرة، وتسامت قصيدته لتحتوى العالم كله، فإذا كانت تلك القصيدة قد بدأت قلبا للقضية فإنها تحولت لتصنع من القضية قلبا لها، وبعد أن كانت فلسطين قطعة أرض مقدسة مغتصبة من أرض عربية على يد الصهاينة وبتواطؤ سياسة غربية منحازة، صارت فلسطين هوية للحرية وكلمة للأمل، وميثاقا للحياة. فلم يكن درويش وهو الشاعر الذي يتنفس الشعر ليرضى بوظيفة محددة لقصيدته تحت ظلال القضية الوطنية وحدها، بل صارت تلك القضية رئة للقصيدة، وهما لشاعرها من دون أن تسيّجها باشتراطاتها القاسية، وهكذا تحرر الشاعر وتكامل الشعر في تضاعيف الموت والحياة.

توفي محمود درويش في اليوم التاسع من أغسطس العام 2008، في الولايات المتحدة الأمريكية، ودفن في رام الله تحت يافطة كتب عليها عبارته الشعرية «على هذه الأرض ما يستحق الحياة»...

نعم على هذه الأرض ما يستحق الحياة.. ومنه شعر محمود درويش الذي تركه لنا في مجموعات شعرية، ربت على العشرين مجموعة شعرية بالإضافة إلى عدد من الكتب النثرية، وقد صدرت مجموعته الشعرية الأخيرة بعد وفاته بعنوان «لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي»، ولأننا لانريد لقصيدة درويش أن تنتهي أيضا، نتذكره في الذكرى الأولى لرحيله عبر اختيارات شعرية نذيل بها بعض صفحات «العربي» لهذا الشهر.

 

 

سعدية مفرح