من تراث الصيدلة العربية

أعجوبة في العلاج النفسي

90 دقيقة من تحريك العينين تعالج أمراض النفس!

في عام 1987 م كانت فرانسيس شابيرو طالبة تعد درجة دكتوراه في علم النفس الإكلينكي في جامعة كاليفورنيا ـ لوس أنجلوس تمشي في حديقة لوس أنجلوس في صيف ذلك العام وهي منشغلة بأفكارها وذكرياتها المؤلمة عندما كانت مدرسة للغة الإنجليزية وأصيبت بمرض السرطان عام 1979, الأمر الذي أجبرها على ترك زوجها والتماس أية وسيلة طبية دوائية ونفسية كتعلم التأمل, والتخيل الموجه والعلاج التنويمي الأركسوني. والبرمجة اللغوية العصبية, وكل شيء بدا لها مفيداً للسيطرة على هذا المرض العضال. لقد شفيت من هذا المرض وهي في عمر 38 سنة وإبان إنجازها لرسالة الدكتوراه في علم النفس الإكلينكي. نقول بينما كانت منغشلة بهذه الذكريات التي امتصت انتباهها واستحوذت على استبصارها وهي تمشي في الحديقة وجدت نفسها أنها لم تعد تتذكر هذه الذكريات الراضة المؤلمة فيما بعد بالصورة المؤلمة الراضة التي عاشتها.

لقد بدت هذه الذكريات وكأنها بهتت وتلاشت من تلقاء ذاتها خلال تحريكها لعينيها يمنة ويسرة بمحض المصادفة وهي منشغلة مستقطبة وعيها في هذه الذكريات خلال سيرها في الحديقة. اندهشت شابيرو من هذه الظاهرة التصادفية وذلك الكشف الغريب العجيب.. الذكريات الراضة تبهت وتضمحل عندما تستحضر في الذاكرة مع تزامن تحريك العينين. جربت العلامة شابيرو ما اكتشفته على 70 متطوعا ومتطوعة فحصلت على النتائج نفسها.

وفي السنة التالية نظمت دراسة بحثية منهجية في مقاطعة (endocino كاليفورنيا), كان قوامها 22 فرداً تعرضوا للاغتصاب الجنسي ولرضوض القتال, واعتداء جنسي في الطفولة. وكان هؤلاء يشكون من أعراض الرض النفسي التي تتظاهر إكلينيكا باجترار ذكريات الماضي المؤلمة Flashback, واضطرابات النوم, والأفكار الدخيلة الوسواسية والتي استمرت عند هؤلاء مدة 23 سنة لم يسعفهم أو يزيل معاناتهم أي علاج نفسي بمعالجات دامت ست سنوات. وكانت هذه الأعراض مصحوبة بضعف احترام الذات واضطرابات اجتماعية تكيفية.

تذكر وحرك عينيك

خصصت الدكتورة شابيرو لكل فرد من أفراد هذه العينة العلاجية 60 دقيقة لعلاج حادثة راضة مفردة بوساطة علاجها الحديث الذي اكتشفته أي تحريك العينين. طلبت من كل فرد من هؤلاء تذكر تفاصيل مشاعر الكرب والضيق عندما يستحضر في ذهنه تلك الذكرى الراضة, وهي تحرك أصبعيها أمام وجهه يمنة ويسرة مع تتبع عينيه هذه الحركة المكوكية ولمدة 30 ثانية مع جولة علاجية أخرى والصورة الذهنية للرض النفسي وما يواكبه من مشاعر الكرب والضيق والقلق ماثلة في وعيه بالإضافة إلى تبديل حديثه السلبي بآخر إيجابي خلال هذه العملية التصنيعية الاستقلابية للذكرى الراضة قوامه الثقة بالنفس وإزالة لوم الذات وتحقيرها (زرع الأفكار الإيجابية البديلة عن السلبية التي صاحبت الرض).

اتضح لها في نهاية هذه التجربة العلاجية المقترنة بعينة ضابطة Control لم تتلق هذا العلاج أن الذكريات الراضة عند هؤلاء فقدت شحناتها الانفعالية الراضة المثيرة للكرب والألم. ووجد هؤلاء أن الأحاديث الإيجابية مع الذات التي اختاروها خلال عملية تحريك العينين أصبحت أكثر قبولاً وترسخاً في أفكارهم. وأن الربح العلاجي الذي حصلوا عليه خلال الجولات العلاجية التي لم تتجاوز 60 دقيقة للحادثة الراضة لم يتضاءل إلا قليلاً, وأن الأفراد الذين تعرضوا لسوء استخدام جنسي في الطفولة أضحوا أكثر تأكيدا لذواتهم, وانفتاحاً في علاقاتهم الاجتماعية (كانوا منعزلين يخافون الاختلاط بالناس والتعبير عن أفكارهم).

أما أفراد العينة الضابطة الذين لم يتلقوا هذا النوع من العلاج فلم تتحسن حالاتهم على الإطلاق.

خرجت الدكتورة شابيرو من تجربتها العلاجية الساحرة مسلحة بمعطيات علاجية إيجابية لا مثيل لها في سرعة الشفاء, وبنسبة نجاح العلاج, فأصبحت نتيجة لذلك عالمة بارزة في مؤسسة الأبحاث للأمراض النفسية في مدينة Palo Aloto. ومضت هذه العالمة مسجلة نتائج علاجية باهرة في أكثر الحالات تعقيداً على المعالجات النفسية الأخرى كضحايا الاغتصاب الجنسي, وحرب فيتنام, ومرضى المخاوف المرضية, وضحايا الكوارث الطبيعية بزت حتى في بعض الحالات العلاج النفسي السلوكي المعرفي الحديث.

في مؤتمر علمي نفسي عام 1988 قدمت الدكتورة شابيرو نفسها إلى الطبيب النفسي العالمي المعروف جوزيف ولبي مخترع علاج إزالة الحساسية المنهجي السلوكي الذي يستقطب به الرهاب بأنواعه المختلفة, أي اضطرابات القلق عموماً. وطلبت منه نشر نتائجها العلاجية لهذا النوع الجديد من العلاج النفسي في مجلته المسماه: الطب النفسي التجريبي والعلاج السلوكي. وفي بادئ الأمر خامره الشك بنتائج الدكتورة شابيرو ففضل تجربة هذا العلاج بنفسه على عينة من مرضاه فأصاب هذا العلاج نجاحاً باهراً.

فتبنى الدكتور ولبي هذا العلاج وناصره, وبخاصة عندما وجد أن حالة مستعصية حتى على طريقته التي ابتدعها قد تحررت نهائيا من رض الاغتصاب الجنسي بفضل اكتشاف شابيرو. وتتلخص قصة هذه الحادثة في أن امرأة تعرضت لرض نفسي شديد نتيجة اغتصاب جنسي عنيف تركها تقبع في دارها مشلولة النشاط الاجتماعي والمهني خائفة من الخروج من الدار وتعرضها مرة ثانية لاغتصاب (ارهاب جنسي اشراطي). كانت تجلس في وضعية الجنين في بطن أمه في دارها. عولجت بالعلاج النفسي الديناميكي لمدة 15 سنة بلا طائل.

تمكن ولبي خلال عشر جلسات بطريقة تحريك العينين EMDR من أن يجعلها تخرج من الدار والسير لوحدها في الشوارع والشواطئ المنعزلة وفي المسابح العامة البحرية. من المعروف تصنيفيا أن تشخيص مثل هذه الاضطرابات الراهنة يسمى اضطراب الشدة الذي يعقب التعرض للرض Post Traumatic Stress Disorder.

من لوس انجلوس إلى سراييفو

أخذت هذه الطريقة تشق طريقها اليوم من أوسع باب عند المعالجين السلوكيين أو المعرفيين في الولايات المتحدة خاصة. ونظمت مؤسسة العلاج النفسي بواسطة تحريك العينين التي تديرها الدكتورة شابيرو دورات منتظمة منذ عام 1995 في الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل, وفرنسا, ويوغوسلافيا السابقة, وانجلترا, وبلجيكا, وأمريكا الجنوبية للمعالجين النفسيين والأطباء النفسيين وللعاملين في ميدان الصحة النفسية, فأضحى هذا العلاج اليوم ممارساً في معظم العيادات النفسية والمؤسسات العلاجية للصحة النفسية في الولايات المتحدة الأمريكية بخاصة. ولقد استفاد منه بخاصة المحاربون القدماء الأمريكان الذين تعرضوا للرضوض النفسية القتالية. إذ ظل بعض هؤلاء يعاني لمدة 20 سنة من أعراض PTSD التي ذكرناها (كوابيس وأحلام مزعجة, اجترار ذكريات الماضي, أفكار وسواسية دخيلة, تؤذي الوظيفة الاجتماعية والمهنية والأسرية). وكان شفاؤهم بواسطة هذا النوع من العلاج. ونذكر هنا رحلة الدكتور جوفري دابت إلى سراييفو لتدريب المعالجين النفسيين المسلمين على هذا النوع من العلاج عام 1995, العلاج الذي لا يستغرق في الحالات العادية أكثر من 90 دقيقة لتحرير المصاب من الرض النفسي القتالي. ولم تر الدكتورة شابيرو في بداية الأمر في طريقتها كشفاً جديداً. فأسلوبها العلاجي الذي طرحته لا يتعدى التقنية السلوكية المعرفية التي تزيل حساسية المريض من ذكرياته الراضة المؤلمة التي تتظاهر بأعراض اضطراب الشدة التي تعقب التعرض للرض النفسي PTSD, لذلك اسمت طريقتها إزالة الحساسية من الرض النفسي وإعادة تركيب البنية المعرفية عن طريق تحريك العينين تمشيا مع الطرق السلوكية المعرفية العلاجية الأخرى. إلا أنها مع استمرار تطبيقاتها السريرية (الإكلينيكية) بهذه الطريقة أدركت أن أسلوبها الذي اكتشفته هو أكثر من إزالة الحساسية عن طريق التعريض للذكرى الراضة مرة ثانية. فالمرضى بهذه الطريقة كانوا يعودون بذاكرتهم تلقائيا إلى حوادث الطفولة الراضة بطريقة المعالج النفسي الديناميكي وليس بأسلوب المعالج السلوكي الذي يهتم بالاضطراب كما هو قائم حاليا ومعالجته على هذا الأساس كسلوك متعلم لا تكييفي. وعندما أخذت تحلل نتائج عملها العلاجي وجدت أن حركة العي نين تنسج نسيجاً من المهارات الحدسية السريرية تتمحور حول التأثير التخريبي للمرض النفسي على مستوى الوظيفة الدماغية. فافترضت شابيرو أن علاجها يفتح الدارات العصبية المحاصرة والمعزولة عن الدارات العصبية للدماغ بفعل الرض النفسي.

علامات استفهام

حتى الآن لا تعرف الآلية التي يتم بواسطتها شفاء المريض أو تحسن أعراضه بوساطة هذا النوع من العلاج. وكل التفسيرات المطروحة والتي ذكرناها هي محض افتراضات ونظريات. والمبدعة لهذه الطريقة الدكتورة شابيرو ترى افتراضاً أيضاً هو أن الذكريات الراضة تماثل الدروس الممحية, محصورة في الدماغ نتيجة التبدلات العصبية ـ البيوكيميائية التي تحدث أثناء العرض للكرب الكبير. وأن هذه الخبرات غير (المهضومة) وغير المتمثلة تبقى لسنين كثيرة حبيسة ضمن كيميائيتها المختلة. وأن حركة العينين تزيل هذا الحصار والإسار, وتعيد من جديد اتصال العصبونات المحصورة الأسيرة ضمن مجرى النشاط العصبوني الكامل كما ذكرنا. في الجانب الآخر من هذه القصة العلاجية تبرز أصوات معترضة ترفع وتيرة اعتراضاتها بقوة تطلب الا ينجرف العياديون والمعالجون وراء علاج حديث لم تتحدد بعد معالمه الراسخة القائمة على تجربته على عينات كبيرة علاجية مثل العلاج النفسي السلوكي ـ المعرفي المثبت مخبريا وعياديا ومنهجياً). من هؤلاء الدكتور سيلفر الذي جرب هذا العلاج وحصل على نتائج متضاربة متناقضة. ورأى أن الثوابت في هذا العلاج متبدلة جداً. وتختلف من معالج إلى آخر, ومن مريض إلى مريض آخر.

وهناك في الطرف الآخر المعاكس علماء يساندون بقوة وبحماس منقطع النظير هذا العلاج النفسي الجديد, ويعدونه فتحا وثورة جديدة في العلاج النفسي. ويرون أن نجاعة هذه الطريقة هي رهينة بأيد خبيرة متمرسة. وبالمرضى الذين يناسبهم هذا العلاج, وبالوقت المناسب. وإذا ما روعيت هذه النقاط بدأ العلاج فعالاً ساحراً.

إن العلاج بهذه الطريقة يحتاج إلى تدريب حتى لو كانوا معالجين نفسيين. ولها مخاطر كثيرة قد تفضي إلى الانتحار في بعض الحالات, إذا لم يكن الذي يمارسه متدرباً عليه كما تقول الدكتورة شابيرو وبخاصة إذا كان المريض يعاني من أكثر من رض نفسي واحد, ولم يتم استكمال تفريغ كامل الرض النفسي وترك المريض وهو في نصف الطريق نتيجة التحريض الشديد للذاكرة الراضة دون إزالة الرض كاملاً وتفريغ محتوياته الانفعالية المؤلمة. أو قد تستوجب حالة المريض إذا لم يفرغ الرض تماماً إلى الاستشفاء بسرعة نتيجة الهياج النفسي الشديد.

وحقيقة الأمر, إن الاقبال على التدرب على هذا العلاج في الوسط التخصصي العلاجي النفسي أصبح كاسحاً اليوم. أما في العالم العربي فإنه ليسرنا جدا أن نرى دولة الكويت هي السباقة في العالم العربي إلى التدرب على هذا العلاج وممارسته متمثلة بالمكتب الأميري ـ مكتب الخدمات الاجتماعية الإنمائية الذي يرعى اجتماعياً وعلاجياً الرضوض النفسية الناجمة عن الاحتلال العراقي الغاشم لدولة الكويت. فالمعالجون في هذا المكتب استقدموا الخبراء في هذا العلاج وتدربوا عليه, وأصبحت الكويت أولى دول الشرق الأوسط التي تمارس هذا العلاج الحديث السريع الناجع الفعال, الذي يضع حداً لمعاناة ضحايا الرضوض النفسية وأمراض القلق بكل أشكاله تقريباً.

 

محمد حمدي الحجار