ذكريات عائلية

ذكريات عائلية

لا أذكر الكثير عن بدايات حياتي التي تبدو لي بعيدة جداً، بعد أن جاوزت الخامسة والستين من عمري، وبالرغم من ذلك فلا أزال أحتفظ في ذاكرتي ببعض الصور التي تقاوم النسيان، وتلح عليّ بين الحين والحين، خصوصاً عندما يغلبني الحنين إلى الماضي، فيدفعني إلى أن أستعيد صوره البعيدة، مدركاً أن السنوات الأولى من حياة الإنسان هي التي تسهم في تشكيل شخصيته بعد ذلك.

كانت البداية في مارس 1944 مع اقتراب الحرب العالمية الثانية من نهايتها، حين وُلدت لأب قادم من مدينة الإسكندرية، موطنه الأصلي الذي ينتسب إليه، وكان أبي من عائلة مستورة تنتسب إلى شريحة من شرائح الطبقة الوسطى التي كانت أقرب إلى الفقر منها إلى الغنى، الذي تتمتع به الشرائح العليا لهذه الطبقة التي ظلت طويلاً عماد الحياة في المجتمع المصري، ومصدر القيم الأساسية فيه. وكان جدي لأبي تاجر مصوغات بسيطاً دفع بولديه الشقيقين من آخر زوجاته إلى المدرسة الأولية، وكان مزواجاً فيما عرفت، ولذلك كان لأبي أكثر من أخ وأخت من زوجات جدي، ولذلك كنت أعجب من كثرة عماتي وأعمامي، لكن ما فهمته دون حديث مباشر من عمي عبدالمنعم، الذي كان شقيق أبي الوحيد، أن أمهما كانت الزوجة الأولى التي ظلت لها الحظوة والمكانة. ويبدو أن جدي لأبي قرر أن يعمل معه ولداه الكبيران في عمله، ويبدآن في تعلّم حرفة الصياغة، والتجارة في المصوغات الذهبية التي كان يعمل في تصنيعها وبيعها. وكان أبي أكثر فرحاً بهذا القرار، لأنه لم يشعر بالسعادة قط في المدرسة التي كان يذهب إليها مع أخيه في حي الأنفوشي بالإسكندرية، ولذلك لم يتعلم شيئاً، وظل أمياً بقية حياته، وفرح بأن يهجر قيود المدرسة ويذهب للعمل في صاغة أبيه، وتحت إشرافه شخصياً، ولكن طبعه المتمرّد على أي قيد، حتى صياغة الذهب والتجارة فيه، كان يدفعه إلى الفرار من دكان أبيه، خصوصاً بعد أن تحوّل الدكان إلى ما يشبه مدرسة أخرى، أكثر صرامة وقيوداً، فقد كان جدي يريد أن يورثه مهارته الحرفية وتجارته على السواء، ولكنه يئس أخيراً من رفض الابن الأكبر لكل محاولة، وتفضيله الانطلاق الحر، والتصعلك في شوارع مدينة الإسكندرية، ما بين حي الأنفوشي، حيث يقع منزل الأسرة القديم، وحي الرمل القريب من منطقة الصاغة التي تقع صاغة جدي في أحد شوارعها بالغة الضيق، مجاورة لزنقة الستات التي تُفضي إلى ميدان المنشية الكبير الذي لايزال يبهرني بعمارته القديمة، وما يطل على جانبيه من مبان أثرية، أهمها مبنى وزارة الحقانية (وزارة العدل حالياً) الذي لا يبعد كثيراً عن مبنى بورصة الأوراق المالية، ذات الشرفة الشهيرة التي وقف فيها جمال عبدالناصر، معلناً تأميم قناة السويس، بادئاً سياسة التأميم التي أفضت إلى العدوان الثلاثي (الإنجليزي، الفرنسي، الإسرائيلي) على مصر. وكان ذلك في يوليو 1956، قبل أن تمضي السنوات العديدة وينتهي الزمن الناصري، ويبدأ زمن السادات الذي تعمّد هدم مبنى البورصة، كما لو كان يمحو من الذاكرة تاريخاً مجيداً لأكبر لطمة تلقاها الاستعمار القديم الذي سعى إلى التأثر فوراً، ولكنه سرعان ما خسر المعركة، بفضل نضال الشعب المصري في مدن القناة، ومساعدة الأصدقاء، وعلى رأسهم الاتحاد السوفييتي الذي كان يدعم حركات التحرر الوطني في ذلك الزمان.

الشاة السوداء

أما قبل ذلك بسنوات عدة، وقبل قيام الحرب العالمية الثانية، فكان أبي يتسكع ما بين المنشية ومحطة الرمل، مجبراً أخاه الصغير، عمي عبدالمنعم، على التسكع معه، وكان عمي أكثر وسامة من أبي، فقد كان وجهه الأبيض مشرباً بحمرة تضفي عليه جمالاً خاصاً، يبدو معه كما لو كان ابن عائلة محترمة، وقد اعتاد أبي إذا اقترب كلاهما من عساكر الاحتلال البريطاني الذين كانوا يتسكعون في هذه المناطق، أن يقرص عمي قرصات موجعة في خديه كي يزداد احمراراً، فيبدو أشبه بأولاد الخواجات، أو يضربه بما يبكيه، فيثير بكاؤه فضول العسكر الإنجليز فيسألونه عما به، ويرد أبي قائلاً: No Father, No Mother، فتنتاب الجنود نوبة عطف على الطفل الجميل المسكين، ويجود عليهم بعضهم بالحلوى، أو النقود القليلة، وقد استمر الأمر على هذا الحال إلى أن اكتشف جدي الأمر، فكانت علقة كبيرة من نصيب أبي، ومنع عمي من الخروج معه، وعدم مفارقة الصاغة إلا في صحبة جدي الذي ترك أمر ابنه الجانح، أبي، إلى الله، عسى أن يهديه، وكان نتيجة القرار أن ابتعد أبي عن تعلم صنعة أبيه التي سرعان ما أتقنها أخوه الذي أصبح والده، يعتمد عليه، ويوكل إليه تدبير أمور الصاغة.

وضاقت الدنيا في عيني أبي، بعد أن بدأت نذر الحرب في التدافع، فاستغل ما كان يعرفه من كلمات إنجليزية، وكلمات يونانية وإيطالية، بحكم تعامله مع الجاليات اليونانية والإيطالية والأرمنية التي كانت تملأ الإسكندرية قبل الحرب، وظل أبناء الجالية اليونانية على حالهم، على النقيض من الإيطاليين الذين أخذ الإنجليز يطاردونهم، خصوصاً من اشتموا منهم تأييد فاشية الدوتشي، موسوليني، وقبل أبي العمل مترجماً مع الإنجليز، وذهب معهم إلى الصحراء الغربية حيث ساحة الحرب التي أخذت تدور بينهم وبين الألمان، وظل كذلك إلى أن عاوده طبعه الملول، فترك ساحات الحرب، التي قاربت على الانتهاء، وعاد منها إلى مدينة دمنهور غير البعيدة من مدينة الإسكندرية، واستقر به المقام مع أقرباء للعائلة، تزوج ابنتهم، وقبلوا هم الزواج، لعله يهدأ ويستقر، محققاً حلم والده الذي كان يتمنى له الاستقرار مع أقربائه في دمنهور، ولكن طبعه الملول عاوده مرة أخرى، وكان والده قد توفي، تاركاً الصاغة لعمي عبدالمنعم الذي واصل العمل موضع أبيه والحفاظ على الصاغة التي تخلى أبي له عنها، طوعاً، حباً له، ووفاء لأبيه الذي خصه بالعمل معه، واكتساب الصنعة منه، بعد انفلاتات أبي الذي سرعان ما كره الاستقرار في مدينة دمنهور، خصوصاً بعد أن اكتشف أن زوجه عاقر، غير قادرة على الإنجاب، فانطلق إلى بلاد الله، معتمداً على الله، منتقلاً من بلد إلى بلد، ممارساً العديد من المهن، التي سرعان ما تركها كعادته إلى أن وصل إلى مدينة المحلة الكبرى، التي كانت قد بدأت في الازدهار نتيجة صناعة الغزل والنسيج اليدوي التي اشتهرت بها قديماً، والتي كانت السبب في إنشاء بنك مصر لمصنع الغزل والنسيج الحديث فيها، وذلك بسبب موقعها الجغرافي من ناحية، وطبيعة مناخها الرطب الذي يسهم في تقوية خيوط القطن المغزول من ناحية أخرى، واختار أبي أن يستأجر مكاناً لتجارة البقالة في شارع سعد زغلول الذي كان قلب المحلة الكبرى التجاري إلى جانب شارع العباسي، وتصادف أن رأى أبي أرملة جميلة، قوية الشخصية، تعمل من أجل رعاية أبنائها اليتامى، وكان واضحاً أنها ولود، قادرة على تحقيق حلمه في أن تكون له ذرية خاصة به، وولد يحمل اسمه على وجه الخصوص، أما هي فقد رأت فيه موئلاً وشريكاً يعينها، وتعينه على مواجهة الأيام، فتزوجا وأصبحت هي ساعده الأول في تجارته، وفاتحة أبواب الرزق عليه، لأنها كانت أكثر منه حزما، وتقاوم فيه الإفراط والكرم والطيبة البالغة التي اعتاد عليها، فأصبحت خصالاً راسخة في شخصيته، ومرت السنوات إلى أن رزقا بابنة أسمياها ليلى لأن كليهما كان يحب ليلى مراد، ولكن مرّ عام بعد عام، ولم يأت الولد الذي كان أبي يحلم به، فنذر أبي لسيدي جابر، الذي اعتاد أن يذهب إلى مقامه في الإسكندرية أنه إذا رزقه الله بولد، فإنه لن يكف عن إطعام البؤساء المتحلقين حول مقامه، وظل يدعو الله أن يرزقه بولد يبقي على ذكره في الحياة بعد مماته.

طه حسن.. من؟

واستجاب الله لدعائه، ولم يرزقه بولد واحد، بل رزقه بتوأم، أطلق على اسم أولهما جابر، والثاني سيد، ويبدو أن عناية الله، أبقت على الوليد جابر، وتوفي سيد بعد أقل من شهر، أو أكثر قليلاً ولم يحزن أبي، وإن كان يود من أعماقه أن يكون له ولدان بدل ولد واحد، ولكنه رضي بما قدّره الله، ودعا للمولود الحي أن يحفظه الله، وأن يكون محققاً حلم إكمال التعليم الذي لم يطقه أبي، وتمرّد عليه، وندم على ذلك بقية حياته، ولكنه لم يكن من النوع الشكّاء، خصوصاً بعد أن رزقه الله بالابن الذي ظل يدعو الله أن يحقق هو كل ما عجز أبوه عن تحقيقه، ولذلك كانت دعوته المفضلة المتكررة لذلك الابن، هي أن يمد الله في عمره حتى يراه مثل طه حسين، وكانت أمي تسأله: مَن يكون طه حسين هذا، فكان يشرح لها، ويذكّرها بأن طه حسين أصبح باشا، وأنه ذهب إلى بلاد برة، وتفوّق على أهلها في العلم والمعرفة، وأنه أستاذ جامعة عظيم، وأنه لذلك وغيره أصبح وزيراً للتعليم، وهو الذي أمر بأن يكون التعليم كالماء والهواء للجميع، أي بالمجان ومن دون مقابل، وكان طه حسين قد أصبح وزيراً للمعارف في سنة 1950، حين كنت في السادسة من عمري. ولذلك كان دعاء أبي وأمانيه على السواء ولم أكن مثل أمي، أعرف شيئاً عن طه حسين، ولا أظن أن أبي نفسه كان يعرف شيئاً عن الجامعة التي نال منها طه حسين الدكتوراه، ولا الجامعة الأجنبية التي أكمل تعليمه بها. فكل ما كان يعرفه أبي أن طه حسين هذا باشا، وأنه عبقري لم يمنعه عماه من أن يصل بالعلم إلى مرتبة الباشوية، تماماً كما دفعه حبّه للفقراء أن يجعل التعليم مجاناً لأولادهم.

وبقدر ما أذكر هذا الدعاء لأبي الذي أصبحت أمي، مع مرور الوقت، تكرره بدورها، بعد أن عرفت اسم هذا الباشا الذي يريد زوجها لابنه أن يكون مثله، وكانت بدورها، تحب لابنها ما يحب له أبوه، خصوصاً أنه آخر العنقود الذي أصبح أحب أبنائها وبناتها إليها، حتى لو كانت تقسو عليه، كي لا يفسده حنان أبيه المفرط الذي لم يكن يرفض له طلباً. أما الأب، فبسبب ما نذره لسيدي جابر في الإسكندرية، كان يصحب ابنه لكي يزورا قبر الشيخ الذي حلت بركاته في ميلاد سميه الصغير. وكانت أمي تصحبنا في هذه الرحلة، أحياناً، لكن دون أن تنسى تعنيف أبي على إسرافه فيما يمنحه من صدقات، فقد كان من رأيها أنه بدل هذا الإسراف، على أبي أن يعمل حساب المستقبل الذي لا يعلم أحد ما يخبئه من أمور. أما المرات التي لم تكن أمي تصحبنا، وشقيقتي ليلى التي كانت تكبرني بسنوات قليلة، فكان أبي يذهب معي وحدي، لكي نقرأ الفاتحة أمام مقام سيدي جابر، ويدعو لي بالصحة والعافية، دون أن ينسى تكرار الدعاء كي أكبر وأكون مثل طه حسين.

زيارة سرية

وأذكر أن أبي، وكنا وحدنا، اصطحبني معه، وسافرنا إلى دمنهور، حيث اكتشفت أنه لم يطلق زوجته الأولى، وكان اسمها بدرية، رحمها الله، فقد كانت حنوناً إلى أبعد حد، ولعلها رأت في ابنها الذي لم تستطع أن تنجبه لقريبها الذي ظلت جوانحها تنطوي على حب عظيم له. وقد تأثرت بحنان هذه السيدة، وعلّمني أبي أن أقول لها ماما بدرية. وكانت تسعدها هاتان الكلمتان إلى درجة تكاد عيناها تدمع بمجرد الاستماع إليهما، وكانت تغدق عليّ بالحلوى والأحضان كما لو كنت ابنها فعلاً. أما أنا فقد كنت أقابل هذا الحنان بالعرفان، وأشعر أنها أمي بالفعل وليست زوج أبي. وبالطبع، لم ينس أبي أن يوصيني أن لا أخبر أمي بهذه الزيارة، فقد كان يخشى من غضبها القاسي، وظللت محافظاً على السر الذي استأمنني عليه أبي، الذي كان أقرب لي بحنوّه وتسامحه وكرمه من أمي الصارمة العنيدة التي لم تكن تسامحني إذا أخطأت، أو رأت هي أنني أخطأت. وعندئذ، يبدأ حسابها القاسي العسير الذي لم أعرف إلا في آخر سنواتها أن كل هذه القسوة كانت لمصلحتي، ولأنها كانت تريدني أن أكون صلباً قوياً مثلها. وأظنني أصبحت كذلك، لكن مع كل ما ورثته عن أبي من طيبة وتسامح، ولذلك أبدو لنفسي، كأني أنطوي على شخصيتين لا تخلوان من تضاد: الشخصية التي ورثتها عن أمي، وأحسبني بعد سنوات عدة، طويلة، من العمر، استطعت التوفيق بين الشخصيتين، لكن بما ظل مبقياً على تجاورهما.

الطريف أن أبي هو الذي أفشى سر زيارتنا لزوجه السابقة، ويا للثورة والغضبة اللتين تحملهما بسبب طيبته، وعدم قدرته على كتمان أسراره، خصوصاً حين كان ينخدع بلحظات الصفاء التي تجمعه وأمي، في حالات اعتدال مزاجها، وحضور ابن عمها الطيب كما كنا نداعبها. ولم تترك أمي أبي إلا بعد أن أقسم لها أنه لن يذهب إلى بدرية أبدا. ولم تكتف بذلك، فجلعته يحلف أمامها أنه سوف يذهب غداً إلى المأذون لطلاق بدرية طلقة بائنة. وذهب في اليوم التالي إلى المأذون، كما أخبرها، وأعلن أمامنا، وقام بتطليق بدرية التي لم يذهب إليها بعد ذلك على الإطلاق، وخسرت أنا، مع الأسف، لقاء هذه السيدة الجميلة الرقيقة التي كان حنانها يغمرني، وأشعر في حضرتها بالأمان والراحة، الطريف أن أبي خدعني وخدع أمي معاً، ولم يقم بتطليق هذه السيدة، وظل محتفظاً في نفسه بهذا السر، ولم أعرف ذلك إلا بعد وفاته، ومجيء أسرته إلى المحلة للعزاء، وكانت بصحبة عمي وعمتي، وبقية أقرباء الإسكندرية، سيدة تبدو عليها ملامح الهرم والطيبة في آن، وتقبّلت أمي عزاءها دون أن تعرف مَن هي، وعندما انفرد بي عمي ليعطيني تكاليف الجنازة، ولم أكن أستطيع رفض ما فعل، فقد كان، دائماً، في منزلة أبي، وكنت دائماً، إلى أن توفي، رحمه الله، في منزلة ابنه الأكبر. وبينما كان عمي منفرداً بي، سألني هل عرفت زوج أبيك بدرية، فانتبهت إلى أنها إحدى السيدات التي حسبها الجميع، بمن فيهم أمي، واحدة من أقارب الإسكندرية، فقلت له لم أعرفها. فقال لي: اذهب إليها. وقدم لها العزاء فمازالت زوجاً لأبيك. وعندئذ، أدركت المزيد من طبيعة أبي الذي آثر عدم إيذائها بتطليقه لها، تحقيقاً لرغبة أمي، وظل مخفياً هذا السر عنا جميعاً، خصوصاً أنا الذي كان يراني بمنزلة خزانة أسراره التي لا يريد أن تعرفها أمي أو شقيقتي، ودمعت عيناي بعد أن عرفت هذا السر، وذهبت إلى زوج أبي واحتضنتها، بينما هي كانت تغمر بدموعها وجهي في صمت، وتلحّ عليّ أن أزورها في دمنهور. ولكني لم أستطع أن أفي بوعدي لها، فقد لحقت بأبي بعد وقت قصير، كأنما لم تحتمل الحياة بعد موته، فتركت الحياة الدنيا لتلقى هذا القريب الذي لم تكف عن حبّه يوماً.

وعندما أسترجع تفاصيل كثيرة، بهت بعضها في الذاكرة، عن علاقتي بأمي وأبي، أكتشف أن صلابة أمي وصرامتها هي التي قادت الأسرة إلى بر الأمان، فقد كان أشبه بالوتد الذي يمسك بكل الأطراف، ويحافظ على ثباتها، وهي التي تولت رعاية أمور العائلة، دبّرت ولم تكف عن الادخار إلى أن استطاع أبي أن يستأجر محلاً كبيراً في ناصية عمارة كبيرة، انتهى بناؤها في شارع سعد زغلول، وبدأ أبي تجارة رائجة، أصلحت أحوالنا المالية لسنوات عدة، إلى أن أصابته مضاعفات مرض السكر الذي ورثته، وخرج من المستشفى بعد وقت طويل وعمليتين جراحيتين خطرتين، فأصبحت صحته أضعف، وقدرته على إدارة العمل أقل، وكان على أمي أن تتدخل، وتقود مركب الأسرة إلى بر الأمان، كما كانت تفعل دائماً، فهي التي تدبرت نفقات تعليمي في أولى المدارس التي دخلتها، وكانت مدرسة خاصة، ومنها إلى المدرسة الثانية التي أمضيت فيها عاماً، انتهى بتغيير نظام التعليم، وإنشاء المرحلة الإعدادية، بعد الابتدائية، لتكون مقدمة للمرحلة الثانوية، فدخلت مدرسة الأقباط الإعدادية، وكانت مدرسة خيرية بالمجان، وبعدها مدرسة طلعت حرب الثانوية التي تركتها بعد العام الدراسي الأول، كي أنتقل إلى مدرسة المحلة الثانوية التي كانت تخصصات القسم الأدبي فيها أكبر، وأمي هي التي قامت بادّخار نفقاتي في الجامعة، وقامت بنفسها بشراء الأثاث الذي حملته معي إلى القاهرة، ووضعته في غرفة صغيرة مع صديق سبقني بعام إلى دخول كلية الآداب، وهي التي كانت حريصة على أن توفّر شهرياً ما أدفع منه إيجار المسكن، بالغ التواضع، في إحدى حارات الجيزة، ومصروفات الغذاء والكساء والمواصلات إلى أن تخرجت، وأنا مدين لحسن تدبيرها الصارم الذي تعلمته منها. بالرغم مما يختلط به، أحياناً، من نزوات الكرم التي ورثتها عن أبي الذي لم أر مثيلاً له في طيبته وتسامحه. وأنا مدين لهذه السيدة العظيمة، قوية الإرادة والعزيمة والشكيمة، بأنها أوصلتني إلى بر الأمان، ولم تتخل عن رعايتي إلا بعد أن تخرجت.

الأستاذ الصغير

ولا أنسى مشهداً درامياً جمعنا، وكان أبي حاضراً، وذلك بعد أن سافرت إلى القاهرة لمعرفة نتيجة الليسانس، وأخبرتها أنني لن أتغيب سوى أيام معدودة، وعرفت النتيجة، وكنت الأول على دفعتي، وتخرجت بدرجة ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى التي لم يحصل عليها أحد قبلي على امتداد ما يزيد على عشر سنوات، فكان لابد من البقاء، والتأكد من أمر التعيين في الجامعة، ومضت الأيام ولم أجد ما يريحني من وعود الأساتذة الذين كانوا في حالة صراع، أوقف تكليفي، فعدت إلى المحلة، وما إن رأتني حتى نظرت إلي غاضبة، قائلة: ألم تقل إنك لن تطيل البقاء في القاهرة؟ فقلت لها إنني نجحت وكنت الأول على كل زملائي، فتهلل وجه أبي، وأخذني بالأحضان، ولم يخف دموع الفرح التي غمرت خديه، وكان أكثر سعادة عندما أخبرته أنه يمكن تعييني معيداً في الجامعة، فصاحت غاضبة: وهل تريد أن تعيد الدراسة بعد كل هذه السنوات؟ فضحك أبي، وقال لها: يا جاهلة، معيد يعني أستاذ صغير في الجامعة، وهذا تكريم كبير لابنك، وكعادتها، أخفت فرحتها، وقالت: المهم إنه نجح، وأراحنا من نفقاته، فضحك أبي منها، وقبّلتها بالرغم من ممانعتها الظاهرية، وسمعت وأبي همسها لنفسها: الحمدلله ربنا يحميه، وظلت على ما تعوّدت عليه إلى أن تسلمت الوظيفة الأولى لي، فقالت لي مخفية مشاعر الفرحة داخلها وراء قناع الصرامة التي كانت تجيد اصطناعه، جملتها التي لا أنساها: لقد أدّينا ما علينا، فقم أنت بما عليك، فقبّلتها، ورأيت طيف ابتسامة قاومتها، ودمعة حبستها، لكي لا تظهر ضعفها وحبّها الغامر لي، فقد كانت، رحمها الله، تكره الهشاشة العاطفية والبكاء وإظهار المشاعر الفيّاضة، وتؤثر أن يكون فعلها وسلوكها العملي معبراً عن حبها العميق لكل الذين تراهم الأقرب إلى قلبها من رعايا: أبي وأختي التي أخذت عنها بعض صفاتها، فلم تكن تكف عن عنادها ومشاكستها والاختلاف معها. أما أنا، فقد تصوّرت أني أقرب إلى أبي، لكن مزجت ما ورثته عنه بما ورثته عنها.

وقد عاشت طويلاً بعد وفاته، وما كان أسعدها حين طلبت منها أن تترك العمل، وتبيع ما تبقى من تجارة أبي، وتترك لي رعايتها، بعد أن رعتنا جميعاً، ولم تقبل إلا بعد أن جعلتني أتنازل عن كل ميراثي من أبي إلى أختي التي لم تكمل تعليمها مثلي، ووافقت عن طيب خاطر، وحققت ما أرادت، وعاشت في كنف أخواتي وإخوتي غير الأشقاء، رافضة أي دعم مالي من أخواتي وإخوتي إلا مني، وما كان أكثر حنانها ودعواتها، في السنوات التي عاشتها بعد ذلك إلى أن توفيت راضية مرضية، لكن دون أن تتخلى، قط، عن اعتدادها بنفسها، وأنفتها أن تطلب عوناً من أحد، حتى مني، ولكني كنت قد عرفت عنها كل ما كانت تجيد إخفاءه من قبل، وأقرأ في عينيها كل ما لم تكن تنطق به، فقد تعلمت منها طويلاً ما جعلني، فضلاً عما ورثته عن أبي، على ما أنا عليه.
------------------------------------
على هذه الأرض ما يستحق الحياة: تردد أبريل، رائحة الخبزِ في الفجر، آراء امرأة في الرجال، كتابات أسخيليوس، أول الحب، عشب على حجرٍ، أمهاتٌ تقفن على خيط ناي، وخوف الغزاة من الذكرياتْ.
على هذه الأرض ما يستحق الحياةْ: نهايةُ أيلولَ، سيّدةٌ تترُكُ الأربعين بكامل مشمشها، ساعة الشمس في السجن، غيمٌ يُقلّدُ سِرباً من الكائنات، هتافاتُ شعب لمن يصعدون إلى حتفهم باسمين، وخوفُ الطغاة من الأغنياتْ.

محمود درويش

 

 

جابر عصفور