نبَأُ الموتِ الشعراء يواجهون القدر

نبَأُ الموتِ الشعراء يواجهون القدر

الموت هو اليقين الذي لا شكّ فيه، وسرٌّ منْ أسرار الوجود، اللّغز الذي حارتِ البَرِيّة في فهمه وحلّ رموزه، وأنفق الفلاسفة والشّعراء في وصفه كلاماً كثيراً، وحاموا حوله ولم يكادوا يقعوا على معناه.

حيَّر الموت ألباب الشّعراء حين رزأهم فيمن يحبّون، وكان الشّعراء والفلاسفة والمتصوِّفة ينزعون عنْ قوس واحدة، يحاولون، فيما يعالجونه، فَهْمَ ذلك الحدث الكونيّ الغامض. وسواء لدينا من استسلم إزاء الموت لقضاء الله تبارك وتعالى- أوْ مَنْ جدَّف في تفكيره، وأذعن لفلسفة من الفلسفات أوْ نِحْلة من النِّحَل، فكلّ أولئك وقف في حضرة هذا الحدث الجليل والمخيف حائراً دَهِشاً، وكلّ أولئك أُغْرِيَ بفهم الموت، إغراء الموت بالأنام، كما قال الشّريف الرَّضِيّ:

عَجَزْنا عنْ مُرَاغَمَةِ الحِمَامِ
وَدَاءُ الموتِ مُغْرًى بالأنامِ

وعلى وفرة ما نظمه الشّعراء في أمر الموت فإنّ تلك التأمُّلات إنْ هي إلا قصيدة كونيّة واحدة، صاغ كلّ شاعر صورة منها، ولَمَّا تكتملْ تلك القصيدة ما دام الموت لم يبلغْ غايته بَعْدُ، ومهما نُرِدْ إحْصاءً لما نظمه الشّعراء في الموت، ومهما يكلِّفِ النّقّاد والدّارسون أنفسهم تتبُّع ما قيل فيه - فليس إلا صورة ذلك الفَنَاء الموحِش التي ينطوي عليها كلّ ذلك الشِّعْر، تفتيشاً عن السّارق "الذي دقّ شخصه".

القصيبيّ وموت الآخَرين

وغازي القصيبيّ من الشّعراء الذين استوقفهم نبأ الموت، موت الآخَرِين، ومَضَى شِعْره إلى غايته، يسيراً في دواوينه الأولى، ثمّ لم يلبثْ أن انفسح للموت والرِّثاء مكان كبير في دواوينه الأخيرة، بلْ إنّنا نجد القصيبيّ، يُخْلِص ديوانه «حديقة الغروب» (1428هـ - 2007م) للموت ورموزه الشّاحبة، وظهر منْ نفسه وروحه ما كان خافياً، ونزع في شِعْره إلى الاقتراب منْ حدث الموت، موت الآخَرين، وها هو ذا يحوم حول موته وفَنائه، بعد أنْ تَبَدَّد سِلْك أحبّائه وأصفيائه، فخلُص الموت له، وخلُص هو للموت، وجعل يستدنيه دونما خوف أوْ وجل، وكأنّه حين يستدني موته إنّما يَنْشُد السّلام لروحه الحائر المستطير، بعد أنْ عَلَتْ سِنّه، ووهَى جسده.

وأحسب أنّ الموت الذي حالف غازي القصيبيّ منذ فارقتْه أمّه رضيعاً، بلغ منه في هذا الدِّيوان أنْ جعل حياته ساحة للضَّجَر والسَّأم. إنّه أشقّ ألوان الموت وأشدّه وقعاً على الإنسان، فكان «حديقة الغروب» القصيدة التي رثى بها الشّاعر نفسه، وقبل ذلك أنشأ كتابه البديع «المواسم» (1427هـ - 2006م) وكأنّه نفثة مصدور، فبعث في أوصاله مِنْ ألوان الحزن والبكاء ما يَرُوْع ويُبكي.

ولغازي القصيبيّ مع شِعْر الموت والرِّثاء تاريخ موغل في القِدَم. كان الموت موسماً من المواسم التي اعتادها، وكان أشقّ نكسة نزلتْ به موت جدّته سعاد (1386هـ - 1966م)، وشقيقه نبيل (1389هـ - 1969م)، ومَلَك زوج أخيه عادل (1390هـ - 1970م)، كان ذلك في شِبابه الباكِر، ثمّ نزلتْ به، في شيخوخته، تلك الكائنة الكبرى، حين فقد، وفي مدّة يسيرة، شقيقته حياة وشقيقه عادلاً وأخويه غير الشّقيقين مصطفى وفهداً، وبين ذاك وذلك فَقَدَ جمْعاً عزيزاً من الأقرباء والأصهار والأصدقاء.

وعلى فجيعته البالغة بموت جدّته سعاد وشقيقه نبيل وزوج أخيه مَلَك، فلقدْ بدا جَلْداً صلْباً، وكأنّه أرجأ انهيار نفسه ما يُرْبي على خمس وثلاثين سنة، حين وافى الأجل إخوته الأربعة، فحضر الموت ذلك اللّغز المحيِّر في كتابته، وكان كتابه «المواسم» تعبيراً بديعاً عنْ أسئلة الحياة والموت، موت الآخرين وموته هو «تسكنك هواجس الرّحيل. تشْعر أنّ المسافة بينك وبين نهاية الطّريق تهرب بسرعة غير مألوفة. تشكو أشياء لم تكنْ تشكو منها. تلمس في جسدك ضعفاً لم يعهدْه منْ قبْل. تصحو مكدوداً، وتأوي إلى فراشك مرهقاً. لا يجيء النّوم الذي كان لا يغيب. تأتي أفكار معتمة كدُخَان أسود، وتتقلَّب حتّى يَمَلَّكَ الفِرَاش، وتَمَلَّكَ صفحات الكتاب الذي رجوته حليفاً للنّوم فانقلب صديقاً للأرق». (المواسم: ص 7)

تأمُّلٌ وجوديّ

خلط القصيبيّ فجيعة فقده لجدّته سعاد في قصيدته «أُمّاه»، بتأمُّله الوجوديّ في حدث الموت. لا جَرَمَ أنّ القصيدة تنبئ في مجملها عنْ لوعة الفقد، وتتجاوب في أصدائها مفردات البكاء والحزن والألم، غير أنّ القصيدة، وهي منْ شِعْره المبكِّر في الموت (1386هـ - 1966م)، حامتْ حول الأسئلة الوجوديّة للموت؛ موت الآخَرين، وخلطتْ تأمُّله الوجوديّ بتلك النّظرة الرّومانْسيّة المحْض التي تجعل منْ حادثة الموت موضوعاً للسّعادة، فاض الموت كائناً جميلاً، ومنبعاً للهَنَاء!

أُمّاهُ! كيْفَ الموتُ؟! هَلْ
أَرْخَى السِّتَارَ عَلَى هَنَائِكْ
هَلْ أَبْعَدَ الجرّاحُ عَنْكِ..
لِتَصْحَبِيهِ إلى شَقَائِكْ
هَلْ أَسْكَتَ الغُصَصَ التي
كانتْ تُوَلْوِلُ في دِمَائِكْ
هَلْ قالَ "دُوْنَكِ! فانْظُري
صَدْراً يُرَحِّبُ بارتِمائِكْ"؟
إِنِّي أكادُ أَرَاهُ يَبْسُمُ وَهْوَ
يَرْفُقُ في احْتِوائِكْ
وَتُضِيْءُ بَسْمتُهُ.. فَيَنْطَرِحُ
الرَّبِيعُ عَلَى شِتَائِكْ
وَتُضِيْءُ بَسْمتُه فَتَفْتَحُ
ناظِرَيْكِ عَلَى رُوَائِكْ
وَتُمِرُّ راحَتَهُ عَلَيْكِ..
فتنْهَضِيْنَ مِن انحنائِكْ

وتجاذبتْ قصيدتَه «وحبُّنا الشِّعْر»، وهي في رثاء شقيقه نبيل، رموزُ الحياة والموت، ومنْ هذين النّقيضَين تألَّفتْ هذه القصيدة، واضمحلَّتْ، شيئاً فشيئاً حرارة الحياة، وحلّتْ محلّها برودة الموت، أمّا بيروت، حيث مات شقيقه وضمّ ترابها جسده، فمدينة كئيبة، شوهاء، مقفرة، بلْ إنّ الحياة كلّها تتجرّد منْ رموزها، فلا محلّ، هنا، لما سوى الموت، ببرودته القاسية

وَنَنْتَهِي.. جَبْهَةً كَالْيَأْسِ بارِدةً
وَمُقْلَةً لم تَعُدْ بالحُبّ تأْتَلِقُ

وما إنْ يثوب الشّاعر إلى رُشْده بعد أنْ مُنِيَ بفقد شقيقه نبيل، حتّى ينتكس مرّة أخرى حين اخترم الموت زوج أخيه "مَلَك"، وهي في غضارة الشَّبَاب، فتختلط الحقيقة بالوهم، والواقع بالخيال، والموت بالحياة، وتُلْقِي الفجيعة بأثرها في قصيدته «يا مَلَك!»، فلا يستسلم، في مقطعها الأوّل، إلى الألم الذي حلّ به، ولكنّه يَدفع بالموت إلى جِوَاء التأمُّل والتّفلسُف، وتنتثر الثُّنَائيّات في أوصال القصيدة، ويُفْرِغ الموت منْ صورته المألوفة والمعهودة

الموتُ أنْ تنتفضَ الرّوحُ على قُيودِها
تفرّ منْ سَجّانِها
وترتمي بِشَوقِها الكبيرِ في خُلودِها
أنْ تأخذ العالَمَ في أجفانِها
وتُبْصِرَ الدُّنيا.. بِلا حُدُودها
والموتُ أنْ تحتفلَ الحياةُ بانعتاقِها
مِنْ مسحة الدّموع في أحداقِها
من الأسَى المحفور في أعماقِها
والموتُ فرْحةُ الغريبِ بالرّجوع..
بهجةُ التّائِهِ بالسّلامهْ
ونشوةُ القَطْرةِ بالعَوْدِ إلى الغَمَامهْ

بَيْدَ أنّ رموز الموت لا تلبث أنْ تُطِلّ برأسها، بدْءاً من المقطع الثّاني، فإذا الموت «نَصْلٌ مِن الجحيمِ في ضُلُوعِنا»، ومعركة يخوضها الإنسان بيأسه وانكساره، وعالَم مثْقَل بالخُوَاء، ولكنّه القَدَر الواقف ببابه، يُشيع رموز الفَنَاء، باغتهم وغرز منجله، خِفْيةً، «في الأجمل الأنبل مِنْ أحبابنا».

مواسم الموت

لكنّ القدر الذي لم يَكْتَفِ منه عاود غازي القصيبيّ، بعد ذلك، مرّاتٍ ومرّات، «في الأجمل والأنبل مِنْ أحبابنا»، وصار معهوداً أنْ نقرأ في ما سيخلف منْ دواوين، قصائدَ الرِّثاء في الأقرباء والأصدقاء والقادة والزّعماء، ويظهر أنّ الشّاعر أَلِفَ مواسم الموت، واعتاد رموزه، فترامَتْ في دواوينه كلمات الفَقْد والألم والرِّثاء، وأضحى ذا نَفْس جَزِعة تجاه الموت، فينفث لسانه شِعْراً باكياً دامِياً، ومثال ذلك قصيدته «الموت وجلاجل»، حين سقطتْ مدرسة على تلميذات صغيرات في مدينة جلاجل، وأودتْ بحياتهنّ، وقصيدته «يا ريم!» تلك الطِّفلة البدويّة التي تشبه الظَّبْي، والتي تنتظر والدها الذي اغتالتْه رصاصات الإثم في الحادثة الشّهيرة للحرم المكِّيّ الشّريف (1400هـ - 1979م)، حتّى لكأنّ الموت الذي عصف بالتّلميذات الصّغيرات في جلاجل أضحى خجِلاً أسِفاً على أولئك الصَّغيرات

قَلَّبَ الموتُ طَرْفَهُ فَرأى العُشَّ
دِمَاءً على بقايا بَلابِلْ
الصَّغيراتُ في الحُطَامِ ضُلوعٌ
ودُموعٌ.. وحَشْرَجاتٌ جَوافِلْ
ذَرَفَ الموتُ دَمعتيْنِ.. وأَغْضَى
عنْ ضَحَاياهُ.. وهْوَ خَزْيانُ ذاهِلْ

وإزاء حادث الموت ليس منْ سبيل إلى معرفته سوى التّأمُّل والتّفلسف، فللموت فلسفته التي عَيِيَ الفلاسفة والشّعراء في حلّ غامضها، ولكنّه الموت الذي «دَقّ شخصه»، كما يقول المتنبّي، ينسلّ، خِفْية، ليسرق الأرواح، أرواح الكبار والصِّغار، والشّجعان والجبناء، ويشيع في الحياة رموز الفناء.

أصبح الموت معنًى بارزاً في شِعْر غازي القصيبيّ، فأنتَ إذْ تقرأ قصائده، منذ ديوانه الثّالث «معركة بلا راية» (1391هـ - 1971م)، حتّى ديوانه «حديقة الغروب» (1428هـ - 2007م)، تقف على حُفَر الموت مبعثرة في ثنايا قصيده. تَعِبَ القصيبيّ منْ قصائد الرِّثاء، كما قال في قصيدته «يا مَلَك!»، ولكنّه مكث مخادناً لذلك الضّرب من الشِّعر، وجرَّب غازي مع الموت كلّ ألوان القصيد، وكلّ أصواته، وكلّ معانيه، فعرفناه شاعراً رومانْسِيّاً، في طائفة منْ قصائده، وألفيناه، حيناً، شاعراً متفلْسِفاً، وظهر في جمهرة أخرى ذلك الشّاعر الذي ينثر الحكمة في تضاعيف قصائده.

أمّا لغة ذلك القصيد، فَمَرّةً تنطوي على السّهولة واليُسْر، ومَرّةً تأتي ملفوفة بشملة الشّعراء الجاهليّين والإسلاميّين، وكأنّه استنفد مع الموت كلّ طاقته وكلّ موهبته، كما في قصيدته البديعة «أبا خالد!»، من ديوانه «ورود على ضفائر سناء»

أبا خالِدٍ! ما أَخْلَفَ الموتُ مَوْعِدا
ولا فَرَّ مطلوبٌ وطالِبُهُ الرَّدَى
ولم تَقْصُرِ الأعمارُ عنْ أَجَلٍ لها
ولا طالتِ الأعمارُ إلا إلى مَدَى
وما كانتِ الدُّنيا سوى الحُلْم عابِراً
وإنْ ظَنّهُ المأخوذُ بالحُلْم سَرْمَدَا
تَسَاوَى حَصَادُ الموتِ.. مَنْ جاءَ حامِلاً
مَشِيْبَ ثمانينٍ.. ومَنْ جاءَ أمْرَدَا
تَسَاوَى حَصَادُ الموتِ.. مَنْ باتَ في الثَّرَى
قُرُوناً.. ومَنْ في ضِحْكَةِ الفجْرِ وُسِّدَا
نُودِّعُ مَن يمضي.. ونَقْفُو سَبِيلَهُ
كما سارَ إِثْرَ الصَّوتِ واجتازَهُ الصَّدَى
الشّاعر الحكيم

وكلّما هَدَفْنا إلى دواوين غازي القصيببيّ المتأخِّرة نلفيه شاعراً شيخاً حكيماً، وادِعاً، حزيناً، كئيباً، ولكنّه، كذلك، مستسلِمٌ لقضاء الله، يُشيع في قصائده الطّمأنينة، ويُظْهِر، في شِعْره، كَلَفه بتتبُّع الشّعراء الأقدمين، في رسومهم، وفي أخيلتهم، وفي حكمتهم، ونكاد نقع في تلك القصائد على مناقب المرثيّ، في جليل أعماله، وفي شجاعته، وصدقه، وكرمه.

وقصائده تلك، وهي تمتح منْ ذلك المعين، لاتقلِّد فليس ذلك شأنه، ولكنّها تروم بلوغ معنى الموت في جلاله وجبروته، فحدث الموت بئر عميقة يَطْعم الإنسان ماءها منْ حيث هو إنسان، وَأَلَمُ الفقد لا يتميَّز فيه القديم من الجديد. وعسى أنْ تكون قصيدته «وأَوّاهُ... يا فاروق!»، التي رثى بها ابن أخته فاروق القصيبيّ، مثالاً ساطعاً على ذلك

وكُنْتَ الفَتَى.. هيهاتَ يُشْبِهُهُ الفتَى
إذا احتجْتَهُ وافَى... وإنْ جِئتَهُ لَبَّى
وكُنْتَ عجيباً.. لا تَرَى المالَ لَذَّةً
وتَلْتَذُّ بالآتي لِيَنْهَبَهُ نَهْبَا
ولم تَعْشَقِ الجاهَ الذي فُتِنُوا بِهِ
ولا كُنْتَ بالمجدِ الذي عَشِقُوا صَبَّا
وكُنْتَ شُجَاعاً.. والمنِيَّةُ تَبْتَلِي
فَمَا قَصَمَتْ هَشّاً... ولا عَجَمَتْ رَطْبَا

يخشى غازي القصيبيّ الموت، ويجزع أشدّ الجزع منْ وطْأة العمر، وهو بين الموت والعمر يترجَّح بين عذابين؛ عذاب النّهاية المفزعة، وعذاب العمر الثّقيل الكئيب، وهو، كما صاغ ذلك شِعْراً، يودِّع جانباً عزيزاً منْ حياته حين يوسِّد أحبّاءه القبر، ويموت، إذْ يموت الآخَرون، موتاً بطيئاً. ومالي أقول «الآخَرون»!، وهم قِطْعة منّا، إنّهم «نحن»، ولعلِّي لا أجد تمثيلاً لموت منْ نُحبّ أبلغ، في إيجازه، وفي وجعه منْ قول مصطفى لطفي المنفلوطيّ (1289 - 1343هـ/1872 - 1924م)، الذي ذاق الفقد مثل ما ذاقه القصيبيّ، وبكى وانتحب مثلما بكى القصيبيّ وانتحب:

«ليس الذي يبكي صديقاً كان يأنَسُ بحديثه، أوْ عالِماً كانَ يَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِ، أَوْ كَرِيماً كانَ يَسْتَظِلُّ بِظِلالِ مُرُوءَتِهِ وكَرَمِهِ، كَمِثْلِ الذي يَبْكِي شَظِيَّةً قَدْ طارَتْ مِنْ شَظَايا قَلْبِهِ».

معنى الهَبَاء

وفي شِعْر القصيبيّ المتأخِّر حضورٌ طاغٍ للكآبة والمَلَل، وتَشِعّ منْ جُمله وعباراته مفردات الفَناء والهَباء، تتملَّكه الرّغبة في الرّحيل الأبديّ، وتُلِحّ الكآبة في طِلابه، فوطأة العمر قاتلة، ثقيلة، راعبة، بلْ هي الموت نفسه، وهلْ منْ حسرة أشدّ وقعاً على النّفس منْ إحساسه بِثِقَلِه على الحياة، وثِقَل الحياة عليه؟ ويا لَها منْ فلسفة غامضة تلك الفلسفة التي نلفيها في الموت، وحار فيها أسلاف القصيبيّ من الشّعراء، فهل الموت يخبط خبط عشواء، كما يقول زهير بن أبي سُلْمَى؟ أمِ الموت لا يُخْطِئ الفتَى، كما قال طَرَفَة بن العبد؟

أمّا القصيبيّ، فإنّه يترجَّح بين هذا وذلك. مَلَّ الثّوَاء، بعد رحيل الأحبّة، وفقدَ زهو الحياة وطعمها. شَقِيَ بعمره ورَعَبَتْه السّنون، وقدْ بلغ تلك السِّنّ التي وصفها العرب بـ«مُعْتَرَك المنايا»، لكنّه بات يستدرّ عطف الموت أن يزوره، ويَمَرّ الحياة التي لا تختلف عن الموت، بلْ هي أشدّ وطْأةً منه

أَتَشْكُو إلَيَّ الموتَ؟! أَشْكُو نقيضَهُ
حياةً تُريني الموتَ في مُرِّها عَذْبا
أُوَدِّع أحبابي بِظاهرِ أدمُعي
وأكتُبُ بالدَّمْعِ الذي لا يُرَى.. الكُتْبا
وأحْمِلُ أوجاعي.. وأوجاعَ أُمّتي
وأَعْرِفُ أدْوائي ولا أَعْرِفُ الطِّبّا
ويؤْلِمُني مَرُّ السِّنينَ.. كأنَّها
تَشُقُّ بأضلاعي إلى حتْفها.. الدَّرْبا

واصطلحتِ الشّيخوخة والموت على أن يزيدا في عذابه، وتساوتْ لديه الحياة والموت، وانبعث في داخله الألم والاكتئاب والمرارة، وأذعن للهزيمة، وعرف، بأَخَرَة، فلسفة الموت ومنطقه، فلم يزددْ إلا حيرة، وهو في حضرة الموت، في غموضه وجبروته وسُخْره، فإنّه يقول لمازن ابن أخيه مصطفى القصيبيّ، وقد اخترمته المنون شابّاً، في حادثة سير، وكأنّه وُلِدَ كي يموت:

ماذا أقولُ يا بُنَيَّ؟
وأنتمُ الصِّغارُ تكبُرونْ
في غفلةٍ من الكبارِ.. تكبُرونْ
تنطلقونَ.. تُسْرِعونَ.. تركضُونَ..
تَرْحَلُونْ
ونحنُ نبقَى ها هُنا
نحنُ الشّيوخَ والكهولْ
نَدُبُّ نحْوَ الموتِ..
كالخيولِ..
حين تهرمُ الخيولْ

إنّ هذه الأبيات تنبئ عنْ روح منكسِر وشعور طاغٍ بالخُوَاء، وهلْ منْ قسوة تقع على الرّوح تفوق هذا التّشبيه الحزين «ترحلونْ. ونحنُ نبقَى ها هنا، نحنُ الشّيوخَ والكهولْ. نَدُبُّ نَحْوَ الموتِ.. كالخيول.. حينَ تهرمُ الخيولْ»، وليس لهذه الخيول الهَرِمة مرعًى تسرح فيها سوى «حديقة الغروب»، باصفرارها وشحوبها:

هذي حديقةُ عُمْري في الغُروبِ.. كما
رأيتِ.. مَرْعَى خريفٍ جائعٍ ضَارِ
الطَّيرُ هاجَرَ.. والأغصانُ شاحِبَةٌ
والوَرْدُ أَطْرَقَ يبكي عهدَ آذارِ

مُتَمِّم بن نويرة الجديد

أخلص غازي القصيبيّ لشِعْر الرِّثاء حتّى لأحسب أنّه بات معروفاً به. رثى أباه وجدّته وإخوته وأبناء إخوته وأصهاره ورفقاء دربه ومنْ أحبّ منْ رجال السِّياسة والحكم، وبكى الأطفال الذين يساقون إلى الموت، والشّهداء. ويشدّ النّظر أنّه، وهو الشّاعر الوجدانيّ، بات في طائفة منْ قصائده، وفيّاً للشّكل الشِّعْريّ القديم، ووجد في صحبة شعراء الرِّثاء هناءه وعزاءه، وأضحى متمِّم بن نويرة أثيراً لديه، ففي غازي القصيبيّ منه مَشَابِه، بكى إخوته، كما بكى متمِّم أخاه، وبلغ منْ شِدَّة تتبّعه له أنْ قبس القصيبيّ قَبَساً منْ روح متمِّم وألمه وبكائه. نجد ذلك بيِّناً في قصيدته في شقيقه عادل التي تعيد إلى الأذهان عيون الشِّعر العربيّ القديم التي سيقتْ في بكاء الإخوة:

أعادِلُ! هلْ حقّاً تَرَكْتُكَ في الثَّرَى
وأَهْدَيْتُ هذا القبرَ أَنْفَسَ ما يُهْدَى؟
وهلْ عُدْتُ حقّاً للدِّيَارِ التي خَلَتْ
وَفِيّاً لِدُنْيايَ التي تَخْفُرُ العهدا؟
مضيْتَ كأنّا ما قضيْنا حياتَنا
معاً.. ولَبِسْنا العُمْرَ بُرْداً طَوَى بُرْدا
كأنَّ الشَّبابَ الْحُلْوَ ما كان بيننا
يَهُبُّ كأنفاسِ الخمائلِ.. أوْ أَنْدَى
كأنَّ الْمُنَى ما سَلَّمَتْنا قِيادَها
فَهِمْنا على الآفاقِ نغرسها وَرْدا
كأنَّ الرّؤى ما غازلتْنا حِسَانُها
وما زَيَّنَتْ صَعْباً.. ولا قَرَّبَتْ بُعْدا
...
ويا رَبُّ! هذا راحِلٌ كان صاحبي
وكان أخي يُصْفِي.. وأُصْفي له.. الودّا
وكان صديقي والشَّبابُ صديقُنا
وصادَقَني.. والشَّيْبُ يحْصُدُنا حَصْدا
وما فَرَّ.. والأعداءُ حَوْلي كتائبٌ
وما ضاقَ.. والظَّلْماءُ صاخِبَةٌ رَعْدا.

------------------------------------------

يحبونني ميتاً ليقولوا: لقد كان منّا، وكان لنا.
سمعتُ الخطا ذاتها. منذ عشرين عاماً تدقّ حائط الليل. تأتي
ولا تفتح الباب. لكنها تدخل الآن. يخرج منها الثلاثة: شاعرٌ،
قاتلٌ، قارئٌ. ألا تشربون نبيذاً؟ سألتُ. قالوا. متى تطلقون
الرصاص عليّ؟ سألتُ. أجابوا: تمهّل! وصفّوا الكئوسَ
وراحوا يغنّون للشعبِ. قلتُ: متى تبدأون اغتيالي؟ فقالوا:
ابتدأنا.. لماذا بعثت إلى الروح أحذيةً ! كي تسير على الأرضِ.
قلت. فقالوا: لماذا كتبت القصيدة بيضاء والأرض سوداء جداً.
أجبتُ: لأن ثلاثين بحراً تصبُّ بقلبي.

محمود درويش

 

 

حسين محمد بافقيه