جمال العربية
جمال العربية
"
السحابة الباكية " يقول عنه أبو الفرج الأصفهـاني في كتاب "الأغاني" وممن صنع من أولاد الخلفاء فأجاد وأحسن وبرع وتقدم جميع أهل عصره فضلا وشرفا وأدبا وظرفا وتصرفا في سائر الآداب: أبو العباس عبدالله بن المعتز وأميره - مع قرب عهـده بعصرنا هذا - مشهور في فضائله وآدابه شهرة تشرك في أكثر فضائله الخاص والعام. وشعره وإن كان فيها "الملوكية" وغزل الظرفاء وهلهلة المحدثين فإن فيه أشياء كثيرة تجري في أسلوب المجيدين ولا تقصر عن مدى السابقين، وأشياء ظريفة من أشعار الملوك في جنس ما هم بسبيله، ليس عليه أن يتشبه فيهـا بفحول الجاهلية، فليس يمكن واصفا لصبوح في مجلس شكل ظريف بين ندامى وقيان وعلى ميادين من النور والبنفسج ومنضود من أمثال ذلك إلى غير ما ذكرته من جنس المجالس وفاخر الفرش ومختار الآلات ورقة الخدم، أن يعدل بذلك عما يشبهـه من الكلام البسيط الرقيق الذي يفهمه كل حضري، إلى جعد الكلام ووحشيه أو إلى وصف البيد والمهامه والظبي والظليم والناقة والجمل والديار والقفار والمنازل الخالية المهجورة ، ولا إذا عدل عن ذلك قيل له سيئ ولا أدى يغمط حقه كله إذا أحسن الكثير وتوسط في البعض وقصر في اليسير، وينسب إلى التقصير في الجميع لنشر المقابح وطي المحاسن". ويقول ابن المعتز عن نفسه: " أنا فرع هاشمي من شجرة ضاربة في الأرض خفية النماء وارفة فروع المجد أسهم للمكارم إذا كحل الكرى عيون النوم، تأبي نفسي كل خطة خسف وتستجيب لكل خطة ربح، لم آت ما حرم الله في الهوى، ولم أتجنب عملا يرضي الإله ، غنائي لغيري وافتقاري على نفسي، أكبح جماحها وأردها إلى التقوى قوية نقية، فتأوي إليها مثلما يأوي الحسام إلى قرابه". هذا هو ابن المعتز، الشاعر الخليفة، أو الخليفة الشاعر، الذي أجمع القدماء على أنه أشعر بني هاشم وفخر الخلفاء وصاحب الشعر الرقيق والنثر المنيع الرفيع وأول من صنف في صنعة الشعر وأرق الناس في الأوصاف والتشبيهات. وديوان ابن المعتز- حفيد المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد - الذي عاش بين عامي 861 و909 ميلادية ومات مقتولا بعد أن تولى الخلافة يوما واحدا، شاهد على اهتمامه بالبديع في الشعر، وهو الذي أفرد له كتابا يتكلم فيه عن ضروبه وفنونه وصوره ومراتبه، حتى لقد أصبح ابن المعتز بفضل هذه الشاعرية المبدعة صاحب مدرسة ورأس طريقة في التعبير والتصوير ، والقدرة على رسم الصور الشعرية في غير تعقيد أو تكلف، والحرص على إحياء التقاليد الشعرية - امتدادا للفحول من قدامى الشعراء - والالتفات إلى مواصفات العصر العباسي- الذي عاش فيه ابن المعتز - واعتبر ممثلا لما فيه من رفاهية وازدهار و"ملوكية". والمتأمل في شعره سرعان ما يلتفت إلى ما فيه من وضوح وتدفق وانسياب وجمال، وإلى ما ينطق به من سعة خيال ووفرة ثقافة واطلاع، وتمكن من أساليب اللغة ونظم الكلام فضلا عن دقة ملاحظة وحدة ذكاء. فهو المصور الرسام البارع، الشديد الولع بالخطوط والألوان، وما بينها من مساحات للظلات وفنون الإيحاء. من أجمل الآثار الشعرية لابن المعتز قصيدته في السحابة الممطرة وما يسبقها من برق ورعد، وأثرها الساحر في الأرض والنبات، والارتباط الحميم بينه وبين صحوة الوجود: حياة وشبابا وتألقا، يدفع به في ختام القصيدة إلى نبرة الفخر المعلنة بنفسه وبقومه، بآثاره وأمجاده، في طريق المجد والمكرمات. يقول ابن المعتز:
ويبقى للمتأمل له هذا النص الشعري معاودة اكتشاف دوائره التي جعلها ابن المعتز متداخلة متكاملة. الدائرة الأولى فيه تناولت انهمار المطر وخصوبة الأرض وازدهار النبات . وكأنما الأبيات الستة الأولى من القصيدة - التي تنتظمها هذه الدائرة - مدخل عضوي لصحوة الإنسان مرتبطة بصحوة الوجود، والخصوبة معنى كبير يتألق في الدائرتين، وتصبح الأبيات الستة التالية إشاعة هذا المعنى بكل ظلاله وإيحاءاته ، ومركز الحركة فيها هو الحبيب الجميل التكوين الذي يتمايل كغصن البان وتكلم بلغة العيون وشعره كنسج الدروع - سابغ ومسترسل - وفمه يفتر عن زهور الأقحوان ، ثم تبدأ الدائرة الثالثة والأخيرة من القصيدة التي يستهلها في البيت الثالث عشر داعيا بالسقيا لأهل الحمى ، ويفجر الحمى في وجدان ابن المعتز كل معاني الانتماء وظلال الأهل ، والقدرة على اقتحام المهالك والأخطار والتغلب على كل تعب ومشقة ، حتى لو كان السير في أرض لا يهتدى فيها ، أو أمر تحوطه الظنون والريب ، ويطيش فيه العقل والصواب . ويختتم ابن المعتز قصيدته بحديث الربيع كما استهلها بحديث السحابة الممطرة لتكتمل دورة هذا النص الشعري دعوة إلى الحياة والخصوبة والنماء .
![]() |
|