من شوامخ المؤرخين.. محمد شفيق غربال – تلميذ أرنولد توينبي
من شوامخ المؤرخين.. محمد شفيق غربال – تلميذ أرنولد توينبي
يعد الأستاذ محمد شفيق غربال (1894 1961)، أبرز رواد المدرسة العلمية الحديثة لكتابة تاريخ مصر الحديث والمعاصر، تلك المدرسة التي برز منها الدكتور محمد صبري «السوربوني» والأستاذ محمد رفعت، ممن تلقوا دراساتهم العليا في أوربا خلال العشرينيات وعادوا ليعملوا بالجامعة المصرية وليؤسسوا جيلاً من المؤرخين الأكاديميين، وإن كانوا قد تأثروا بالفكر الليبرالي وما يرتبط به من تمجيد لدور الفرد ودور الصفوة أكثر من تأثرهم بالمدرسة الاجتماعية التي كانت قد برزت في حقل الدراسات التاريخية منذ أوائل القرن العشرين. تتمثل أهمية شفيق غربال في حركة التفكير التاريخي في مصر في أنه يمثل نقلة لها وزنها، وفي أنه ترك انطباعات حية في تفكير ونهج ممن تتلمذوا عليه، لقد كان يمثل في حد ذاته وفقاً لما قاله عنه د.أحمد عبد الرحيم مصطفي ثورة في المنهج التاريخي في المشرق العربي، فهو يتميز بذهن ذكي غني بشتى المعلومات، وقدرة على التركيز والتلخيص وعلى التركيب والتحليل.. إلى جنوح للتعميق المتوغل إلى واقعية ساطعة ودقة في النقد.. لقد كان غربال بعيداً كل البعد عن المنهج الكلاسيكي الذي درج عليه كتاب السير والتواريخ والمغازي والخطط والآثار والتراجم في العالم الإسلامي: سند دراساته بتفهمه لطبيعة عمله ومدارسه في الشرق والغرب، وطعَّمه بشيء من التذوق الأدبي الغني، مع توسيع لقاعدة المعرفة التاريخية بالأدب والفلسفة وعلوم النفس والاجتماع. * * * ولمزيد من التعريف بسيرة حياته، خاصة لجيل الشباب من القراء، نذكر أنه ولد بالإسكندرية في يناير عام 1894 في حي يحمل اسم عائلته (غربال)، حيث تلقى تعليمه الإبتدائي، ثم تلقى تعليمه الثانوي بمدرسة رأس التين، والتحق بعدها بمدرسة المعلمين العليا بالقاهرة، تلك المدرسة التي خرجت لمصر عدداً من رواد النهضة الأدبية والعلمية، منهم الدكتور أحمد زكي وإبراهيم المازني والشاعر عبد الرحمن شكري ومحمد فريد أبو حديد وعبد الحميد العبادي... وغيرهم. وقد أتم دراسته بها عام 1915 ليحصل على بعثة حكومية لدراسة المواد الاجتماعية والتاريخ في جامعة ليفربول بإنجلترا، حيث حاز درجة البكالوريوس بمرتبة الشرف عام 1919، وعاد إلى مصر ليعمل مدرساً بالتعليم الثانوي بالإسكندرية لنحو ثلاث سنوات، ابتعث بعدها إلى إنجلترا مرة أخرى لاستكمال دراسته العليا، فالتحق بمدرسة الدراسات التاريخية التابعة لجامعة لندن. وفي جامعة لندن التقى بالمؤرخ الكبير «أرنولد توينبي» الذي أعجب بكفاءته فأشرف على رسالته التي نال بها درجة الماجستير عام 1924 في موضوع عنوانه «بدايات المسألة المصرية وصعود محمد علي» «The Beginnings of The Egyptian Question and the Rise of Mohamed Ali» التي نشرت في لندن عام 1928، ولم يقدر لها أن تترجم إلى العربية حتى الآن، بالرغم من أهميتها، ليس فقط لأنها أهم أعماله المبكرة، ولكن لأنها كانت من الكتابات الرائدة الموثقة التي عالجت فترة مهمة من تاريخ مصر, هي الفترة الواقعة ما بين حملة بونابرت عام 1798, وصلح بوخارست بين روسيا وتركيا عام 1812، فربطت الدراسة بين أحداث مصر والموقف الدولي، كما ربطتها بالمسألة الشرقية وتاريخ الدولة العثمانية.. وقد أهدى غربال رسالته إلى توينبي باعتباره «معلماً عظيماً وأستاذاً ملهماً». وقد شهد له أستاذه توينبي في حفل تأبينه بمجمع اللغة العربية في عبارة نصها «لا أذكر أنني علَّمت شفيق غربال شيئاً، بل على العكس أذكر جيداً أنني تعلمت منه كثيراً...». بعد أن نال غربال درجة الماجستير لم يقدر له أن يتم دراسته لمرحلة الدكتوراه، حيث انتهت مدة بعثته، فعاد إلى مصر عام 1925 ليعين مدرساً للتاريخ بمدرسة المعلمين العليا حتى عام 1929 عندما نقل أستاذاً مساعداً للتاريخ الحديث بكلية الآداب بالجامعة المصرية، في الوقت الذي كان فيه الأساتذة الأجانب يحتلون معظم كراسي الأستاذية، في التاريخ الحديث خلفاً للمؤرخ الإنجليزي «آرثر جرانت» ليصبح أول مصري يتولى هذا المنصب الرفيع، ثم لم يلبث أن انتخب عميداً لكلية الآداب عام 1939 خلفاً للدكتور طه حسين، لكنه لم يلبث أن نقل إلى وزارة المعارف بعد نحو عام، ليعمل في خدمة التربية والتعليم كوكيل مساعد للوزارة حتى عام 1942، حين أعادته وزارة النحاس باشا للعمل بالجامعة مرة أخرى لمدة ثلاث سنوات، عاد بعدها مستشاراً لوزارة المعارف، فوكيلاً لها، ثم نقل وكيلاً إلى وزارة الشئون الاجتماعية لفترة قصيرة، وإن حرص على أن يظل أستاذاً غير متفرغ بالجامعة حتى بلغ السن القانونية عام 1954. وكان من الواضح أن حفاظه على استقلاله وعدم تورطه في الحياة الحزبية - بالرغم من ميله المعروف إلى حزب السعديين خصوم الوفد - كان ذلك وراء كثرة تنقله ما بين الجامعة ووزارة المعارف. تعريب المقررات التاريخية ومن المعروف أن غربال أثناء عمله بوزارة المعارف لم يأل جهداً في حركة التعريب والتمصير للمقررات التاريخية، كما قام بعدد من الإنجازات العلمية المهمة، حين ساهم في تأسيس الجمعية المصرية للدراسات التاريخية عام 1945 وأصبح نائباً لرئيسها, فرئيساً لها عام 1956. وفي العام نفسه اختارته جامعة الدول العربية رئيساً لمعهد البحوث والدراسات العربية التابع لها، كما تولى رئاسة قسم الدراسات التاريخية به، خلفاً للأستاذ قسطنطين زريق، وقد اختار صفوة من العلماء ليحاضروا في المعهد، ودرس لجيل من المؤرخين العرب الذين ترأسوا أقسام التاريخ بالجامعات العربية. وكان غربال عضواً نشطاً في جمعية الآثار القبطية المصرية، والجمعية الجغرافية المصرية، والمجمع العلمي المصري، ومجمع اللغة العربية، كما كان عضواً مؤسساً في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، والمجلس الأعلى للآثار، وقد مثل مصر في عدد من المؤتمرات التاريخية العالمية، وانتخب عضواً في المجلس التنفيذي لليونسكو (1946 1950) ممثلاً للشرق الأوسط. وقد كرمته الدولة فمنحته جائزتها التقديرية في العلوم الاجتماعية عندما رشحته جامعة عين شمس عام 1960 لنيلها، أي قبل وفاته بنحو عام، وكان قد دعا أستاذه توينبي إلى مصر لقضاء عطلة الشتاء، لكن القدر لم يمهله فتوفي في أكتوبر عام 1961 بعد مرض قصير، فرثاه أستاذه بمقال في جريدة «التيمس» رثاء علمياً رفيعاً فور علمه بوفاته، وعندما جاء إلى مصر شارك في حفل تأبينه بمجمع اللغة العربية بالقاهرة. مؤلفات منهجية لم يترك غربال مؤلفات كثيرة، بالرغم من أنه عاش مؤرخاً ومات مؤرخاً، لقد تعرض لما تعرض له أمثاله من مناصب قيادية تسعى إليه ولا يسعى إليها، ولكنه كان يأخذ ذلك بشيء من الرفق، ولم ينس أو يتناسى جذوة المؤرخ الكامنة فيه.. لقد كان مؤمناً بأن تعليم ومحاورة تلاميذه أكثر أهمية من تأليف الكتب، فأصبح أبرز تلاميذه أعلاماً في المدرسة التاريخية الحديثة وهم أحمد عزت عبد الكريم وعبد العزيز الشناوي ومحمد رفعت رمضان وأحمد الحته وحسن عثمان وعلي الجريتلي ومصطفى عفيفي وأبو الفتوح رضوان وإبراهيم عبده. وبالرغم من أن الإنتاج العلمي لغربال ليس كثيراً أو وفيراً, فإنه تميز بعمق الفكر واتساع الثقافة وسلامة المنهج وهو ما نفتقده اليوم عند ذوي الإنتاج الغزير من الكتاب والمؤرخين، ولعلنا لا نبالغ إن قلنا إنه ينطبق عليه قول الشاعر: بغاث الطير أكثرها فراخاً ومع ذلك فإن إنتاجه جدير بأن نتدارسه ونحفل به, وأهم المؤلفات التي وضعها كانت على النحو التالي: فإلى جانب رسالته عن المسألة المصرية وصعود محمد علي (1928) نشر دراسته عن «الجنرال يعقوب والفارس لاسكارس ومشروع استقلال مصر سنة 1801» وذلك عام (1932) ثم أعقبها بتحقيقه ودراسته لمخطوطة «ترتيب الديار المصرية في عهد الدولة العثمانية كما شرحه حسين أفندى الرزنامجى» التي نشرها عام 1936 تحت عنوان «مصر عند مفترق الطرق 1798 1801». وفى عام 1944 نشر غربال كتابا صغير الحجم عظيم الفائدة «محمد علي الكبير»، الذي قدم فيه دراسة عميقة لأحوال المجتمع المصري في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، مع تقصِ دقيق لما طرأ عليه من تغييرات كبيرة خلال هذه الفترة، لم يجعل محمد علي شخصية تتحرك في الزمان والمكان، ولكن جعله محورا لدراسات تبدأ بمصر العثمانية ثم الحملة الفرنسية، وتنتقل إلى أوربا وتركيا، ثم إلى أحوال المجتمع المصرى كما تسلمه محمد علي، ثم تحول هذا المجتمع وفق ما أرتأته له مشيئة محمد علي، الذي استطاع إقامة سلطة مركزية تجمع كل القوى المتصارعة في إطار واحد، والنهوض بحركة إصلاح وعمران واسعة في كل المجالات، معتمداً على القوة والعلم والمال، وليس على القوة العسكرية وحدها، وإن أبدى غربال ميلاً نحو إنجازات محمد علي حادت به عن الموضوعية في بعض القضايا التي تناولها. ومع بداية الخمسينيات انجذب شفيق غربال من دراسة القرن التاسع عشر إلى التاريخ المعاصر، فألف كتابه عن تاريخ المفاوضات المصرية البريطانية، الجزء الأول، الذي تناول الفترة 1882 1936، ونشره عام 1952 ولم يشأ الأستاذ أن يكتب جزءاً ثانياً يصل به إلى عام 1954 حيث وقعت اتفاقية الجلاء، ربما لقرب عهد المؤلف ومعاصرته للأحداث مما قد يبتعد به عن التجرد والموضوعية، لذلك ترك ذلك لتلاميذه لينجز أحدهم، وهو الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى الموضوع، عندما أصدر عام 1968 كتابه «العلاقات المصرية البريطانية 1936 1956». وفي عام 1957 ألقى غربال مجموعة من المحاضرات في الإذاعة الأوربية، نشرت في أصلها الإنجليزى تحت عنوان The Making of Modern Egypt ترجمها الأستاذ محمد رفعت، ونشرت تحت عنوان «تكوين مصر» كشف فيها عن عشقه لمصر خلال عصورها جميعاً.. «مصر التي تسمو فوق هامات الحقب والعصور» وقد رصد في محاضراته هذه موضوعات الاستمرار والتغير في تاريخها، الحكومة والمجتمع، الإنسان والمجتمع، المدينة والريف في تاريخ مصر، مصر والعهد القديم، مصر الهلينية ومصر المسيحية، مصر والإسلام وأخيراً مصر والغرب.. وفى هذا العمل كما يقول الدكتور محمد صابر عرب في تقديمه لطبعة دار الكتب له عام 2008 وضع غربال يده على مفاتيح الشخصية المصرية، سواء من حيث المنهج الذي استخدمه أو من حيث الموضوعات التي تناولها.. تلك الشخصية التي صاغها المصريون منذ بداية تاريخهم الطويل، حيث أعادوا صياغة كل الثقافات التي مرت عليهم بما يتلاءم مع تلك الشخصية الحضارية التي أذابت ما ومن - وفد إليها ولم تذب فيهم. لقد كان غربال يرى أن «العملية التاريخية» هي نتاج تفاعل متواصل بين اختيارات واندفاعات وإنجازات «الجموع» وبين إرادات «أفراد» بعينهم، يصبحون رموزاً أو قادة أو زعماء وصفوة، بفضل إبداعهم لأنواع جديدة من الحلول للتحديات القائمة أو المستجدة أمام المجتمع. الأحاديث الإذاعية وكان آخر ما نشر لغربال كتاب «من زاوية القاهرة» الذي ضم مجموعة من أحاديثه الإذاعية الأخيرة قبيل وفاته في أكتوبر 1961، فقد شاءت المراقبة الثقافية بالإذاعة المصرية التي دأبت على نشر مختارات من أحاديث كبار الكتاب والمفكرين أن تنشر هذه المجموعة التي كان غربال قد اختار عنوانها قبل وفاته، ذلك العنوان الدال الذي يشير إلى توسط مصر العالم العربي جغرافياً، فهي المرآة الصادقة لظاهرة عربية عامة، ظاهرة خلاصتها تركيب عجيب بين العناصر الأصيلة والعناصر الوافدة. فمن هذه الزاوية أطل غربال على عدد من رواد الفكر الإنساني ممن أضاءوا للبشرية سبل الخير والحق والجمال، منذ سقراط حتى الأفغاني. وفي القسم الأول تناولت الأحاديث ما يتصل بالعرب وتاريخهم، فجاءت رداً علمياً رصيناً على ما يوجه للعرب من افتراءات، وما يلصق بتاريخهم من أكاذيب وأضاليل للحط من شأنهم ومكانتهم في التاريخ، فجعل الأستاذ يبرز كيف أضاف العديد من المفكرين العرب إلى الحضارة الإنسانية وتراثها الأخلاقي والعلمي إسهامات شتى.. فبعد أن حاول تحديد مفهومي عربي وإسلامى - ووصف إسلامي لديه أهم وأصدق، راح يسجل للعرب محافظتهم على حيويتهم ومقوماتهم منذ القرن السادس عشر بالرغم من التغلغل الأوربي والسيادة العثمانية، ويحثهم على أن يكونوا أقوياء. كذلك نجده يحاول مقارنة الشعوبية القديمة بالشعوبية الحديثة في داخل العالم العربي، ويذكر أن هذه الأخيرة لن تنال من العالم العربى أكثر مما نالت الشعوبية القديمة: إذ المجتمع العربي قد التقت فيه العناصر الوافدة والأصيلة وتفاعلت وأثمرت. وفى القسم الثاني من الأحاديث التي قدم فيها غربال نظرات عميقة ونافذة في حياة وأعمال عدد من رواد الفكر الإنسانى، عرباً وأجانب، قدامى ومحدثين، كانت القاهرة هى النافذة التي أطل منها غربال عليهم، ذلك أن معظمهم من مفكرى الإسلام الذين ولدت أفكارهم في القاهرة، أو أنها لعبت دوراً مهماً في احتضان أفكارهم ودعواتهم، لقد أضاء من هذه الشخصيات ما غيروا به وجه التاريخ، فطوف بنا من سقراط والرواقيين في العصور القديمة، إلى الحسن البصري وأبو العلاء المعري وأبو حامد الغزالي وابن تيمية في العصور الوسطى الإسلامية، ثم انتقل بنا إلى العصر الحديث ليجلس بنا عند تولستوي وكيف رآه المصريون, والأفغاني وما قدمه في عروته الوثقى.. إلخ. فكشف بذلك عن ثقافة موسوعية، وفكر عميق بعد أن طاف بنا في عوالم باهرة من التأمل والوعي.. فتحية إلى روح شفيق غربال، المؤرخ الأديب، والمفكر الوطنى، أحد المؤسسين الشوامخ لنهضة الكتابة العلمية للتاريخ في مصر والعالم العربي.
|