نذير نبعة: لوحاتي قصيدة شعر طويلة لمدينتي دمشق
نذير نبعة: لوحاتي قصيدة شعر طويلة لمدينتي دمشق
حوار: عزيزة السبيني
لا يمكنني بكلمات قليلة، أن أتحدث عن تجربة الفنان نذير نبعة، فكل ثمرة من ثمار تجربته تحتاج إلى أسطورة تنسج أجزاءها. تدخل إلى عالمه الدمشقي، فتتيه في بساتين الرمان والتفاح والجوري، والنسوة اللواتي حفرن في نفسه أخاديد الحب والعشق والجمال. تطوف في عالمه لتلمس غنى الهوية التي شكّلت تجربته، من آل سومر وآشور، ومقالع الحجارة، إلى المدن المحروقة، بغداد، والقدس، وغزة. نذير نبعة، فنان لم تصنعه موهبته، وحسب، بل صنعه عمله الدءوب على مدى خمسين عاماً. وفي معرضه الاستعادي الذي أقيم أخيراً في دمشق، كمعرض افتتاحي لصالة تجليات أتاح الفرصة لتتبع - وقراءة - عالمه المدهش الذي انطلق من حواكير الصبار في بساتين حي المزة في دمشق، ولأنه حالة استثنائية في الفن السوري بشكل خاص، والفن العربي بشكل عام، كان لابد من الولوج في عالمه الإبداعي، واستلهام المؤثرات التي ساهمت في تكوينه الفني عبر هذا الحوار.
- قبل أن أتحدث عن هذه المراحل، لا بد من الإشارة إلى المرحلة الأهم التي سبقتها، هذا إن جاز لنا تقسيمها إلى مراحل. وهي مرحلة الوعي الأولى، مرحلة الطفولة في بستان جدتي، التي أعتبرها أهم المراحل التي ساهمت في تكويني الفني, من تسلق الأشجار لاكتشاف تفاصيلها، واختلاف أشكال أوراقها.. فأوراق التفاح تختلف عن أوراق الرمان،إلى الورد المبعثر على جانبي الساقية، ولون السماء الذي يتغير مع إشراقة الشمس وغروبها، والظلال التي تنعكس على الأرض من خلال أوراق الأشجار. هذه التفاصيل الصغيرة، والملاحظات التي لاتثير انتباه البعض، ترسخت في اللاوعي، فكانت الأسس التي ساهمت في تكويني الفني. وفي المرحلة الابتدائية، علّمنا الخطوط الأولى للرسم الأستاذ «ثابت قباني» وهو عم الشاعر نزار قباني، فتعلمت على يديه رسم الطبيعة، وهذا ما ساهم في كسر حاجز الخوف منها- أي الطبيعة. وأذكر أنني في نهاية العام شاركت في معرض نظمته المدرسة ، حصلت فيه على جائزة كانت عبارة عن كتاب العاصفة لشكسبير، بالإضافة إلى رحلة ترفيهية إلى بحيرة قطينة. في بيت قباني تعرفت على الأساتذة الذين تعلمت على أيديهم كالفنان نصير شوري، وشاهدت لأول مرة في حياتي لوحة زيتية مطبوعة بقياس كبير. وكان من أصدقائي في تلك المرحلة ابن الأستاذ محمود جلال شيخ الفنانين، وصداقتي معه سمحت لي بالتردد على منزله ، حيث شاهدت لوحة الراعي معلقة على الجدار، مسلطاً عليها ضوء خافت، فشعرت وكأنني في معبد. وفي بيته أيضاً، تعرفت لأول مرة على الألوان الزيتية، وأنابيب الألوان، فخرجت من منزله سعيداً، وكأنني خارج للتو من حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة.
- في المرحلتين الإعدادية والثانوية، حيث تعرفت على طلاب أكبر سناً، أذكر منهم مروان قصاب باشي، وغازي الخالدي، وكان يدرّسنا الرسم الفنانان صلاح الناشف، ورشاد قصيباتي. وكنت حينها أتردد على مرسم الفنان الكبير ناظم الجعفري، وعلى يديه تعرفت على الخامات الفنية، والرسم بالفحم، والألوان المائية، والرسم في الطبيعة, حيث كان يطلب منا أن نذهب إلى حديقة المتحف، ونرسم التماثيل على ضوء متحرك. وقد جعلتنا شخصية ناظم الجعفري الصارمة، نحترم الفن، ونقدسه. وبعد حصولي على الشهادة الثانوية، حصلت على منحة لدراسة الفنون الجميلة في القاهرة.
- ذهبت إلى القاهرة، في فترة النضج الفني والفكري، وكانت عاصمة العرب الثقافية، وفي كلية الفنون درست على يد أساتذة الفن، أذكر منهم (عبدالعزيز درويش، حامد ندا، حسين بيكار، عبدالهادي الجزار)، تعرفت من خلالهم على مدارس الفن الحديث كالمدرسة التعبيرية، والانطباعية، والواقعية، والتكعيبية، وفي فترة الستينيات شهدت مصر تحولاً كبيراً في الفكر الاجتماعي، فبرزت على السطح الموضوعات ذات العلاقة بالكادحين والفلاحين، فتوجهت إلى قرية (برقاش) القريبة من القاهرة، وهي قرية أحد الأصدقاء ويدعى «سيد خميس»، ولأكثر من شهر كنت أتردد على مقالع الحجارة، وألتقي بالعمال، وشكلت هذه المقالع، أساس لوحات مشروع التخرج الذي حمل عنوان (عمال مقالع الحجارة)، ونلت عليه درجة الامتياز. وفي شقة بحي العجوزة، تعرفت على عدد كبير من المثقفين والفنانين المصريين المأخوذين بروح التجديد، أمثال الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، وسيد حجاب، والقاص يحيى الطاهر عبد الله، وأحمد فؤاد نجم، والشيخ إمام. وكانت هذه الشقة أقرب إلى المنتدى الأدبي، حيث كانت تدور سجالات فكرية وثقافية، ومن هنا توطدت علاقتي بالكتّاب والفنانين المصريين، كما تعرفت على شلبية إبراهيم رفيقة عمري ودربي الطويل، فعشقت مصر من خلال هذه الفلاحة الجميلة المحتفظة بطفولتها البريئة. وقد مارست الفن بفطرتها وعلى سجيتها من أجلي أولاً، ومن أجل الفن ثانياً. الطبيعة والأسطورة
- كانت البداية من الجزيرة السورية، حيث عينت مدرساً في مدينة دير الزور، وقد أسرتني الطبيعة الأسطورية، والميثولوجية الفراتية، والتاريخ الآشوري، والسومري، والملامح الموجودة بالنحت التدمري. بإمكانك اعتبار هذه المرحلة، مرحلة البحث عن الهوية المحلية. ومنذ اليوم الثاني لوصولي بدأت الرسم، وكانت لوحات تلك المرحلة أساس المعرض الأول في صالة الفن الحديث بدمشق، وقد حظي المعرض باهتمام كبير في الوسط الثقافي، وبعد أشهر من انتهاء المعرض اقتنى أحد جامعي اللوحات لوحة (كاهنة مردوخ)، وكانت أول لوحة تباع لي. وفي العام 1967، تقع الحرب العربية الإسرائيلية، فتهز الهزيمة المجتمعات العربية، وقد أظهرت ذلك من خلال الملصقات، والتصميمات الطباعية، فارتفعت النبرة السياسية في معظم ما قدمت، ثم انتقلت إلى مديرية الكتب المدرسية، وعملت إلى جانب الفنانين ممتاز البحرة، وعبد القادر أرناؤوط في تصميم أغلفة الكتب المدرسية. وساهمت أيضاً، في رسوم العدد الأول من مجلة فلسطين. وبعد معركة الكرامة، زرت مع عدد من الفنانين معسكرات الفدائيين في غور الأردن، ومن تلك الزيارة خرجنا بمعرض مشترك جال أكثر من مدينة عربية، منها، القاهرة، وعمان، والمحافظات السورية. كما قدمت مجموعة بعنوان (الأرض المحتلة) لترافق أشعار محمود درويش، وسميح القاسم، وغيرهما. وفي عام 1968، كان المعرض الثاني في صالة الصيوان بإدارة غياث الأخرس، عرضت فيه مجموعة اللوحات الصحراوية بألوان (الأهرة)، وتميزت اللوحات بأسلوب جديد، لأنني لا أؤمن بنمط وأسلوب موحد للفنان. وفي العام نفسه، انتقلت للتدريس في كلية الفنون الجميلة كأستاذ للرسم في أقسام التصوير والحفر والزخرفة والعمارة. كما عملت في مجلة الطليعة، ومجلة أسامة، التي كانت أول مجلة تصدرها وزارة الثقافة، خاصة بالأطفال، وعمل في سنواتها الأولى، نخبة من الكتاب والفنانين أمثال ( ممتاز البحرة، زكريا تامر، لجينة الأصيل، طه الخالدي، عدلي رزق الله، سعد الله ونوس... وغيرهم).
- دراستي في باريس، كانت فرصة للابتعاد، والرؤية من منظور آخر، والاطلاع على النتاج العالمي. وكنت طالباً مجداً، درست في مرسم الفنان «يانكل» في «البوزار»، الذي كان يجري نقاشاً عن أعمال الطلاب، ويقيم صداقات معهم، وقد أبدى اهتماماً كبيراً بما أنجزه، وقدمه إلى أكثر من صالة عرض في باريس. وكنت قد اتبعت نظاماً يومياً، يبدأ في الصباح بزيارة المتاحف، ومتابعة أعمال الفنانين المعاصرين، خاصة، «بيكون، شيله، ماتا، دادو... وغيرهم». شكّلت الدراسة بالنسبة لي ترميماً لمعارفي التقنية، بحيث غدت أكثر انسجاماً مع رؤيتي الفنية، وبدأت برسم النباتات، والأزهار المستوحاة من بساتين المزة، التي ارتبطت بكتاب (الخيال عند ابن عربي)، فخرجت مجموعة من اللوحات بالحبر الصيني (الأبيض والأسود)، وبقلم الرصاص، وورقيات بالألوان المائية، وخرج مشروع التخرج بمجموعة من الموضوعات ( النباتات، الطبيعة، المنظر، البورتريه)، بالاعتماد على تقنيات مختلفة. وفي باريس تعرفت على الإكرليك، ونفذت به لوحات عديدة لأنه تناسب مع مزاجي، كونه يعطيني سطحاً جافاً يمكنني العمل عليه باستمرار. الفن يحتل مكانه
- إلى جانب التدريس، عملت في مجلة الموقف الأدبي، التي كان يرأس تحريرها زكريا تامر، ولأول مرة قدمنا الرسم على صفحة منفردة، إلى جانب الشعر والرواية والقصة، فكان الرسم عملاً فنياً موازياً للعمل الأدبي، وكانت المرة الأولى في تاريخ الصحافة التي يدرج فيها اسم الرسام مع هيئة التحرير. كما قدمت الكثير من أعمال الديكور لعدد من مسرحيات الأطفال، ومسرح العرائس، وساهمت مع دار الفتى العربي في بيروت في إنجاز سلسلة من الكتب التي شارك فيها أهم الفنانين والكتّاب العرب. وبالتعاون مع دار النورس أصدرنا كتباً شعرية للأطفال، حيث قمنا باختيار عدد من الشعراء الذين أثروا في حركة الشعر الحديث، وأصدرنا دواوين لهم مع رسومات خاصة، فرسم لأشعار أدونيس (نبيل تاج)، وسعدي يوسف (إلياس زيات)، ونزار قباني (شلبية إبراهيم)، وكان من نصيبي محمود درويش، فكانت هذه المرحلة، مرحلة الأحلام الجامحة. بعد هذه المرحلة من العمل الدءوب، كان عليَّ التوقف، فبدأت أجمع أفكاري، واخترت البقاء في التدريس، والتركيز على اللوحة الفنية، لوحة (الفكرة) فمن خلالها تستطيع أن تجذب شريحة أكبر من المثقفين، فكانت اللوحة التشخيصية، والتي سميت فيما بعد (الدمشقيات)، واعتبر هذه اللوحات قصيدة عشق غنائية طويلة لمدينة دمشق، لأنها بالنسبة لي هي الأم، الأخت، الحبيبة، المدينة، الوطن. الألوان موسيقى وحشية
- بدأ الارتباط بهذه التفاصيل منذ مرحلة الطفولة الأولى، القوقعة البحرية، القرآن الكريم، أساور أمي وحليها، السجاد المفروش على الأرض الذي يوحي بمئات الولادات، النور المنبعث من مصباح الكاز، هذه التفاصيل علمتني كيف يتشكل المشهد البصري من السرد. وتلاحظين في هذه اللوحات أن إغواء العين لم يعد يعنيني، وما يميز هذه السلسلة الاقتراحات الجرافيكية للوجوه والأيدي، وابتعادها عن الجمال المألوف، وخشونة اللمسات، وشراسة العلاقة بين الخط واللون، وهذا ما منحها الموسيقى الوحشية التي تلمحينها بين الخطوط.
- أحياناً، يسيطر لون معين على ريشة الفنان عند ممارسته لموضوع محدد، فسيطرة اللونين الأزرق والأخضر للميثولوجيا، أمر طبيعي، كما هو أمر طبيعي أيضاً، سيطرة الألوان الصحراوية عند رسم الصحراء. في مرحلة (تجليات)، أصبحت المسألة أكثر عمقاً، فيها فضاء تصويري واسع، وتقنية مميزة، وألوان متداخلة، وتآلف بين البارد والحار، وبين القاتم والمضيء.. تآلف وانسجام بين الأبيض والأسود، لأني أريد من المشاهد أن يرى اللوحة من خلال موضوعه ورؤيته الخاصة. أريده أن يبقى إلى جانبي، أن يكون شريكاً في العمل. وهذا التداخل هو جزء من الطبيعة، ومن الواقع.
- تحت تأثير هذا السؤال مجموعة من اللوحات، التي تمثل المدن العربية المحروقة، بغداد، بيروت، غزة، جنين. فأنا لم أرسم الدمار، والأبنية المحروقة، وإنما رسمت الحرقة داخل صدري، وصدر كل مواطن عربي، وهو يتابع انهيار هذه المدن وإحراقها، وهو عاجز عن القيام بأي دور.
- بعد الاستقلال، ظهرت فكرة العروبة، والقومية العربية. الأمر الذي أدى إلى ظهور فن خاص له ملامح محلية، وهوية عربية. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، هل استطعنا كفنانين عرب تحقيق هذه الخصوصية، وهذه الهوية؟ في الحقيقة، ومع الأسف لم نستطع إلى اليوم تحقيق الصفات الخاصة بنا. نحن اليوم نسمع بلوحة هندية، ولوحة يابانية، لكننا لا نسمع بلوحة عربية. فمنذ ظهور هذه الفكرة في العام 1967، والحروب المتتالية التي نتعرض لها، أدت إلى انهيار الأحلام، والأفكار. صحيح أن هناك فنانين مرموقين استطاعوا تحقيق وجودهم خارج الوطن، وداخله. لكن الحركة التشكيلية العربية لم تكتمل ملامحها، لأن هناك جينات خاصة، وهذه الجينات الخاصة بالتشكيل العربي لم تخلق بعد. ويمكن أن نتبع هذا السؤال، بسؤال آخر: هل هذه الملامح ضرورية؟ أقول، في زمن العولمة، والانفتاح على العالم، وثورة الاتصالات، لا أستطيع الإجابة عن هكذا سؤال. الجوائز التي حصل عليها:
|