الحياة كلمة وحلم وأمل محمود قاسم

أشعار: جويس منصور

كانوا غرباء في الأوطان التي هاجروا إليها وغرباء في البلاد التي يحملون ثقافتها. هذا هو حال الأدباء العرب الذين يبدعون بغير اللغة العربية، وينشرون كتبهم خارج حدود الوطن حيث يتعامل معهم البلد الذي انتقلوا إليه للإبداع كأدباء أجانب في المقام الأول. أما بلدهم الذي جاءوا منه ويحملون جوازات سفره لسنوات طويلة وهويته، فإنه لا يكاد يشعر بهم بالمرة. وقد يختلف الحال لدى الأدباء المغاربة واللبنانيين الذين يكتبون باللغة الفرنسية مباشرة. فأغلب هؤلاء الكتاب مقروء في بلاده مثلما هو مقروء في فرنسا. ليس فقط لأن الناس يمكنهم بسهولة قراءة الكتب بنصوصها الأصلية، بل أيضا لسرعة حركة الترجمة ليس فقط من الفرنسية إلى العربية بل وبالعكس.

إلا أن الأمر يختلف كثيرا بالنسبة للأدباء المصريين الذين يعتبرون الفرنسية لغتهم الأولى، فنتيجة لظروف اجتماعية ما وجدت هناك أسر مصرية تجيد اللغة الفرنسية، وتعتبر أن من أسباب ومظاهر الرقي الاجتماعي إتقان هذه اللغة التي أصبحت هي الأولى لدى هذه الأسر، مما جعل أبناءها يتكلمونها بطلاقة أكثر من العربية. وكان المبدعون من هذه الأسر يجدون أنفسهم مجبرين على التعبير أولا باللغة الفرنسية. وعاشوا بين ثقافتين مختلفتين: الأولى تمثل المكان والناس الذين يعيشون بينهم، والثانية تمثل اللغة وتجربة القراءة والاحتكاك الاجتماعي بالفرنسية.

وقد وجد هؤلاء أنفسهم وسط تناقض حاولوا أن يتعاملوا معه بحساسية شديدة. فكتبوا عن بيئاتهم التي يعيشون فيها وعن أصدقائهم وتجاربهم الحياتية. وكانت البيئة والشخصية المصرية هي البطل الرئيسي لأغلب إبداعهم إن لم يكن جميعه.

غرباء في بلاد غريبة

ولم يكن غريبا في سنوات انفتاح ثقافي حقيقي، أن يفكر أغلب هؤلاء الأدباء في الرحيل إلى فرنسا ليس فقط من أجل النشر، ولكن للالتقاء بأدبائهم المفضلين، ومعايشتهم في مقاهي الأدباء، والمشاركة في صنع ثقافة معاصرة أساسها الإنسان أينما وجد، والمناداة بحرية التعبير، والتوغل في مجاهل البشرية ومكنوناتها. وقد تكثفت هذه الظاهرة بعد الحرب العالمية الثانية. وكان من أوائل الذين سافروا إلى هناك أندريه شديد وألبير قصيري الذي أصبح صديقا حميما لألبير كامي وجان بول سارتر، ثم سافرت جويس منصور في أوائل الخمسينيات وأصبحت صديقة حميمة للشاعر السريالي أندريه بريتون وصحبته. كما سافر أيضا الشاعر جورج حزين وأدموند إليابس وغيرهما الكثير.

وأغلب هؤلاء الأدباء كانت تجمعهم انتماءاتهم الفنية والأدبية لمدرسة ما أو لاتجاه فني وحركة يرتبط أبناؤها معا برباط إنساني عميق خاصة السريالية التي جمعت بين كل من جورج حنين وجويس منصور وادموند اليابس، أما ألبير قصيري فهو ينتمي إلى جيل الواقعية المصرية الذي يعد نجيب محفوظ أبرز من يمثله.

ومن الجدير بالذكر أن الإبداعات الأولى لهؤلاء الكتاب قد نشرت في مصر وباللغة الفرنسية ومطبوعة في مطابع مصرية كانت تنشر كتبا باللغة الفرنسية. وكان أغلب قرائها من الذين يجيدون هذه اللغة في مصر. وقد وجدوا جميعا أن دور النشر الفرنسية تقدم فرصا أفضل لهم كمبدعين، ليس فقط فيما يتعلق بانتشار الكتاب، بل وبوجودهم على الساحة الأدبية، فضلا عن العائد المادي، خاصة أن الناشرين قد تهافتوا بشكل لافت للنظر لطبع أعمال هؤلاء الأدباء المرة تلو المرة.

ولعل أبرز دليل على هذا هو تلك الفخامة التي صدرت بها مجموعة الأعمال الكاملة للشاعرة المصرية الأصل جويس منصور عن دار نشر Actes Sudالفرنسية. فلا شك أن حلم أي كاتب أن تنشر أعماله في مثل هذه الطبعة الفخمة والأنيقة. والغريب أن الشاعرة نفسها لم تر هذه الأعمال كاملة بين يديها لأنها صدرت بعد وفاتها بأكثر من خمس سنوات.

الشاعرة الصغيرة

ويهمنا هنا قبل أن نعرض للأعمال الكاملة لجويس منصور المنشورة تحت اسم " نثر وشعر " أن نقدم ملحما موجزا عن إبداعها وحياتها، فهي ابنه أسرة مسيحية ميسورة كانت تعمل بالتجارة، وقد اقتضى عمل أبيها أن ينتقل بين بريطانيا ومصر، وفي أثناء إحدى هذه التنقلات ولدت جويس في عام 1928، ورغم أن الصغيرة قد أتقنت اللغة الإنجليزية بحكم ترددها الدائم على بريطانيا، إلا أنها التحقت في القاهرة بإحدى المدارس الفرنسية، ثم انتهت من كتابة أول قصيدة وهي في الخامسة عشرة، وفي عام 1948 كانت قد انتهت من جمع ديوانها الأول "صرخات". وفي تلك الآونة كانت قد تعرفت بالشاعر السريالي جورج حنين الذي راح يشجعها، وكان أكثر الشخصيات التي تأثرت بها.

وفي عام 1953 نشر ديوانها الأول بعد خمس سنوات من الانتهاء من تأليفه لدى الناشر Seghers . وفي باريس علق أندريه بريتون أنه من أجمل ما قرأ من شعر في حياته، وطلب لقاء الشاعرة، وراح يعبر عن دهشته بجمالها الفرعوني حين التقاها مع زوجها، وهو يقول:"أنت أول امرأة أمكنها أن تكتب عملا ريبا كشف عن كل ما بمكنون صدرها".

في العام التالي 1954 نشرت جويس ديوانها الثاني تحت عنوان "تمزقات" الذي أثار ضجة جديدة حول هذه الموهبة، وكتب عنه أدباء بارزون مثل أندريه بيير وهنري ميشو. ومنذ ذلك الحين أصبحت جويس وزوجها صديقين حميمين لأندريه بريتة الذي كان لا يخفي أن المرأة هي ملهمته لكل أشعاره. كما انتقل هذا الإلهام لأغلب الشعراء والرسامين السرياليين الذين أعجبوا بجويس كشاعرة وكامرأة جميلة، فكم رسموا لها من لوحات. كما راحت الشاعرة تنشر قصدئدها في كتالوجات معارض رسامين عديدين مثل الفنان الكندي جان بنوا، والإسباني ماتا الذي صورها كنيران تحرق صدر الفنان، ثم ألفريدولام، وبيير الشينسكي، وسافنبرج، وتوين، ولينورفيني.

وقد عبر أندريه بريتون عن إبداع جويس منصور قائلا أنها "حديقة هذيان هذا القرن". كما أكد أكثر من عرفها أنه لا يوجد اختلاف بين أناقة هذه المرأة كما عرفها الناس، وبين أناقة شعرها، وكأنهما كيان واحد.

فنان بلا حدود

في أعمالها الكاملة التي نحن بصدد عرضها اليوم نجد جميع نصوصها النثرية وقصائدها المنشورة والتي ظلت تكتبها حتى وفاتها في 28 أغسطس عام 1986. وقد تم ترتيب هذه الأعمال حسب النوع الأدبي. فهناك نصوص قصصية نثرية نشرتها عام 1958 تحت عنوان "الراقدون الراضون". ومسرحية قصيرة منشورة عام 1968 تحت عنوان "أزرق الأغوار" ومجموعة قصص قصيرة منشورة عام 1970 باسم "هذا"، أما دواوينها الشعرية فهي "صرخات" عام 1953، ثم "تمزقات" 1954 و "كواسر" 1960، ثم "المربع الأبيض" 1965، و"اللعنات" عام 1967، و"فالدس والمومياء" عام 1969، ثم مجموعات من القصائد المتناثرة كتبتها في كتالوجات معارض الفنانين - كما أشرنا - منها "الأبد الكبير" عام 1981 و "نيران مستعرة" 1985 و"ثقوب سوداء" عام 1986.

وفي إبداع جويس منصور تجد الفنان المؤمن بحرية التعبير، وبانطلاقة القدرة على العطاء، فلا حواجز يمكن أن تقف أمامه من أجل أن يعبر عن مشاعره، فنحن في الأحلام نرى كل شيء مباحا والكوابيس مثلا تمثل حقلا خصبا لتحطيم الأزمنة والأماكن والألوان والتركيبات المألوفة.

ومن المعروف أن السرياليين كانوا يؤمنون بثلاثة فنون ويتعاملون معها في المقام الأول عن بقية الفنون وهي على الترتيب: الفن التشكيلي والقصيدة، ثم السينما. ففي هذه الفنون يمكن للفنان أن ينطلق دون أن تعرقله حدود، وهو لا يصبح أسيرا إلا لما يعتمل في نفسه، أما الرواية وفن القص بشكل عام، فإن الفنان غالبا ما يجد نفسه فيه محبوسا في إطار الحدوتة، ومشاعر الآخرين. أما في القصيدة فإن الشاعر مجبر على أن يعبر عن نفسه في المقام الأول. وفي اللوحة فإن الريشة والألوان هما نبض الفنان وخفقات قلبه.

ولذا فلا يمكن أن نعتبر تلك النصوص النثرية التي قدمتها جويس منصور بمثابة إبداعات قصصية، كما لا يمكن إدراجها تحت تقسيم الشعر المنثور، فهي نصوص طويلة مختلفة الشكل فيها الأشخاص يتحركون، لكننا لسنا أمام موضوع قصصي محدد، كما نحن في اللوحة السريالية ننتقل من عالم هلامي لآخر دون أن نتساءل عن السبب، أو نعرف النتيجة.

الموت كائن رئيسي

والنساء في نصوصها القصصية غارقات في أحلامهن، وهن يعشن في عالم غامض مثل كلارا في أقصوصة "السرطان" فهي لم تخرج أبدا من منزلها، ولم يسبق لها أن شاهدت أحدا.

كما أن الموت موجود ككائن رئيسي في أغلب إبداع جويس منصور النثري، ففي أقصوصة "السرطان" تموت بين ذراعي حبيبها الرواية الذي يفأجا بالشرطة تقبض عليه، ثم تخلي سبيله عندما تعرف سر الموت كلارا: "ماتت في الرابعة صباحا، والذكرى التي احتفظ بها عن هذه الليلة هي أنني لم أستطيع أبدا أن ألقاها. هناك مقعد من الضباب حولي، وبعض الحبر الرديء في دمي، فأصبحت كالمجنون".

أما في المجموعة النصوص القصصية التي تحمل عنوان "يوليوس قيصر" فإن الموت موجود في الدماغ " ماتت رأسي معه. لست سوى كتلة من الرماد المكتومة والتي ترحل كل صباح من المصنع حتى أكسب حياتي، لأنه يجب أن نستمر على قيد الحياة، حتى ولو بدون رءوس. لقد تركت آخر أسناني اللبنية في فم زوجي الذي مات من التضخم الاقتصادي ورحت أعد نفسي لإجراءات الدفن.

ارتديت ثوبا أسود به ألف ثنية من الذكريات، واسعا للغاية عند الفخذين، وبالغ الضيق أعلى الصدر. لقد دفنت صديقي يوم خطبتنا".

ورغم شهرة جويس منصور كشاعرة، إلا أنه بمراجعة أعمالها الكاملة، فإن مساحة أعمالها النثرية تكاد تعادل كل ما أبدعته من شعر، لكن يبدو أن مقولة الكاتب عباس العقاد، أن خمسين قصة لا تعادل في قيمتها بيت شعر متميزا، صادقة، فلا تكاد تذكر جويس منصور بين كتاب القصة القصيرة، ولا الإبداع النثري بالمرة، رغم أهمية هذه النصوص كما رأينا. ولا تجيء أهمية هذه النصوص فقط من سلاستها ولغتها الراقية الرقيقة، بل لأنها بذلك تكون من بين السرياليين الذين سعوا لإفساح مجال الإبداع أمام عطائهم، فكما أشرنا فإن القليلين من السرياليين قد اتجهوا إلى فن القص. وقد تعمدنا أن نعود إلى هذه النصوص ونقتطف منها لنتأكد إلى أي حد أفادت جويس منصور النثر بشاعريتها.

وجويس منصور ظلت وفية لسرياليتها حتى آخر كلمة كتبتها قبل وفاتها، ليس فقط لأنها أهدت جميع أعمالها إلى أندريه بريتون رائد الحركة السريالية، ولكن أيضا لأنها رسمت في نثرها عشرات، بل مئات اللوحات السريالية. ولم تنس أبدا أنها شاعرة وهي تكتب النثر سواء النصوص القصصية أو المسرحية ذات الفصل الواحد التي تتضمنها الأعمال الكاملة.

لكن من الواضح أن نثر جويس منصور قد اختلفت أبعاده طوال سنوات الإبداع، ففي مجموعتها "هذا" المنشورة عام 1970 بدت كأنها تتكلم وتصف ظواهر الأشياء أكثر من أعماقها. لكن الموت ومراسيم الدفن لا تزال ماثلة في ذهنها. ففي أقصوصة "النقطة" تصف جنازة بتفاصيل دقيقة من خلال المراسيم نفسها. ومن المعروف أنها في النصوص التي سبقتها عن مثل هذه الأمور، فإنها كانت تتعامل معها كأنها أشياء من الأحلام، نابعة من الوعي والماضي والحاضر والمستقبل معا في مزيج من الصعب تحديد هويته، أو معرفة أبعاده.

إلا أنها تتحدث عن هذه الأمور في هذه القصة مثلا على النحو التالي: " تم الدفن في اليوم الرابع، بدت الأم كأنها تنتحب وسط الخطبة. بدا النحيب طويلا ومثيرا للملل رغم هذا المشهد الدائر في غابة ماري كيلو. قالت ماري إنني لم أسمع شيئا عندما حضرت الحفل، بل رأيت الأم تتمخط مرات عديدة بقوة".

وكما نلاحظ فإن أغلب هذه القصص لا تنتمي إلى البيئة العربية مثلما فعل أدباء آخرون، لكننا بشكل عام أما حالات إنسانية مجردة. فرغم الأسماء غير العربية، إلا أن الانتحاب مثلا عند المقابر ظاهرة إنسانية.

عالم من الشعر

هذا هو عالم جويس منصور النثري. فماذا عنها كشاعرة؟

لاشك أن شكل القصيدة قد تغير كثيراً عند جويس منصور. ففي ديوانها الأول "صرخات" اتسمت أبياتها بالعبارات القصيرة، وبمقاطع لا تزيد على الخمسة أبيات غالبا في كل منها. ثم أصبحت هذه المقاطع طويلة. وبشكل عام فإن جويس منصور مهمومة في شعرها بالحب والرجل، والحياة وأيضا الموت والمرض. وفي قصائدها الأولى كانت تستعذب الحب، إلا أنها في قصائدها الأخيرة استعذبت المرض والألم. وفي كل عشقها للأشياء ذهبت جويس منصور إلى أقصى الحدود، أحبت حتى النخاع، ولدرجة إسالة الدماء. ولم يكن يهمها في ديوانها "صرخات" أن تعنون أشعارها، فبدا الديوان كله وكأنه بمثابة قصيدة واحدة، ثم أصبح لكل قصيدة في دواوينها التالية عناوين وموضوعات.

وقد حطمت جويس منصور الكثير من قيود القصيدة، وإن كانت قد التزمت بموسيقى الشعر وفى أغلب قصائدها هناك دائما تساؤلات ممزوجة بالتعجب، لا إجابات عنها، ويهمنا هنا أن نقتطف بعضا من نماذجها الشعرية في مراحل عطائها المختلفة.

ففي "صرخات" تقول:

رأيتك عبر عيني المغلقة
تتسلق سور أحلامك الخائف
وتفقد قدما من قدميك على العشب النائم
وترقد عيناك فوق المسامير البارزة
بينما أصرخ دون أن أفتح فمي
كي أفتح رأسك لليل
تقبل صلواتي
التهم أفكاري الملونة
ونقني حتى تنفتح عيناي
ليروا ابتسامة السفاح الداخلية
نقية ولو لمرة
اصلبني يا يهوذا

وفي الديوان نفسه "صرخات" أو فلنقل في القصيدة نفسها التي لا تكاد تنتهي تقول:

الذباب فوق السرير
فوق السقف في فمك وعينيك
نائم فوق ملاءة حتى رقبته
هناك رجل ماكر جاهل
أترك لي جلدي
ولا تفرغ بطني
ليس لظلك فم
وليس لغرفتك باب
وعيناك بلا نظرات
وبلا رحمة ولا لون
وخطاك تسير
بلا أثر
نحو الضوء المثير
إنه جحيمي
باب الليل المقفول

ويكاد يكون ديوانها الثاني "تمزقات" المنشور العام 1954 مشابها للديوان الأول سواء في شكل القصيدة أو في موضوعها وأيضا في لغتها، لكن كل هذا بدأ يجد شكلا جديدا في ديوان "كواسر" المنشور عام 1960، فنحن أمام قصائد متعددة، ولكل منها هوية محددة. ولأول مرة تكتب جويس منصور القصيدة ذات التفعيلات المتعددة، مثل قصيدتها "لأنه ليست لك ساقان" و"الموتى في رءوس القلاب" و "عيون الأصدقاء" إلا أنها استعملت التفعيلة الواحدة في ديوانها الرابع "المربع الأبيض" المنشور عام 1965. ويكاد يكون هذا الديوان بمثابة فحوى لقصائد قصيرة التفعيلات. ويهمنا هنا أن نقتطف بعضا من أبيات قصيدتها "باب الليل مقفول بالقفل":

ابحث عن الصحراء
فوطني جاف وسري
والحياة هي نفسها
والمطرب نائم في السرايات العميقة
وسجاد
يمشي في الحديقة المغلقة.

ولم تستطع الشاعرة أن تخفي آلام المرض في ديوانها الأخير "ثقوب سوداء" المنشور عام 1986، فقد تحولت الأحلام الوردية والمشاعر الحسية التي ملأت ديوانها الأول إلى تأوهات ألم. واختفت مشاعر الحب بشكل واضح، فهي تقول في آخر قصيدة نشرت لها فبل رحيلها:

نحن لا نعيش مع الموتى
فهم ينزلقون فوق ملاءات النسيان
نحو ثقوب سوداء
يسبحون ويرتعدون في رياح المساء
وتخوى عيونهم كأنها الحمام
وتختنق أعضاؤهم
في وحل الذكريات
نحن لا نعيش مع الموتى
فأفواهم مليئة بالزبد
ومهما بذلنا من جهد
فإن تنهداتهم الجوعى تمزق الهواء
كم نتحاب
لكنهم لا يذكرون شيئا
مشغولون بمن يكونون
ويتمتعون بحدادهم

ومن الواضح أن الشاعرة جويس منصور قد ابتعدت كثيرا عن عالم الباطن الذي يشغف به كثيرا السرياليون. وصنعت عالما جديدا تماما في قصائدها الأخيرة، عالما سوف تذهب إليه راضية. ومثلما كرمت مشاعر الحب في قصائدها، ومثلما مجدت الحياة في أشعارها، فلم لا تفعل ذلك تجاه عالمها الجديد الذي تتجه إليه فبدت كأنها تضع لنفسها رثائها الخاص بها.

هذا هو بعض من إبداع الكاتبة المصرية جويس منصور. وكما أشرنا فكم هو مجهول لأبناء اللغة العربية. وقد اختلفت الشاعرة كثيرا عن بقية المصريين الذين تركوا بلدهم لينشروا ويعيشوا في باريس، هي لم تعد إلى مصر مرة ثانية بعد رحيلها في عام 1955. أما ألبير قصيري فيأتي إلى مصر بجوازه المصري، وزارت أندريه شديد القاهرة أكثر من مرة، لكن مثل هذا الابتعاد ليس سببا بالمرة لتناسي هذا الإبداع الذي يتمتع بقيمة فنية عالية.