من تراث الصيدلة العربية
من تراث الصيدلة العربية
برغم أن علم الأدوية يعتبر من العلوم الحديثة ـ نسبيا ـ حيث بزغ مصطلح (علم الأدوية) Pharmacology لأول مرة عام 1693 بواسطة عالم الفسيولوجي صمويل دال ثم أسس أول معمل متخصص في علم الأدوية بواسطة رودلف بوخاييم في ألمانيا عام 1849, فإن أصولا كثيرة لهذا العلم تعود إلى العرب, ليس ذلك فقط, بل إن عدداً من المفاهيم الرئيسية والجديدة جدا في علم الأدوية كان العرب قد تطرقوا إليها واكتشفوها قبل أن تخطر هذه المفاهيم في ثوبها الحديث على العقل الغربي في أوربا وأمريكا, والحقيقة أن تقدم العرب في علم الأدوية كان أمرا مذهلا وكان في تقديرنا امتدادا لنوعين مهمين من السبق سبق بهما العرب الإنسان في أي مكان من العالم, السبق الأول كان إنشاء أول صيدلية خاصة حيث يعتقد أن هذه الصيدلية أقيمت في بغداد في الفترة من 750 ـ 754م وكان إنشاؤها بمنزلة إعلان عن انفصال الصيدلة عن الطب, ومن الجدير بالذكر أن هذه الخطوة حدثت رسميا في أوربا في عهد فريدريك الثاني عام 1240م, وأما السبق الثاني الذي حققه العرب فكان تنظيم ممارسة مهنة الصيدلة حيث طبق الخليفة المقتدر (908 ـ 932م) نظام الحسبة على عمل الصيادلة تبعا لمؤلفات جالينوس وحنين بن إسحاق, وقد تطور نظام الحسبة بعد ذلك بحيث يكون في متناول المحتسب نوع من (الدستور) يرجع إليه, وقد جاء في كتاب (نهاية الرتبة في طلب الحسبة) تأليف عبد الرحمن بن نصر السيرزي (1193م) جزء خاص بالحسبة على الصيادلة ذكر فيه طرق الغش وعلامات كشفه, ومن المهم هنا أن نجذب الانتباه إلى أن مسألة (دستور) للأدوية هي أمر عرفته الحضارة الأوربية منذ حوالي مائة وثلاثين عاما فقط عندما صدرت دساتير أدوية في لندن وأدنبره ودبلن عام 1864, ومن المعروف الآن أن دستور الأدوية يطلق عليه pharmacopeia فهناك دستور أمريكي ودستور بريطاني ودستور ألماني ودستور مصري, وهكذا. ألف عام من الصيدلة وربما يكون من المناسب أن نشير إلى الحادثة التي كانت سببا في تطور تقييم عمل الصيدلي عند العرب والتوصل إلى الحسبة على الصيادلة ثم عمل دستور للأدوية, حيث يحكى أنه في الفترات الأولى من تاريخ ممارسة الصيدلة وجد الدجال الجاهل جنبا إلى جنب مع الصيدلي المتعلم المدرب, وأدى ذلك إلى أن شاع عن الصيادلة غشهم للأدوية وفي ذلك يروى أن أحد قادة المعتصم في وقعة عمورية (838م) كان قد أمر بإحصاء جميع من في معسكره من التجار فلما بلغه في قائمة الأسماء (الصيادلة) أمر بأن يمتحنوا حتى يعرف منهم الناصح من غيره, ومن له دين ومن لادين له, وكانت طريقته في الامتحان أن أخرج من دفاتر الأسر حوالي عشرين اسما وأرسل برسله إلى الصيادلة يطلبون أدوية مسماة بهذه الأسماء, وكانت النتيجة أن بعض الصيادلة أنكروا معرفتهم بهذه الأسماء والبعض الآخر ادعى معرفتها وأخذ منهم النقود ودفع إليهم بشيء من حانوته, وبناء عليه أمر قائد المعسكر بإحضار جميع الصيادلة فكتب لمن أنكر معرفته بهذه الأسماء تصريحا بالمقام في المعسكر (وهذا يماثل ما يعرف حاليا بتصريح مزاولة المهنة), وأما الآخرون فقد طردهم من المعسكر وأباح دم من يوجد منهم في معسكره. إن السبق العربي في مهنة الصيدلة وفي ابتداع ما يمثل دستورا للأدوية يعني سبقا في التفاعل المنهجي مع مجال من مجالات الحياة, ونقصد هنا بالتفاعل المنهجي التفاعل القائم على أسس علمية, وهذا هو ما سيتضح أكثر وأكثر عند التعرف على الأفكار العلمية الدوائية كما عرفها وتوصل إليها العرب منذ حوالي ألف عام ومقارنة هذه الأفكار بالمفاهيم العلمية الحديثة جدا والتي عرفت في الغرب فقط في القرن الحالي بل عرف بعضها فقط في الاعوام العشرين الأخيرة. عرف العرب والمسلمون مبادئ علمية تمثل استراتيجيات في العلاج الدوائي لايزال يتخذ بها حتى اليوم, فمثلا يقول المجوسي (توفي 944م) في كتابه (كامل الصناعة الطبية): (إن أمكنك أن تعالج العليل بالغذاء فلا تعطه شيئا من الدواء, وإن أمكنك أن تعالج بدواء خفيف مفرد فلا تعالج بدواء مركب ولاتستعمل الأدوية الغريبة والمجهولة), كما ذكر أبو بكر الرازي (854 ـ 932م) في كتابه (الحاوي): (إن استطاع الحكيم أن يعالج بالأغذية دون الأدوية فقد وافق السعادة), وقال أيضا: (إن العمر قصير عن الوقوف على فعل كل نبات الأرض فعليك بالأشهر مما أجمع عليه, ودع الشاذ واقتصر على ما جرب), وقال ابن سينا (980 ـ 1037م): (في حالة الأدوية المركبة فإن المجرب منها خير من غير المجرب, وقليل الأدوية خير من كثيرها في غرض واحد), حقا إن هذه المبادئ كانت تمهيدا لما يعرف حديثا بالتداخلات البينية للأدوية drug interactions وكذلك مهام علم الدواء السريري والخاص بدراسة وتجريب الدواء على جسم الإنسان clinical pharmacology أسباب وضع العرب أسباباً (اشتراطات) تحكم تأليف الأدوية المركبة (أي أدوية تتركب من أكثر من مادة) وتمثل هذه الأسباب اقترابا كبيرا من مفاهيم علمية حديثة محددة, وفيما يلي قائمة ببعض الأسباب (نستخلصها من (قانون) ابن سينا مع الرجوع إلى ما ورد في (الملكي) للمجوسي وفي تذكرة داود وغير ذلك من المؤلفات) حيث نتبع كل سبب (أو حالة) بما يقابلها من مفاهيم حديثة في علم الأدوية: 1 ـ إذا لم يوجد لكل علة خصوصا المركبة دواء مقابل من المفردات تخلط اثنين أو أكثر من المفردات لتقابل في مفعولها علة المريض, (ملحوظة: هذا المبدأ يقابل ما يعرف حاليا في علم الأدوية بمجموعة المفعول Summation) 2ـ إذا كان الدواء المختار أقل في مفعوله من المطلوب يضاف إليه مفرد أو أكثر يقوي قوته, (ملحوظة: يعرف هذا المفهوم حاليا بتقوية مفعول الدواء drug potentiation). 3ـ إذا كان الدواء المختار أقوى في مفعوله من المطلوب يضاف إليه مفرد يضعف من قوته, (ملحوظة: الهدف من هذا التوجه هو التحكم في مفعول الدواء وهو هدف رئيسي لعلم الأدوية). 4 ـ إذا كان الغرض من الدواء المختار أن يفعل في موضع أو عضو قريب من المعدة مثلا ويخاف أن يكسر قوته الهضم الأول والهضم الثاني وغيرهما مما قد يوجد في طريق الدواء إلى ذلك الموضع ويخاف منه عليه يقرن الدواء بحافظ غير منفعل يصرف عنه أو يزيل عنه عادية الهضمين أو الأسباب الأخرى حتى وصوله إلى الموضع المقصود سالما, (ملحوظة: هذا المبدأ قريب جدا من هدف مهم لتجارب ودراسات علم الأدوية حاليا وهو بحث معارف وتقنيات توصيل الدواء فقط إلى العضو المصاب بحيث يصل الدواء سالما إلى العضو المقصود ولاتتأثر بقية الأعضاء السليمة بالآثار الجانبية للدواء وجدير بالذكر أيضا أن مسألة الهضم الأول والهضم الثاني كما عرفها العرب هي البدايات الأولى لما يعرف حاليا بأيض الأدوية وخاصة الأيض (أو الهضم) الذي يحدث في الكبد عند امتصاص الدواء من القناة الهضمية حيث يعرف هذا الأيض أو الهضم بـ التأثير البادئ First pass effect ويمثل ظاهرة عرفت علميا في الاعوام الأربعين الأخيرة). 5 ـ إذا كان المراد أن يلبث الدواء في مكانه قليلا حتى يعمل هناك عملا فائقا كثيرا ثم يكون هذا الدواء سريع النفوذ يخلط بمثبط, (ملحوظة: السعي إلى مبدأ كهذا يعتبر تمهيدا لدراسات حالية تتعلق بالتحكم في مسار الدواء داخل الجسم). 6 ـ إذا كان الدواء كريه الطعم لايتحمله المريض يخلط بما يصلح طعمه, (ملحوظة: هذا المبدأ يمثل ممارسة أساسية في علم وتقنيات التصنيع الصيدلي). 7 ـ في حالة بقاء الدواء زمنا طويلا بحيث لايفسد ويحتفظ بقوته على حالها يخلط بما يفعل ذلك (ملحوظة: هذا هو نفس الشيء الذي يقوم به الصيادلة في صيدلياتهم وخبراء الدواء في المصانع من خلال دراسات وتعليمات ثبات الأدوية). ومن ملاحظات العرب في اختلاف قوة الأدوية عبر الأجناس المختلفة وعبر الأفراد من نفس الجنس قول الطبري (770 ـ 850م) في (فردوس الحكمة): (رأينا دواء واحدا نفع قوما وأضر آخرين, والحقيقة أن المعارف الفارماكولوجية الحديثة قد أكدت وجود قدر من الاختلاف في فاعلية وأمان الأدوية نتيجة لأسباب عرقية ووراثية). ومن الجدير بالإشارة أن المجوسي وابن سينا وغيرهما قد نوهوا إلى أن (قوة الأدوية وتأثيرها تتوقف على طبائع الأبدان واختلاف حالاتها في الصحة والمرض, وعلى طبائع الأمراض واختلافها من شدة وضعف وما يتبعها من أعراض, وعلى أوقات السنة وحالة الجو والبلد الذي يسكنه المريض, وكذلك على عادات المريض ومهنته). ولاشك أن ما وصل إليه العلماء من أجدادنا يستند إلى مبادئ طبية علمية سليمة تم إثبات صحتها باستخدام التقنيات البحثية الخاصة بالعصر الحالي. الفاعلية والوهم عرف العرب طريقتين في الكشف عن قوة الدواء وفائدته, وهما طريقة التجربة وطريقة القياس, وللتجربة عندهم شروط ذكر ابن سينا بعضها في كتابه (القانون) ومن هذه الشروط ما يلي: 1 ـ أن يكون للمجرب عليه علة مفردة لا علة مركبة. 2 ـ أن يكون الدواء قد جرب على العلل المتضادة حتى إن كان ينفع منها جميعا لم يحكم أنه مضاد لمزاج أحدهما, وربما كان نفعه من أحدهما بالذات ومن الآخر بالعرض. 3 ـ أن تكون القوة في الدواء مقابلا بها ما يساويها من قوة العلة, فإن بعض الأدوية تقصر حرارتها عن برودة علة ما فلا تؤثر فيها البتة, فيجب أن يجرب أولا على الأضعف. 4 ـ أن يراعى استمرار فعله على الدوام على الأكثر, فإن لم يكن كذلك فصدور الفعل عنه بالعرض. 5 ـ أن تكون التجربة على بدن الإنسان, فإنه إن يجرب على بدن غير بدن الإنسان جاز أن يختلف. وهكذا, في تقديرنا أن ما عرفه العرب عن منهج تقييم قوة الأدوية وتقييم الفائدة العلاجية يعد حجر الأساس لمنهج علم الأدوية السريري,والذي يعنى بتقييم فاعلية الأدوية على جسم الإنسان. وعرف أن الرازي (854 ـ 932م) كان أول من جرب الزئبق وأملاحه على القردة لاختبار مفعولها, وهذا يعني أن العرب قد مارسوا علم الأدوية المعملي وأيضا دراسات ما قبل المرحلة السريرية في اختبار وتقييم الدواء وهي ما اصطلح حاليا على تسميتها بالدراسات قبل السريرية. ومن تعاليم الرازي أنه (ينبغي أن يوهم المريض بالصحة وإن كان غير واثق بذلك فمزاج الجسم تابع لاختلاف النفس), هذا المنطق في العلاج يعني أن العرب أدركوا أثر الحالة النفسية في المرضى وفي العلاج, وهذا ما قد ثبتت صحته حديثا حتى أن الأطباء في أحيان خاصة يعطون للمريض دواء في شكل أقراص أو كابسولات (أو أي شكل صيدلي آخر) لكنه لايحتوي على أي مادة فعلا وذلك لمجرد إقناع المريض بأنه يأخذ دواء حيث أحيانا يستجيب المريض للعلاج بهذه الطريقة وهذا ـ إلى حد ما ـ ما اصطلح على تسميته Placebo effect أي تأثير مادة غُفّل. وعن أثر تعدد طرق العلاج يقول الرازي (من تطبب عن كثيرين من الأطباء يوشك أن يقع في خطأ كل واحد منهم), والحقيقة أن الدراسات الإحصائية والإكلينيكية الحديثة توضح ازدياد الآثار الجانبية الضارة مع زيادة تعدد الأدوية التي توصف للمريض وهو الأمر الذي جعل من الضرورة المهنية تبادل الرأي (بخصوص وصف الأدوية) بين الأطباء المعالجين لنفس المريض, وفي الكتابات الحديثة المتخصصة في الصيدلة تقع على مسئولية الصيدلي الإكلينيكي Clinical pharmacist أعباء الحذر والتأكد والترشيد بخصوص الآثار الجانبية الضارة والتداخلات البينية للأدوية, وأما عن الخطأ (أو الضرر) الذي قد يقع على المريض نتيجة أداء الطبيب أو الجراح فهو يعرف حديثا بـ Iatrogenic disease ولقد اتبع العرب طرقا عديدة في تنقية وتحضير الأدوية مثل الطبخ والسحق والتحميص والتصعيد والتشميع والتبلور. وعن (السحق) ذكر المجوسي أن من الأدوية ما كان سحقها أنعم كانت استحالتها في الكبد والمعدة أسرع, وهذه الفكرة تمت بصلة إلى ما هو معروف الآن عن أهمية حجم جسيمات الدواء, كأحد العوامل المؤثرة في امتصاص الأدوية من القناة الهضمية. وقد قال العرب أيضا عن السحق: (من الأدوية ما إذا كان لها فعل فإذا أفرط في سحقها انتقلت إلى فعل آخر, فمثلا اتفق على أنه إذا أفرط في سحق الكموني انقلب مدرا للبول بعدما هو في طبيعته مطلق للطبيعة). واستحدث العرب أشكالا صيدلية مختلفة مثل الأشربة والمستحلبات, ومازالت بعض هذه الأشكال الصيدلية مستعملة حتى الآن بأسمائها العربية مثل (شراب) Syrup. ومن المستحضرات التي كان العرب يصنعونها الأدهنة والأطلـية والحبـوب والحقـن الشـرجية والسعوطات والغرغرات والقطورات والمراهم والمعاجين والمنقوعات. وهكذا يمكن أن نستنتج مما سبق ذكره بخصوص الأفكار والمفاهيم العلمية وكذلك الممارسات التقنية بشأن وصف وتجريب وتحضير الأدوية أن العرب قد ساهموا بحق في وضع الأصول الرئيسية لأساسيات ومفاهيم علم الدواء وفروعه ومجالاته المختلفة مثل علم الدواء الإكلينيكي (أو السريري) وعلم الدواء المعملي وعلم السموم والأيض الدوائي وأنهم أيضا قد طوروا في الصناعة الدوائية, هذا فضلا عن اكتشافاتهم في المفردات الدوائية (وهو أمر لم نتطرق إليه في هذا المقال) وخلاصة القول إن الاستنهاض الدوائي العربي أمر قائم في التاريخ العربي وهو في تقديرنا أمر كامن ـ أيضا ـ في الحاضر العربي, وما يبقى هو العمل العلمي العربي التراكمي المنظم.
|