قراءة نقدية في كتاب "حصاد السنين" وأمثلة التنوير المكبوتة

رغم أنه غني عن التعريف، فقد شاء أن يتقدم لنا بسيرته العلمية- ولا نقول الذاتية- ربما لكي يؤكد لنا مجددا أن التنوير، الذي أخلص له حياته كلها منذ كان طالبا حتى الآن ما زال في حاجة إلى دماء جديدة وعقول تواصل المسيرة.

هكذا يقدم لنا زكي نجيب محمود كتابه "حصاد السنين" بوصفه شهادة على الحياة المصرية الثقافية من منظور مواطن مصري عربي، "شاءت له فطرته أن يجعل من تحصيل العلم وكسب الثقافة مهنته". وهي شهادة تمتد من أواخر العشرينيات من هذا القرن حتى لحظة صدور الكتاب، فتستوعب ثلاثة أرباع هذا القرن بكل ما اشتمل عليه من أحداث وتغيرات على المستويين المحلي والعالمي على السواء. وهذه الفترة تجسد حياة الكاتب العقلية، وتطوره الفكري في أربع مراحل كبرى هي: مرحلة التعرف على الحياة الفكرية والثقافية، ومحاولة الاندماج فيها، وهي المرحلة التي استغرقت أواخر العشرينيات والثلاثينيات من القرن. والمرحلة الثانية هي مرحلة الارتحال إلى الغرب في بعثة دراسية إلى إنجلترا لمدة أربع سنوات، تعرف من خلالها على "الآخر" الغربي، الذي كشف لـ "الأنا " عن تخلفها، وحدد لها من ثم منظور رؤية ذلك التخلف. وفي هذه الرحلة أيضا أمكن لمفكرنا أن يرى ثقافته من بعيد، وأن يرصد من ثم إيجابياتها وسلبياتها. والمرحلة الثالثة هي مرحلة الانخراط في الحياة الثقافية والفكرية خلال عقدي الخمسينيات والستينيات، حيث أسهم زكي نجيب محمود في عضوية العديد من اللجان الثقافية والفنية بالإضافة إلى رئاسته تحرير مجلة " الفكر المعاصر"، ودوره أستاذا للفلسفة بكلية الآداب.

رفض دلالة الموت

وتتجمع الخيوط الناتجة عن تلك المراحل الأربع في منظومة فكرية موحدة، أو "رؤية موحدة "، كما يطلق عليها الكاتب، تمثل محور كتاباته الأخيرة، والتي دأب على نشرها تباعا في جريدة الأهرام. وإذا كان الكاتب يقدم لنا كتابه هذا بوصفه " تغريدة البجعة "، فإن المعنى المزدوج للتغريدة - معنى الألم لإحساس البجعة باقتراب الموت وما يلازمه من متعة ونشوة من جانب البشر في تلقيهم لتلك التغريدة - ماثل في بنية الكتاب ذاته، ماثل في ذلك الصراخ، الذي يصل إلى حد اليأس أحيانا، من حالة التردي والتخلف اللذين تعاني منهما كل المجتمعات العربية. أما المتعة والنشوة فهما ما يأمل مفكرنا أن يغرسهما فينا، خاصة بعد أن وصف لنا الداء وأشار إلى الدواء. إننا نرفض وبإصرار دلالة " الموت " المتضمنة في تغريدة البجعة تلك، لا لأن الموت في حد ذاته شيء كريه، خاصة أنه ماثل في أفق حياتنا الفكرية والثقافية يختطف رموزها واحدا بعد الآخر، بل لأننا لا نتفق مع كثير من البكائين المتشككين في خصوبة رحم هذه الأمة.

الحرية والتطور

والسؤال الذي يجب أن نطرحه ونحن نقرأ "حصاد السنين " وحتى تكون قراءتنا قراءة تأويلية منتجة: ما الذي جعل "حصاد التنوير" فقيرا إلى هذا الحد؟ والإجابة عن هذا يجب أن نبحث عنها في طبيعة الخطاب التنويري ذاته، بكل ما يتضمنه هذا الخطاب من عناصر الإيجاب ومن عناصر السلب. والأهم من ذلك كله أن نبحث في الخطاب التنويري عن الأسئلة المضمرة والمكبوتة، بل والمقهورة إلى حد التحريم. ودون البحث عن هذه الأسئلة من أجل إزاحة القهر والتحريم عنها، سيظل خطاب التنوير رهين قضبان اللحظة التاريخية الأولى التي أنتجته وحاصرته في الوقت ذاته. لقد كان الخطاب التنويري في صيغته التي قابلها المؤلف في مستهل حياته مجرد صدى للفكر الأوربي الذي أمكن له تلخيصه في بعدين: الإيمان بقيمة الحرية والمطالبة بها على مستوى الشعوب والأفراد، وفهم الحياة الاجتماعية والطبيعية على أساس أن "التطور" جوهرها. كان مطلب "الحرية" مطلبا أساسيا في الحياة المصرية، أما فكرة " التطور" فلم يعرف منها معظم المثقفين: "إلا الصورة البيولوجية التي تنسب إلى (دارون) في كتابه (أصل الأنواع) وانعكاساتها التطبيقية على كثير من جوانب الحياة الاجتماعية، كما أوضحها بصفة خاصة هربرت سبنسر.

واستمر الخطاب التنويري يكتسب أرضا جديدة، ويعمق جذوره في التربة الثقافية المصرية على يد: " أحمد لطفي السيد بما نادى به من وجوب الحرية الفردية المسئولة، رجلا كان ذلك الفرد أم امرأة، وطه حسين بما عمل على إشاعته في النفوس من إزاحة التقديس عن حقائق التاريخ... وعباس محمود العقاد بمجموعة دواوينه الشعرية، إنما قدم للناس تطبيقا مجسدا للفردية المستقلة الحرة التي اضطلع لطفي السيد بالدعوة إليها في مجال السياسة". ومع ذلك فلم يكن خطاب التنوير صدى سلبيا لما تنتجه أوربا من أفكار، بل كان كثيرا ما يجد نفسه في علاقة تضاد مع بعض أطروحات المفكر الغربي عن الإسلام والمسلمين، أي أن انعكاس ضوء التنوير على مرآتنا كان كثيرا ما يثور على الأصل ويتجاوزه، خاصة إذا تعارض مع ركائز ثقافتنا "ومن هنا رأينا بين روادنا من شغل نفسه بالرد الرافض لما يكتب عن البحر أو يقال، على غرار ما فعل الأفغاني في (الرد على الدهريين) والشيخ محمد عبده في الرد على (هانوتو) و (رينان) والعقاد في الرد علي كثير مما قاله مستشرقون كتبوا عن الإسلام والمسلمين".

ولم يكن الخطاب التنويري محاصرا بتناقضه مع بعض أطروحات نموذجه الغربي فحسب، به كان محاصرا بالدرجة الأولى بنقيضه السلفي الذي يرى في أوربا، وفي كل ما يأتي من جهتها، قضاء على الذات وانتهاكا للأصالة، لا يستثني من ذلك إلا الناتج التكنولوجي الميسر لشئون الحياة اليومية. وهكذا يدرك مؤلفنا أن "أزمة العقل" هي المسئولة عن عثرات التنوير في بلادنا، ذلك أن: "الموقف العام في بلادنا تسوده نظرة لا علمية على نحو لا يدع مجالا للشك خصوصا إذا رأينا حقيقة الموقف من وجهة نظر الجمهور... إنه لا عجب أن تعرض العقل ويتعرض في حياتنا لأزمات لا تنتهي، فللرأي العام عندنا قوة ضاغطة، لا يجرؤ على عصيانها علنا إلا مغامر، وهو رأي عام تسوده اللا علمية كما أسلفنا.

إن الحديث عن أزمة العقل وربطها بانعدام التفكير العلمي، خاصة عند الجماهير، يشير إشارة ضمنية إلى أحداث وقعت للمؤلف نفسه، حين اصطدم بالخطاب الديني السلفي ممثلا في قطب من أبرز أقطابه، هو الشيخ محمد متولي الشعراوي، وذلك في تعليقه على ما يعرف بحديث الذبابة، التي في أحد جناحيها الداء وفي الآخر الدواء. لقد استطاع الشيخ أن يؤلب "العامة" على فيلسوفنا، كما ألتهم، في مناسبة أخرى، على " توفيق الحكيم " حين بدأ ينشر سلسلة من المقالات في "الأهرام" بعنوان "حديث مع الله". وإذا كنا نختلف مع توصيف المؤلف لظاهرة تأليب العامة بأنها "رأي عام"، فإن هذا لا ينفي دلالة الوقائع التي يستشهد بها. ولأمر ما - لعله إيثار السلامة - لم يذكر زكي نجيب محمود هذا الصدام، واكتفى، في سياق آخر، بالإشارة إلى ما عاناه هو شخصيا من هجوم بسبب دعوته المستمرة إلى "الوضوح". ورغم تفرقته الدائمة بين مجالات المعرفة، وتمييزه بين أنماط الخطاب العلمي والديني والأدبي، ورغم أنه يجعل مطلب "الوضوح" مقصورا على الخطاب العلمي، فإن هذا لم يمنع المهاجمين من اتهامه بالتنكر للدين 110 وللأخلاق. والحقيقة أن الاتهام بالتنكر للأخلاق لم يكن عند صاحبنا بذي خطر.

أزمة مثقفين أم أزمة ثقافة؟

هذا الانسحاب السريع، الذي يصل إلى حد الاستسلام والاعتراف بالهزيمة، أمر متكرر، عدا استثناءات قليلة، في علاقة الخطاب التنويري بنقيضه السلفي، وهذا ما يؤكد " أزمة العقل " في واقعنا الثقافي. لكن أزمة العقل هذه ظاهرة تحتاج إلى التفسير، ولا بد من الغوص في تاريخنا الثقافي بحثا عن هذا التفسير، ومع ذلك فقراءة زكي نجيب محمود لتراثنا الفكري والديني - في المرحلة الثالثة من سيرته العلمية - كشفت له أن "العقل" دعامة أساسية من دعائم بنائنا الثقافي، بل هو الدعامة المقابلة لدعامة الدين، الذي يمثل البعد الوجداني. وإذا كان الأمر كذلك، فإن " أزمة العقل " في الواقع الثقافي تحتاج إلى تفسير آخر، ويبدو أن فيلسوفنا يجد هذا التفسير الآخر في "ازدواجية المثقف" أو مفكر التنوير.

لكن ازدواجية المثقف، كما تتجلى في التناقض بين فكره وسلوكه، تمثل هي الأخرى ظاهرة تحتاج للتفسير، بل الأولى القول بأنها أحد تجليات أزمة العقل على مستوى الصفوة، ومعنى ذلك أننا ما نزال في إطار وصف الظاهرة، ولم نتحرك خطوة واحدة نحو تفسيرها، وهي ظاهرة تتفاقم بشكل ملحوظ في كل أنماط الخطاب. ولعل ما حدث في ندوة " نحو علم كلام جديد " - الندوة التي " قامتها الجمعية الفلسفية المصرية في جامعة الأزهر في الفترة من 15 - 17 يناير 1991 م - من اغتيال العقل، وتسفيه لأي اجتهاد في قراءة التراث وتأويله، لعل تلك الندوة تمثل مؤشرا كاشفا لحالة التردي الفكري التي يعانيها واقعنا الثقافي. ولقد تعرض فيلسوفنا لهجوم ظلامي عات في الجلسة الافتتاحية لتلك الندوة، لمجرد أنه أكد حاجتنا إلى الاطلاع على الثقافة الأوربية الحديثة. ليس ثمة خلاف إذن في توصيف الأزمة، إنها يتركز الخلاف في تفسيرها. ولا ميل إلى تبرئة تاريخنا الثقافي والفكري من مسئولية الأزمة- كما هو الحال في قراءة زكي نجيب محمود للتراث - ميل يمثل في حد ذاته وجها من وجوه أزمة الخطاب التنويري ذاته، وبخاصة إذا كان الحديث عن التراث الديني. هكذا يبدو الخطاب التنويري شديد الجرأة في تحليل الواقع الثقافي وتشريحه، لكن تلك الجرأة تتحول إلى نوع من "التبرير" الذي يصل إلى حد " تحسين" كل ما يتصل بالتراث الديني. كان طه حسين جريئا شديد الجرأة في نقد الواقع الثقافي، بل وفي نقد تاريخنا السياسي والأدبي، لكنه كان يقترب من التراث الفكري الديني على استحياء. وسرعان ما تراجع عن بعض مقولاته الفكرية، وحذفها في الطبعة الثانية من كتابه "في الشعر الجاهلي" بعد تغيير العنوان. وهو نفس ما قام به زكي نجيب محمود حين غير عنوان كتابه من " خرافة الميتافيزيقا إلى" الموقف من الميتافيزيقا". ولأن مشروع علي عبد الرازق في " الإسلام وأصول الحكم" كان نقدا مباشرا للتراث الديني، فقد تم إسكات صوت الرجل إسكاتا شبه نهائي. والمشكلات التي تثور بين الحين والآخر حول تلك الرواية - "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ مثلا - أو . قراءة نقدية في كتاب " حصاد السنين" تلك الأغنية أو هذا العرض المسرحي أو السينمائي، ناهيك عن المطالبة بـ "أسلمة" الأدب والفنون - بل والعلوم - تؤكد أن خطاب التنوير فشل في إحداث التنوير. وأحد أسباب هذا الفشل يرتد إلى عجزه عن إحداث وعي علمي حقيقي بالتراث الديني خصوصا، وعي ينقل الثقافة، كما ينقل المواطن الفرد، من حالة إلى حالة أخرى.

التنوير: نقلا عن أوربا أم نقدا للتراث؟

وليس معنى نقدنا للخطاب التنويري تحميله - وحده فقط مسئولية الإخفاق في إحداث التنوير المطلوب، ذلك أن "الخطاب" وحده، أيا كانت درجة الوعي المعبر عنها وجدته وإرهاقه، ليس مسئولا عن إحداث التغيير، الذي هو فاعلية شاملة تساهم فيها كل عناصر الوجود الاجتماعي ومحركاته. نقدنا هنا ينصب على الخطاب بما هو موضوع تحليلنا ونقاشنا، فلا بد بالتالي من البحث عن عوامل الإخفاق المتضمنة في بنية الخطاب ذاته، دون تقليل من شأن العوامل الأخرى التي لا تعنينا هنا. وما طرحناه حتى الآن هو الموقف التبريري لخطاب التنوير من التراث الديني بشكل خاص، وهو الموقف الذي حول هذا التراث إلى منطقة "محرمة" تتأبي على آليات التحليل العلمي، ويكتفى بالقول إنها أدخل في دائرة "الوجدان " والشعور، كما يذهب زكي نجيب محمود. وإذا كنا فيما سبق قد بينا أثر الخطاب السلفي النقيض في إحداث بعض خطوات التراجع في بنية الخطاب التنويري، فإن المجال الأيديولوجي بين الخطابين لا يمثل كل القصة، فعلاقة الخطاب التنويري العربي بمثيله الأوربي يمثل بعدها الآخر.

وإذ وقع الخطاب التنويري بين سندان نقيضه السلفي ومطرقة الخطاب الاستشراقي، أصبح الدفاع عن التراث الديني - لا نقده أو تحقيق وعي علمي بدلالته - إحدى مهامه. هكذا دافع محمد عبده عن العقيدة في " رسالة التوحيد"، جامعا بين المفهوم الاعتزالي "للعدل" والمفهوم الأشعري "للصفات"، دون أدنى إحساس بتعارض المفهومين. وحين يتخلى المفكر التنويري عن موقف "الدفاع"، يظل في خانة "التبرير" تعبيرا عن عجزه عن النقد". وإذا كانت الأنا قد تم اختزالها في " العقيدة "، وما يرتبط بها من "تراث"، فقد كان من الطبيعي والمنطقي أن يختزل الآخر - أوربا - في " العلم "، وما يرتبط به من تكنولوجيا، ويصبح السؤال: كيف حققت أوربا تلك النقلة الهائلة من ظلام عصورها الوسطى إلى نور التقدم؟ سؤالا مضمرا مكبوتا هو الآخر. ذلك أن الإجابة الحقيقية عنه - والمتمثلة فيما أحدثه الفكر التنويري هناك من نقد للتراث والعقائد - تكشف لخطابنا التنويري عن مكامن العجز والقصور في بنيته.

مشروع النهضة. الأصالة والمعاصرة

يفخر كاتبنا - على طول الكتاب - بأنه كان من أوائل الذين تنبهوا لأهمية هذه القضية، بل يؤكد أنه الوحيد الذي رأى في حلها حلا لإشكالية النهضة. والغريب أن أحدا ممن أثاروا تلك القضية لم يتنبه إلى اعتمادها ثنائية رئيسية، يمكن أن تنحل إلى ثنائيات لا تنتهي ولا تحل، إذ يفترض مفهوم " الأصالة " هوية ذاتية تمتد في الماضي موغلة فيه، وهي الهوية التي حددها فيلسوفنا في بعد " الثقافة " وبأبعادها الثلاثة: الدين، والفنون والآداب، والأعراف والتقاليد. أما جانب المعاصرة، فيرتبط ارتباطا ببعد "العلم "، الذي أبدعته أوربا في الأساس. وهكذا تنحل ثنائية " الأصالة والمعاصرة " إلى ثنائية أخرى هي ثنائية " العلم والثقافة. وإذا كانت هويتنا التاريخية تتحدد بالأصالة / الثقافة، فإن نهضتنا وتقدمنا لن يتحققا إلا بإضافة - لاحظ هنا مفهوم الجمع الرياضي- جانب المعاصرة / العلم إليها. هكذا نكرر أو نعيد ما توهمنا أن أوربا قد حققت نهضتها به، ويظل السؤال الأساسي عن سر الأزمة سؤالا مكبوتا محبطا، ويظل الحديث عن تأويل العقائد أو نقد التراث - وهو ما حققته أوربا في سعيها لتجاوز عصورها الوسطى - حديثا محرما.

هذه الإضافة بالجمع الرياضي لا تعني تحولا كيفيا، وغاية ما تؤدي إليه هو التراكم الكمي المؤدي إلى ازدواج الوعي، وعي الفرد والأمة على السواء، حيث يحيا العقل ويفكر طبقا للقيم الأعراف والتقاليد الموروثة، بينما يحيا الجسد في العصر متمتعا بكل ما أنتجه العلم، دون أن يكون له دور مشارك في إنتاجه، والأمر بالنسبة للصفوة لا يختلف إلا في أنهم يمكن أن يفكروا طريقة عصرية، بينما تتحرك مشاعرهم وعواطفهم ورغباتهم وفقا للموروث الثقافي. حين يتعارض الجانبان - الأصالة والمعاصرة، أو لنقل العلم والثقافة، أو جانب الفكر وجانب الوجدان، أو ما شئت من ثنائيات متفرعة - يكون "التلفيق" بينهما هو الحل، وهو تلفيق يجنح في الغالب إلى جانب التراث / الأصالة. فإذا حدث تناقض بين نتائج العلم وبعض النصوص الدينية: "كما حدث مثلا عندنا وعند غيرنا من أصحاب الديانات الأخرى حيال النظرية الداروينية في تطور الحيوان تطورا جعل الإنسان حلقة أخيرة من حلقات السلسلة بينما يرد في النص القرآني الكريم - وكذلك في التوراة والإنجيل - ما يدل على أن كل كائن حي بصفة عامة والإنسان بصفة خاصة قد خلق على نحو ما خلق منذ لحظة خلقه بأمر إلهي قضي له بأن يكون فكان.

الحصاد الحقيقي: ما هو؟

يتجلى الطبع التلفيقي لفكر النهضة التنويري على مستويات عديدة، تلتقي كلها في البحث عن حلول وسطى لكل المتناقضات التي يزخر بها الواقع الاجتماعي والثقافي من جهة، وفي البحث عن "مبدأ واحد " يعد بمثابة " العلة الأولى " أو "علة العلل " لتفسير أي تعددية فكرية كانت أم اجتماعية سياسية، من جهة أخرى. وإذا كان رد الفروع إلى أصولها والبحث عن مبدأ واحد يفسرها يعد- من منظور زكي نجيب محمود - المهمة الجوهرية للفلسفة، فإن البحث عن حلول وسطى لكل التناقضات التي يزخر بها الواقع الاجتماعي والثقافي يعكس موقفا يلوذ بالسلامة، ولو لحساب التواطؤ الفكري والعقلي. وكلا النمطين من البحث ينتهي في التحليل الأخير إلى وضع " الغلة " كلها في حقل الخطاب الديني السلفي.

لكن هناك فروقا لا بد من الإشارة إليها والإشادة بها، ولو كانت فروقا جزئية، لأن تلك الفروق هي التي تمكننا اليوم من نقد خطاب التنوير نقدا يستهدف تجاوزه لتأسيس خطاب تنويري لا يتجاهل الأسئلة المكبوتة والمحرمة، خطاب لا يخشى المغامرة، فينقل تلك الأسئلة من مستوى الكبت والتحريم إلى مستوى الإفصاح والعلن، نازعا عنها قناع التحريم ومسلطا عليها ضوء العقل. ولعل أهم تلك الفروق هو الحرص الدائم على طرح إشكالية " المنهج "، بوصفها الإشكالية التي تميز العقل "المتسائل" من العقل "المذعن" من جهة، كما أنها تميز العقل القادر على إنتاج المعرفة من ذلك " القابل " للمعلومات للحفظ والتكرار، من جهة أخرى. تلك إشكالية طرحها التنويريون جميعا.

وضوح الأفكار

الفرق الثاني - وهو يرتبط بإشكالية المنهج ارتباطا وثيقا - هو التشديد الدائم على ضرورة وضوح الأفكار في ذهن المتعاملين بها، وهو الوضوح الذي يجب أن يتجلى على مستوى التعبير عن الفكرة انطلاقا من مبدأ أن " اللغة هي الفكر". ولولا استثناء التراث الديني من هذا الشرط، تأسيسا على أنه ينتمي لمجال "الوجدان". قراءة نقدية في كتاب " حصاد السنين " والشعور، لأمكن لهذا المبدأ أن ينقل الخطاب التنويري إلى مرحلة أخرى. إن تحليل اللغة، وصولا إلى تحليل الفكر، هو الذي قادنا إلى مفهوم "تحليل الخطاب"، والفارق بين المفهومين أن الأخير لا يفرق بين خطاب وخطاب بناء على اختلاف قنوات الإدراك عند الإنسان إلى عقلي ووجداني، ذلك أن " الإنسان " وحدة واحدة، مهما تعددت قنوات الإدراك والتعبير. لذلك لا يستبعد نهج " تحليل الخطاب " من مجال فاعليته أي نمط من أنماط الخطاب.

ولعل من أهم إنجازات خطاب التنوير، المميزة له عن الخطاب السلفي، نظرته الديناميكية للماضي والتراث. فرغم أنه يضعه - على سبيل التقية ربما - في خانة " الوجدان " والشعور، التي لا تخضع لآليات التحليل العلمي ومنهجه، فإنه يفرق في التراث بين "المعقول واللا معقول". والأهم من ذلك أنه يقف في صف " المعقول "، ضداً للخطاب الديني السلفي الذي لا يكتفي بالوقوف في صف "اللا معقول "، بل يعيد إنتاجه في ثقافتنا وواقعنا. هذا الانحياز للمعقول يمهد الأرض لتأصيل " تاريخية التراث الديني "، ومن شأن إدراك هذه التاريخية أن يؤدي إلى نزع قناع القداسة عن وجهه، وهو ما يؤدي في نهاية الشوط إلى طرح كل الأسئلة الممكنة، بلا خوف، ولا تردد، ولا تواطئيه تبريرية. إنها ممارسة " الحرية "، على مستوى الفكر والقول والفعل، الحرية التي اعتبرها التنويريون صرخة العصر، وشارة إنسانه وشعوبه التي تسعى لقهر " الضرورة " على مستوى العلم بفهم قوانين الطبيعة والمجتمع، والحرية كما تتجلى في تعبيره الجميل عن أحلامه وأشواقه. إن ممارسة هذه الحرية في نقد التراث تعد شرطا ضروريا في مشروع النهضة، سعيا لتغيير بنية العقل من حالة " الإذعان " و " التقبل السلبي " إلى حالة " التساؤل " و " إنتاج المعرفة"..

وهل للتنوير معنى دون هذا الشرط الجوهري؟