مرّ حوالي مليون ونصف مليون سنة على ظهور مايعرف في الأنثروبولوجيا الفيزيقية باسم الإنسان منتصب القامة Homo Erectus الذي يسير على قدمين وليس على أربعة أطراف، كما هو شأن أنواع الآدميات التي سبقته في تاريخ التطور البشري.

وقد دفعت هذه الحقيقة الكثيرين إلى التساؤل عما سيكون عليه الإنسان بعد مرور مليون سنة أخرى وذلك على افتراض استمرار الحياة البشرية في الوجود، وماذا ستكون عليه صفات ذلك الإنسان وخصائصه الفيزيقية والعقلية والعاطفية، بعد مرور هذه الحقبة الطويلة جدا، وما الذي سيفعله بنفسه وبحياته في العالم الفيزيقي الجديد، الذي سيجد نفسه فيه، والذي تشير كل الشواهد على أنه سيكون عالما مغايرا تماما للعالم الذي نعيش نحن فيه الآن. والفكرة قديمة بغير شك، وتعرض لها في المحل الأول عدد من كتاب الخيال العلمي الذين يستندون في كثير من الأحيان إلى بعض الحقائق العلمية المؤكدة التي يبنون عليها تصوراتهم الإبداعية. ولكن صدر في العام الماضي (2008) كتاب يضم مجموعة من المقالات التي شارك في كتابتها عدد من أساتذة الجامعات وعلماء البيئة والفضاء والبيولوجيا والرياضيات، إلى جانب بعض الصحفيين المتخصصين في الكتابات العلمية، وعدد قليل من كتاب الخيال العلمي وقدّم كل منهم - في حدود تخصصه - تصوره لما سيكون عليه العالم سنة مليون مع التركيز بشكل خاص على طبيعة الإنسان والحياة الإنسانية وأسلوب التعامل مع الطبيعة والكون وبين البشر بعضهم بعضا. الكتاب يحمل عنوان Year Million :Science at the Edge of Knowledge ويشتمل على أربعة عشر مقالا، وأشرف على تحريره دامين برودريك Damien Broderick وهو أحد المهتمين بالكتابة في مجال الخيال العلمي في أستراليا وأمريكا والمحرر العلمي في مجلة Cosmos الشهرية التي تصدر في أستراليا.

ومن المنطقي أن تزخر تلك المقالات بالتصورات الخيالية الإبداعية للعلماء والكتاب، بالرغم من انطلاقها من قاعدة علمية بحكم مكانة العلماء الذين صدرت عنهم وبحكم عنوان الكتاب نفسه الذي ترد فيه كلمة (علم)، لكن الفترة الزمنية الطويلة التي تغطيها تلك المقالات تبدو خيالية أو حتى أسطورية وتتجاوز كثيرا من الأفهام. ومع ذلك لم يعترض على الفكرة سوى عالم واحد فقط هو دوجال ديكسون Dougal Dixon الذي بنى اعتراضه على أساس أن من المحتمل خلال هذا الزمن الطويل الذي سوف يشهد في حالة وجوده أربعين ألف جيل من البشر أن يكون الجنس البشري بالمعنى الذي نعرفه قد اندثر تماما، وظهرت بدلا منه كائنات أخرى مختلفة لها خصائص ومقومات مغايرة لكل ماعهدناه خلال التاريخ حتى الآن.

والمقالات تقدم على أي حال صورا غريبة جدا عن تحولات البشر إلى مجرد كائنات تتحكم فيها تكنولوجيات متقدمة ومعقدة إلى أبعد الحدود، ويتم الاتصال بينها عن بعد ودون حاجة للمقابلة أو قيام علاقة مباشرة وجها لوجه، مما يعني ضمنا فقدان الكائنات (البشرية) التي سوف توجد حينذاك لكثير من مقومات الإنسانية المألوفة لنا. وكما يقول ستيفن هاريس Steven B. Harris في مقاله المنشور في الكتاب بعنوان «مليون سنة من التطور A Million Years of Evolution» إن عملية الانتقاء أو الانتخاب الجنسي ستصبح مجرد انتقاء صناعي في ثقافة رقمية، وأن العلاقة الجنسية سوف تكون آلية وتتم عن بعد ودون حاجة للقاء الطرفين، بل وسوف يتم الاستغناء تماماً عن «العقول العضوية القديمة» التي سوف تصبح (موضة قديمة) أو أسلوبا عتيقا للتواصل ويحل محلها وسائل يصعب التنبؤ بها الآن، كما ستكون أجساد تلك الكائنات (البشرية) مبرمجة بالكامل ويسهل تغييرها وتعديلها حسب مشيئة أصحابها وأن هذا كله خليق بأن يثير التساؤلات حول طبيعة العقل الإنساني ومدى الإدراك بوجود الذات وهل سينطبق على (إنسان) ذلك المستقبل الأسطوري مفهوم «الإنسان العاقل» Homo Sapiens الذي ننتمي إليه؟ أم ستظهر تسميات جديدة تتفق مع واقع الحال حينذاك؟

وعلى أي حال ودون أن ندخل في التفاصيل، خاصة أن معظم المقالات بعيدة عن تخصصي الدقيق فإن كتاب برودريك الذي أعتقد أنه جدير بالترجمة إلى العربية كتاب مثير على حد قول جون هورجن John Horgen في عرضه للكتاب بجريدة Wall Street Journal ولكنه يبعث في الوقت ذاته على اليأس لأنه يحمل بين طياته إمكان فناء الكون بفعل انبعاث الحرارة وسوء التعامل مع عناصره ومفرداته، وأنه على الرغم من كل الجهود الذهنية المتوقدة التي تكمن وراء تلك المقالات فإن الكتاب يبعث البرودة والقشعريرة القاتلة في جسم القارئ، ولكنه يدعو إلى التحدي بأن يوسع الإنسان من فهمه للتغيرات السريعة التي يخضع لها كل ما في الكون على اتساعه، وأن يتجاوز التمييز بين الواقع والخيال. فالتفكير حول «سنة مليون» يكشف عن مدى ضآلة حجم الإنسان بالنسبة للكون الهائل الغامض، وأن صورة الإنسان عن نفسه هي مجرد وهم يفضحه العلم الحديث، كما أن وراء كل الكتابات عن هذا الموضوع، سواء تلك التي تصدر عن تفكير علمي دقيق أو من منطلق الخيال العلمي، توجد الحقيقة الصعبة عن أن الكون لم يوجد ليظل إلى الأبد. وهذا يصدق بالضرورة ومن باب أولى على الإنسان.

طبيعة الكون

هذه المقولات تنعكس بشكل أو بآخر في كتابات الخيال العلمي، وبوجه أخص في أعمال ولزH.G.Wells وأتباعه الذين اهتموا بمستقبل الإنسان في كتاباتهم التي لم يكتف بعضها بمجرد الحديث عن إنسان سنة مليون، بل تعدت ذلك أحيانا إلى الكلام عن الإنسانية بعد بليوني سنة. وإذا كان بعض نقاد نظرية التطور، الذين يرفضون مبدأ البقاء للأصلح على أسس أخلاقية، لأنها تغلب فئة من البشر على الفئات الأقل تطورا فإن ولز عبر عن ذلك خير تعبير في أعماله التي تتحدث عن غزو سكان المريخ لكوكب الأرض وبيّن أن ما سيفعلونه بسكان هذا الكوكب لا يختلف عما يفعله المستعمرون الأوربيون بسكان المستعمرات الأصليين وإبادة شعوب بأكملها. فالصراع والقتل هما جزء من طبيعة الكون والأساس الذي استند إليه مبدأ البقاء للأصلح.

ويبدو أن الكتابات الخيالية عن سنة مليون لها علاقة وثيقة بالتفرعات الاجتماعية في البيولوجيا التطورية التي تظهر في كثير من الأحيان وبخاصة في أعمال ولز. فالقصص العلمي الخيالي نوع من الإبداع الذي تندمج فيه الطبيعة مع الإنسان وبقية الكائنات والموجودات في الكون وهو ما يدعو إلى البحث عن مكان الإنسان في الطبيعة، وإلى أي حد سوف يحتفظ إنسان المستقبل بقدرته الحالية على التحكم في بعض مظاهر الطبيعة وتوجيهها لما يخدم أغراضه، وإن كانت ثورات الطبيعة تمثل تمردا خطيرا على هذا الوضع وتكشف ضعف الإنسان، وأن تلك السيطرة هي مجرد وهم يساعد على استمرار الأوضاع مادام ليس هناك ما يبرر تغييرها.. وعلى أية حال فإن التفكير في الوضع الإنساني في سنة مليون شغل حيزا لا بأس به في أدب الخيال العلمي، وربما كانت البداية هي المقال الذي نشره ولز عام 1893 عن «إنسان عام مليون» The Man of the Year Million والذي ذهب فيه إلى أنه ليس من الضروري أن يكون الإنسان أو الجنس البشري المعروف الآن هو أرقى وأهم ما في الكون من كائنات، فهو مجرد «وجود صغير للغاية بل وقليل الأهمية وعاجز وسوف تكشف التطورات في المستقبل عن ذلك العجز».

مصير الإنسانية

والطريف أن اهتمام ولز بالمستقبل البعيد للإنسان ومكانته في الطبيعة جاء نتيجة عبارة عابرة صدرت عنه كما يقول هو نفسه أثناء حديث عادي بينه وبين أخيه فرانك أثناء تجوالهما في بعض المناطق الخلوية في مقاطعة Surrey حين سأل أخاه فجأة «ماذا يا ترى يحدث لنا لو هبط على الأرض من السماء سكان بعض الكواكب الأخرى واحتلوا هذه الأرض التي نعيش فيها»؟ ولكن يجب ألا ننسى في الوقت ذاته أن ولز تتلمذ لمدة عام على توماس هكسلي الكبير الذي كان أكبر المشايعين لنظرية التطور عند داروين، وأهم المدافعين عنه ضد أعداء النظرية. وولز نفسه يقول إن تلك السنة كانت أهم سنوات حياته على الإطلاق ولذا يمكن رد اهتمامه بوضع الإنسان ومصير الإنسانية إلى ذلك التأثير ولو في حدود معينة. وقد وصف ولز الكائنات الآدمية التي سوف توجد في ذلك المستقبل البعيد بأنهم أعضاء في نوع أكثر تطوراً بشكل فائق للغاية، وأن ذاك يتمثل في المحل الأول في التضخم الهائل في حجم الرأس وبالتالي كبر حجم المخ بينما تتضاءل الأجسام بشكل واضح وتتلاشى وظائفها باستثناء الأيدي الصغيرة التي تحتفظ بقدرة عالية جدا على الإحساس بحيث تنقل المعلومات والتعليمات والتوجيهات من المخ إلى التكنولوجيا المتقدمة التي سوف تصبح بمنزلة الهيكل الجسمي المنفصل لهذه الأمخاخ والعقول. فإنسان ذلك العصر البعيد يكاد يكون مجرد رأس أو جمجمة ذات سعة عالية جدا حتى تستوعب ذلك المخ الضخم. كما سوف تكون كاملة الاستدارة وتتميز بوجود عيون واسعة جدا مليئة بالبريق واللمعان دون أن يوجد فوقها جبهة أو حجاجات، وإنما قمة الرأس فقط التي ستكون أشبه بقبة لامعة وخالية من الشعر مع اختفاء بروز الأنف الذي ليس له معنى إلا أن يفسد سيمترية الوجه، كما تخلو من بروز الأذنين بينما يبدو الفم الصغير مجرد فتحة مستديرة دقيقة جدا وخالية من الأسنان واللثة والفك لأن هذه كلها خصائص حيوانية بدائية لابد من اندثارها بحكم منطق التطور على ما هو واضح حين نقارن بين جماجم القردة العليا والآدميات المتطورة والجنس البشري الحالي الذي ننتسب نحن إليه.

هذه الاعتبارات ذاتها نجدها في عدد كبير من أعمال الخيال العلمي التي تأثرت بمقال ولز وتابعت خطوات التفكير نفسها، وحاولت في الوقت ذاته التعبير عن مبادئ التطور البشري في قالب خيالي لا يتعارض مع الأصول والمسلمات والحقائق العلمية مما يجعلها جديرة باهتمام غير المشتغلين بالأدب.

ربما كان كتاب الكاتب البريطاني أولاف ستابلدون Olaf Stapledon هو أول ما يتبادر إلى الذهن، خاصة أن خلفيته العلمية الواسعة والمتنوعة تضفي قدرا كبيرا من العمق والجديّة على نظرته التي لا تخلو من طابع فلسفي. ولستابلدون كتاب فلسفي كان له صدى واسع في الأربعينيات والخمسينيات هو كتاب Philosophy of Living ألقى فيه أضواء كثيرة كاشفة عن عدد من قضايا الحياة التي يواجهها الإنسان المعاصر. وفي عام 1930 أصدر ستابلدون كتابه عن آخر وأول البشر: قصة المستقبل القريب والبعيد Last and First Men: A Story of Near and Far Future وهو عرض واسع المجال بشكل غير عادي لأنه يصف تاريخ الإنسانية من منظور مستقبلي ابتداء من العصر الحالي إلى حوالي بليوني سنة من الآن، وهي فترة ستشهد ظهور واندثار ثمانية عشر نوعا مختلفا من البشر، ابتداء من إنسان العصر الحديث الذي يعتبره أول هذه الأنواع وبالتالي أكثرها بدائية وتأخرا. والتاريخ في نظره سلسلة متتابعة من دورات التقدم والتدهور, ولكن المسيرة كلها تؤدي إلى التقدم الهائل على كل المستويات لأن كل دورة تستغرق عدة ملايين من السنين تواصل البناء فوق ما تحقق في الدورة السابقة عليها. فالحضارة الإنسانية من خصائصها التقدم والنمو والارتقاء المطرد، بصرف النظر عن فترات التدهور. وتتميز كل مرحلة بتغييرات واضحة في تزايد حجم مخ الإنسان وقدراته على التفكير، بحيث يكاد يكون الإنسان في آخر تلك المراحل مجرد مخ كبير أو «عقل سوبر Super Mind» يتم عن طريقه التواصل بين البشر على مسافات بعيدة جدا، دون حاجة لأي وسائط مادية وإنما هو نوع من التلباثي Telepathy. وسوف يتخلص الإنسان في هذه المراحل أيضا من الارتباط بكوكب الأرض الذي سوف (يشيخ) بمرور الزمن ويدخل في مرحلة الاحتضار مما يضطر, الإنسان معه إلى الانتقال إلى الأجرام والكواكب الأخرى, ويقضي على سكانها الأصليين. وسيكون التواصل بين الأجرام السماوية المختلفة أي على مستوى الكون بأسره أمرا عاديا ومألوفا. والمعروف على أي حال أن وكالة الفضاء الأمريكية ناسا NASA تخطط الآن لاختراع إنترنت الأجرام Internet Interplanetary.

قصة حب بعد ألف سنة

وتقدم لنا القصة القصيرة التي كتبها الكاتب القصصي الأمريكي فردريك بوهل Frederick Pohl في ليلة واحدة حسب ما يقول عام 1966 مثالا لتصورات كتاب الخيال العلمي وبعض العلماء لما سيكون عليه إنسان ذلك المستقبل. وبوهل من أعداء أنصار «الموجة الجديدة» New Wave التي تنكر وجود علاقة بين العلم والخيال، ولذا يبني كتاباته الخيالية عن المستقبل على أسس علمية راسخة، ويستعين في عرضه وتحليله للأحداث المتخيلة بعلم النفس والطب النفسي. وقد كان بوهل أكثر تواضعا من غيره حين أطلق على قصته القصيرة اسم «اليوم المليون» Day Million وليس سنة مليون أو بعد بليونين من السنين.

القصة حكاية حب تقع بعد ألف سنة بين فتى وفتاة، ولكن الفتى كان عمره 178 سنة حين التقى مصادفة بالفتاة واشتبكا معا في التو واللحظة في علاقة حب واتفقا في التو واللحظة أيضا على الزواج. الفتاة لم تكن فتاة بالمعنى المألوف لدينا، إذ كانت تتمتع بكل صفات وخصائص الذكور، على الرغم من أنوثتها الطاغية واحترافها الرقص المثير. كذلك كان تركيب الفتى غريبا فأجزاء كبيرة من جسمه كانت عبارة عن آلات وأجهزة، لدرجة أنه يوم التقى بالفتاة كان في طريقه لتغيير ساقيه. كذلك كان حفل الزواج غريبا لأن العروسين اكتفيا بتبادل المشاعر مسجلة إلكترونيا ثم انفصلا بعد ذلك مباشرة وذهب كل منهما إلى عالمه الخاص، فقد كانت الفتاة تنتمي إلى عالم البحار بينما كان تكوين الفتى الجسماني يدل على انه من سكان الفضاء، وحين يشتد بهما الحنين يلجآن إلى سماع تلك التسجيلات الإلكترونية فيحدث الإشباع العاطفي بل والجنسي، الذي ليس له على أي حال علاقة بالإنجاب، نظرا لوجود أساليب أخرى صناعية تحقق ذلك الهدف. فكل شيء يتم في المخ الذي يشعر ويحس ويصدر التعليمات، كما أن كل العواطف والانفعالات والعلاقات الحميمة مسجلة إلكترونيا ومحفوظة في شكل رياضيات رمزية يسهل استرجاعها وقت الحاجة. ويشبه فردريك بوهل المسافة بين الفتاة والجنس البشري الحالي بأنها أبعد من المسافة الفاصلة بين الإنسان العاقل والإنسان القرد الجنوبي أو الأوسترالو بيثيكوس Australo Pithecus الذي كان موجودا منذ خمسة آلاف قرن مضت، سواء من حيث التكوين الفيزيقي أو القدرات الذهنية أو التقدم التكنولوجي.

والمهم في هذا كله هو إيمان هؤلاء العلماء وكتاب الخيال العلمي بمسيرة التطور في خط متصل ابتداء من القرديات العليا إلى أشباه البشر إلى الآدميات بتفرعاتها المختلفة حتى ظهور الإنسان العاقل وما بعده، وهي تطورات تتمثل في اختفاء المظاهر الجسمية المتضخمة وتراجع البروزات والنتوءات واختفاء بعض الأعضاء قليلة الأهمية، بحيث تختفي أي رابطة يمكن تصورها بين إنسان ذلك المستقل البعيد وإنسان العصر الذي يوصف حتى الآن بأنه الإنسان العاقل، فضلا عن الأسلاف الذين وجدوا منذ مليون ونصف المليون سنة على أقل تقدير لو أننا اكتفينا بالعودة إلى الإنسان منتصب القامة وليس إلى أبعد منه. وهذا التراجع في المقومات والصفات الجسمية يصاحبه طيلة الوقت نمو وارتقاء في القوى العقلية المرتبطة إلى حد كبير بالزيادة المطردة في حجم المخ وما يترتب عليها من قدرة على التحكم في الطبيعة نتيجة للتقدم العلمي والتكنولوجي، الذي هو في آخر الأمر نتاج للتطور الفكري. ومع ذلك فالظاهر أن لكل هذه التطورات نهاية يتفق عليها معظم المفكرين والعلماء والكتاب، وهي أن الإنسان يضع بتقدمه اللامحدود نهاية لوجوده ووجود العالم بل والكون بأسره. وذلك نتيجة أسلوب حياته الخاطئ في التعامل مع الطبيعة وقدرته الغريبة على الاستهلاك والاستنزاف، وبالتالي إلحاق الدمار بكل ما يحيط به. فالإنسان وحياته مجموعة غريبة من التناقضات المتراكمة بعضها فوق بعض. وكما يقول ويليام هاولز William Howells فى كتابه ماوراء التاريخ Back of History الذي نقلناه منذ أكثر من نصف قرن إلى العربية: «إن الإنسان هو الحيوان الشعري بغير شعر، وهو الحيوان ذو الأربع الذي يدب على رجلين، وهو الحيوان الأبكم الناطق، وهو المخلوق الذي يفهم ويدرك ما لايراه، ويؤمن بما لا يفهمه، ولا يمكن تفسير الإنسان إلا في ضوء عدد كبير جداً من الغرائب، ولكن لن يمكن فهمه بعد هذا كله إلا إذا فهمنا هذه الغرائب ذاتها مع أنها غرائب طبيعية».

----------------------------------------
هَزَمَتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعُها.
هزمتك يا موتُ الأغاني في بلاد
الرافدين. مِسَلَّةُ المصريّ، مقبرةُ الفراعنةِ،
النقوشُ على حجارة معبدٍ هَزَمَتْكَ
وانتصرتْ، وأفْلَتَ من كمائنك
الخُلُودُ ...
فاصنع بنا، واصنع بنفسك ما تريدُ

محمود درويش