شرارة ثورة المعلومات

شرارة ثورة المعلومات

في العام 1950 وبعد ثلاث سنوات من البحوث وحوالي مليون دولار من التكاليف نجح فريق عمل في مختبرات (بل) برئاسة وليم شوكلي في تحقيق حلمها بصنع مضخم مصنوع من مادة نصف ناقلة هي بلورات الجرمانيوم ملحمة على صفيحة معدنية وشعرتين رقيقتين من الذهب تبعد كل منهما عن الأخرى 2 من ألف من البوصة وصلتا برباط معدني بمثابة قاعدة مشتركة. وحينما جرى تمرير التيار حصل تضخيم بنسبة 50 ضعفا. هذا اليوم وهو 23 (ديسمبر) من 1947 أصبح يوما مشهودا في تاريخ الكمبيوتر. وقد أطلق أحد كبار المهندسين في مختبرات بل. على الجهاز اسم (ترانس ريزيستور) مركزا على خاصية الجهاز في حمل الكهرباء وتمريرها من جهة لأخرى. ولكن مهندسا آخر وجد العبارة طويلة فبدلها إلى ترانزيستور. وكانت هذه الأداة ايذانا ببدء تاريخ جديد في تكنولوجيا المعلومات.

وهكذا نجح الترانزيستور في الحلول مكان الأنابيب المفرغة وكان يحتل مساحة أقل بكثير كما لم يكن سريع العطب كزجاج الأنابيب المفرغة. أضف إلى ذلك أنه كان مقاوما للحرارة. ورغم ذلك كله فالترانزيستور لم ينتشر على صعيد تجاري بسبب الصعوبات التي كانت تكتنف إنتاجه وكانت تؤدي إلى ارتفاع سعره. فالترانزيستور الجيد كان يباع بحوالي ثمانية دولارات في حين أن الأنبوب المفرغ كان يباع بـ 75 سنتا. أضف إلى ذلك أنه كانت لا تزال هناك ضرورة لمزيد من البحوث لمعرفة خصائص الترانزيستور على نحو كاف.

في العام 1952 حاول خبير رادار بريطاني يدعى جي. دامر جمع مكونات الترانزيستور كلها على شريحة واحدة نصف ناقلة. وقد باءت جهوده بالفشل ولكن حلمه تحقق على يد عالم أمريكي لم يكن على علم بمشروع دامر هو جاك سانت كلير كيلبي.

كانت أول دارة مدمجة صنعها كيلبي عبارة عن رقاقة من الجيرمانيوم لا يزيد طولها على خُمسيْن (2 على خمسة) من البوصة. ولم تتصف بنظافة الصنع ولا أناقة الإنتاج إذ كانت اختبارية. وكانت مكوناتها الخمسة معزولة عن بعضها البعض كهربائيا عن طريق صفها في خطوط هندسية متباعدة. كما أن أسلاكها الدقيقة التي تصل بين المكونات وبين هذه والتيار الكهربائي كانت ملحومة بشكل ظاهر وكلها مثبتة بواسطة الشمع. ومع ذلك فقد أدت عملها بنجاح مما جعل شركة (تكساس انسترومنتس) تعلن في (يناير) 1959 ولادة أول دارة مدمجة. ولإظهار أهمية الاختراع تولت الشركة صنع كمبيوتر للقوات الجوية اعتمد على 517 شريحة مدمجة لم تحتل سوى 6.3 بوصة مكعبة. وكان هذا الكمبيوتر لا يزيد على جزء من 150 من حجم الكمبيوتر الذي حل هو محله. وكان ذلك إيذانا بدخول صناعة الكمبيوترات في عملية تصغير ثورية أدت إلى ظهور الكمبيوتر الشخصي. وحينما تمكن علماء في شركة (فيرتشايلد) من تطوير صناعة الترانزيستور باعتماد الأسلوب المسطح واعتماد المجهر لوصل الأسلاك عمدت الشركتان إلى الاشتراك في إنتاج دارات جديدة ـ أخذت تعرف بالشريحة cc h i p ـ والتي اتصفت آنذاك بتزايد صغر حجمها وزيادة المكونات عليها. وفي حين كانت شريحة الستينيات تتضمن عشرة ترانزيستورات أصبحت في أوائل السبعينيات تتضمن ألفا من هذه المكونات.

وسرعان ما تبرعت شركة (فيرتشايلد) إلى عشرات الشركات إذ أخذ أركانها يستقيلون من الشركة ليؤسسوا شركات خاصة بهم. وجاءت الثورة الحقيقية في صناعة الشرائح على يد واحدة من هذه الشركات والتي لا تزال مهيمنة اليوم على تكنولوجيا الشرائح وهي شركة (إنتل).

وخلال عامين من تأسيسها. أي 1968. انتجت الشركة أول شريحة ذاكرة تستطيع أن تخزن كيلوبايت كاملا من المعلومات (أي 1024 بت. وهو ما يعادل 25 كلمة كل كلمة مؤلفة من خمسة أحرف).

وبالمقارنة مع التكنولوجيا السابقة للذاكرات المصنوعة من حلقات مغناطيسية. فان كل حلقة كانت تحفظ (بت) واحدا من المعلومـات وهـذا الـ (بت) كان إما واحداً أو صفراً. نعم أو لا. لذلك فإن الشريحة الجديدة. التي لم يكن طولها يزيد على واحد على سبعة من البوصة حلت محل 1024 حلقة كانت تحتل مساحة تصل إلى 80 بوصة مربعة.

التحول الكبير

وحصل التطور الكبير عندما انتجت انتل عام 1971 (الكمبيوتر الصغري المبرمج على شريحة) والذي عرف اختصارا بالمعالج الصغري (microprocessor) والذي أحدث تحولا في الصناعة الكمبيوترية. هذا المعالج. الذي عرف باسم (4004) كان يتضمن كل المهام التي تقوم بها وحدة المعالجة المركزية في كمبيوتر. وسرعان ما تلقف هواة الكمبيوتر الذين كانوا يقومون بتجاربهم في مرائب السيارات أو مطابخ المنازل لصنع كمبيوتر شخصي صغير. وقد وفر لهم الأداة الصغيرة لإحداث ثورة الكمبيوتر في منتصف الخمسينيات. وانتقال الحضارة من الكهرباء إلى الالكترون. أما مخترعها فكان يدعي تد هوف.

بالمقارنة مع كمبيوتر منتصف الخمسينيات الإيواني (mainframe) فإن أول كمبيوتر الكتروني كان قادرا على القيام بـ 5000 عملية جمع في الثانية ويتطلب 18000 أنبوب مفرغ متصل بنصف مليون وصلة لحام ويزن 30 طنا ويحتل مساحة تزيد على 100 متر مربع. أما 4004 فكان يتضمن 2300 ترانزيستور في مساحة صغيرة لا تتعدى بضعة سنتيمترات مربعة أما السرعة فقدرت بـ 0.06 ميبس و(mips هي مليون تعليمة بالثانية).

وما إن حل منتصف الخمسينيات حتى كانت عشرات الشركات الأمريكية متخصصة في إنتاج المعالجات الصغرية محدثة ذلك التحول الذي أذن بولادة الكمبيوتر الشخصي.

كانت الشريحة 4004 بداية المطاف. فخلال عقد واحد فقط انزلت شركة (هيولت باكارد) معالجا صغريا أشد قوة من المعالجات المركزية لكثير من الكمبيوترات الكبيرة. فقد كانت قادرة على ضرب رقمين. كل منهما من 32 منزلة. كل منهما بالآخر في 1.8 مليون جزء من الثانية من صف طويل من الترانزيستورات بلغ عددها 450 الفا مرصوفة بعضها الى بعض بـ 18 ياردة من التنغستين. كل ذلك على شريحة لا تتعدى ربع البوصة.

خلال السنوات الست والعشرين التي مضت على شريحة 4004 لا تزال انتل أكبر مصنع للشرائح في العالم فقد طورت (إنتل) تكنولوجيا الشرائح وشهد مسرح الكمبيوتر السلسلة التالية من أجيال الشرائح:

* المعالج 8008 (1972) وهو أول معالج 8 بتات.

* المعالج 8080 (1974) كان بقوة تبلغ 10 أضعاف سلفه.

* المعالج 8086 (1978) وهو أول معالج ذي 16 بت.

* المعالج 8808 (1979) استخدمته شركة أي بي إم لكمبيوتراتها الشخصية.

* المعالج 80286 (1982) وعرف بـ (286). بلغت سرعته ستة اضعاف سلفه ويستطيع مسح دائرة المعارف البريطانية (30 مجلدا 44 مليون كلمة) خلال 45 ثانية.

* المعالج 80386 المعروف بـ (386). أنتج عام 1985 وكان يختلف اختلافا جـذريا عن المعالجات السابقة له. إذ كان يعمل بنـمط ظاهري. بمعنى أنه كان يعـمل كما لو كـان عـدة معالجات من نوع 8086 في آن ويعمل على عرض سكة 32 بت.

* المعالج 80486 المعروف بـ (486) (1989). وتضمن مليونا ومائتي ألف ترانزيستور كما تضمن معالجا مساعدا للرياضيات. ويستطيع مسح دائرة المعارف البريطانية خلال ثانيتين فقط.

* المعالج بنتيوم ويعتبر بمثابة (586). أنتج عام 1993 وكان يحتوي على 3 ملايين ترانزيستور ويعتمد تكنولوجيا متطورة جدا. يعمل على تقنية 32 بت.

* المعالج بنتيوم برو. أنتج عام 1995 وتمتاز شريحته بقدرتها على أن تعالج 250 مليون تعليمة بالثانية. يعمل على تقنية 32 بت.

* تقنية إم إم إكس (لمعالج بنتيوم برو). وهي تقنية حديثة جدا تم اعتمادها العام (1997) وتمتاز بأنها تحسن أداء المعالج على صعيد الاتصالات والوسائط المتعددة بنسبة 60%.

وإنتل ليست بالطبع وحدها في إنتاج وتطوير الشرائح. وهناك ثلاث شرائح منافسة رئيسية لشرائح انتل وهي:

* معالج الباور بي سي. وهو نتيجة عمل مشترك بين آي بي إم وأبل وموتورولا. ويعتمد على تقنية التعليمات المبسطة (ريسك) العاملة بـ 64 بت. جاء طرحه الأول عام 1993 ومنذ ذلك الحين لايزال استعماله يقتصر على أجهزة أبل. يمتاز بصغر حجمه إذ لا يتعدى نصف حجم شريحة البنتيوم. كما يعمل وفق نظامي الماكنتوش والـ (بي سي).

* معالج سايركس سي إكس 486 مع سكة بيانية ذات 32 بت. يتضمن أيضا وحدة للعمليات الرياضية بالفاصلة المتحركة. البعض يراه أسرع من مثيله إنتاج انتل. ولكن النسخ التي وصلت منه للشرق الأوسط أظهرت وجود شوائب صناعية.

* معالج ديجيتال ألفا. أطلق عام 1992. يعمل على سكة ذات 128 بت. مما يجعله أسرع معالج في العالم. فهو المعالج الوحيد الذي تزيد فيه السرعة على بليون تعليمة في الثانية. وهو بدوره يعتمد تقنية (ريسك) المبسطة. ولا يوجد اتفاق حول سبب عدم اعتماده من قبل مصنعي الكمبيوترات الكبار.

* معالج إي أم دي K5 . وهو مصمم لمنافسة معالج بنتيوم من إنتاج إنتل. وقد كانت جائزة معرض (سيبت) التقديرية في هانوفر بألمانيا من نصيبه.

مقارنات مع المعالج الأول

إذا اعتمدنا السرعة. فقياسا إلى 5000 عملية/ ثانية في الخمسينيات للكمبيوترات التقليدية فإن الكمبيوتر الشخصي المعروف بسطح المكتب. والذي يعتمد معالج بنتيوم يقوم بـ 300 مليون عملية بالثانية الواحدة.

وإذا ما اعتمدنا الكلفة فقد كان الترانزيستور المعاير عام 1971 أي ترانزيستور 4004 يباع بـ 40 دولارا اي 225 دولارا بحسب القوة الشرائية للدولار اليوم. أما ترانزيستور 8086 الذي كان معايرا عام 1978 فكان يباع بـ 360 دولارا مما يوازي ألف دولار بقوة شراء الدولار اليوم. في حين أننا اليوم نستطيع أن نحصل على البنتيوم برو سرعة 166 ميجاهرتز بهذا السعر.

وإذا اعتمدنا الكثافة أي قدرة التكنولوجيا على وضع أكبر عدد ممكن من الترانزيستورات في الشريحة الواحدة فإن معالج 4004 كان يتضمن 2300 ترانزيستور أما البنتيوم برو فيتضمن 5.5 مليون ترانزيستور.

قانون مور

Fعام 1965 طرحت مجلة (الكترونكس) سؤالا على جوردون مور. رئيس قسم البحوث في شركة فيرتشايلد. حول تصوراته لوضع سوق شريحة الكمبيوتر في العقد التالي. وقد قام مور آنذاك بتتبع نمو عدد الترانزيستورات على الشريحة الواحدة منذ أن كان عددها لا يتجاوز الأربعة عام 1961 إلى 200 وهو العدد الذي كان قيد التداول في منتصف الستينيات. وقد أصيب مور بالدهشة لما لاحظ أن عدد الترانزيستورات لكل شريحة كان يتضاعف مرة كل عام. وقد بلغت به الثقة بالنتيجة إلى حد أنه توقع الاتجاه ذاته لفترة السنوات العشر التي تلت. وكان ذلك أول ظهور لما عرف بـ (قانون مور).

كان هذا القانون يعني في الحقيقة أن صناعة الشرائح مرشحة للاستمرار بالنمو بوتيرة هندسية. وأن هذه الصناعة بالذات ستجعل من الالكترونيات الصناعة الرئيسية. كما جعلت من شركة إنتل التي أسسها مور فيما بعد واحدة من أهم هذه الشركات والتي تمسك هي أكثر من غيرها بزمام الصناعة بتوقيتها للشرائح الجديدة والمعايير التي تستحدثها فيها.

ولكن عام 1975 شهد تناقصا في وتيرة تزايد نسبة الترانزيستورات إلى الشريحة. فقام مور بتحليل الوضع من جديد ولاحظ أن عدد الشرائح سيتضاعف هذه المرة كل سنتين. أما المعدل خلال فترة السنوات السبع والثلاثين فيجعل المضاعفة تحصل مرة كل ثمانية عشر شهرا.

وفي اعتقاد مور أن ذلك يعني أن عام 1997 شهد إنتاج كوينتيليوم واحد من الترانزيستورات أي خمسة أضعاف المليون وهو ما يعادل عدد نمل الأرض على حد تعبيره.

وسوف يستمر إنتاج الترانزيستورات بهذا المعدل طوال السنوات الخمس عشرة أو العشرين المقبلة مادامت التكنولوجيا مستمرة في تمكنها من تضييق طول الدائرة الترانزيستورية من 0.35 ميكرون اليوم (والميكرون هو جزء من ألف من المليمتر) إلى 0.07 ميكرون عام 2011.

وإذا ما طبقنا قانون مور على ذلك فإن التكنولوجيا التي تتيح مضاعفة طاقة الشريحة مرة كل ثمانية عشر شهرا والتي جعلت الشريحة المعايرة عام 1971. وهي الشريحة 4004. تتضمن 2300 ترانزيستور وشريحة اليوم المعايرة. البنتيوم برو. تتضمن 5.5 ملايين ترانزيستور. فمعنى ذلك أن شريحة العام 2011 ستحمل بليون ترانزيستور. كل هذا للاستعمال العادي في مكان العمل والمنزل واللعب. فشركة إن آي سي اليابانية على سبيل المثال تعد لعام ألفين كمبيوترات أكثر سرعة وطاقة معتمدة شرائح جديدة للذاكرة تتسع لـ 4 جيجا أي أربعة آلاف مليون بايت. وهي طاقة خزن تستوعب 64 نسخة من مؤلفات شكسبير الكاملة في وقت واحد مما ينفي الحاجة إلى الأقراص الصلبة.

في الوقت نفسه لـ (قانون مور) لازمة رياضية. أي استنتاج طبيعي. وهو أن كلفة قوة كمبيوترية معينة تنخفض بنسبة 50% كل ثمانية عشر شهرا. وفي كل مرة يحصل ذلك تمتلئ السوق بتطبيقات كمبيوترية لم تكن ذات جدوى اقتصادية من قبل فتعود السوق إلى الانتعاش والمصانع إلى قذف التكنولوجيا الجديدة.

ومن المؤكد أن هناك حدوداً لـ (قانون مور). هذه الحدود هي البنية الذرية للمادة وهي التي ستملي الحدود القصوى للتصغير. فالمسافة الحالية بين ترانزيستور وآخر والبالغة 0.035 ميكرون تعني المسافة بين خنادق الترانزيستورات. وتبلغ واحدا من 100 ألف من سماكة الشعرة وهم ما يفوق حدود التصور. وأي تخط لمسافة 0.07 هو ربما غير مضمون أو مؤكد. استناداً لطبيعة التكوين الذري للمواد. لأنه سينطوي على تخطي الذرات لمساراتها.

السؤال: هل يكون الحل بالشرائح الإحيائية?

هذا الكلام المثير كان يعتبر من نسج الخيال منذ سنوات قليلة. ومقوماته ربط الشرائح الترانزيستورية بمادة عضوية دماغية. ولكن العديد من المختبرات تنبؤنا منذ الآن بأن تقنية مثل هذا الربط أصبحت متوافرة. ومن يعش ير. وهذه قصة أخرى لوقت آخر.

 

أنطوان بطرس