حتى المغول يامصر

حتى المغول يامصر

في الرابع عشر من رمضان 658 هـ الموافق الثاني من مايو عام 1260 تمكن الجيش الإسلامي من صد جحافل التتار الذين اجتاحوا بلاد الإسلام قتلا وحرقا وتدميرا وهزموهم في معركة عين جالوت. وهذه إحدى القصص المرتبطة بالمعركة.

لم يكن أحد يأبه باسمه، أو يراه أصلا، رغم أن الغلام كان يتحرك في كل مكان، في المعركة يمد النبالين بالسهام، ويتذوق الطعام قبل أن يأكل القادة، ويحمل قراب النبيذ وهم يتسامرون، ولكن «كتبغا» كان أكثر ضآلة من أن يلاحظه أحد وسط هذا الجيش الجرار، الذي اجتاح العالم.

لم يلحظه أحد الليلة أيضاً، في هذا الاجتماع الخطير. وهو يقف متأهباً لأي إشارة من قادة الجيوش، ولكنهم كانوا يجلسون منكسي الرءوس، لا يجرؤون على الكلام قبل أن يتكلم القائد الاعظم هولاكو، أمامهم خارطة من القش والحجر توضح مسيرة الجيوش الظافرة، مجسدات مصغرة للمدن التي سقطت ونهبت واحترقت، خوارزم، بغداد، ميافارقين، دمشق وأخيرا حلب، وغير بعيد منها توجد مجسدات للمدن التي لم تسقط بعد، عكا وغزة والقاهرة، وكان هذا الاجتماع سيقرر مصيرها، ولكن القائد العظيم كان مشغولا بهمٍ آخر، تكلم هولاكو أخيراً:

- جرؤ الموت على الخاقان العظيم «منكو خان»، قبائل المغول كلها أصبحت في حاجة إلى خان جديد يضمها في قبضته، الرسل التي يبعثون إليّ بها من «قراقورم»، لم تتوقف، إنهم جميعاً في انتظاري.

لم يكن هناك من هو أجدر منه أن يكون «الخاقان الأعظم» فهو حفيد جنكيز خان، وهو الذي حطم أعتى الأسوار، وأحرق كبرى المدن، وبعث بالخوف في أوصال العباد والملوك، ولكن أحد القادة تساءل متوجساً:

- وماذا نفعل من دونك أيها القائد العظيم، نحن نستعد لأكبر المعارك، وفي انتظارنا تلك المدينة الغامضة «القاهرة» التي لا ندري مَن يحكمها.

قال هولاكو: سمعت عن هذا البلد كثيراً، القدر وحده هو الذي يحدد من يحكم مصر، لا سلالة الدم ولا قوة السيف ولا بريق الذهب، القدر وحده يهبها لمن يشاء، وهي طيعة لحد السأم، قانعة كمذاق الموت،القدر وحده سيخبرنا من سيحكمها منكم.

لم يفرغ هولاكو من كلماته إلا وفتح باب الخيمة بلا استئذان، وخطى العراف الأعمى داخلاً، كأنه يعرف مدى حاجتهم إليه، حدّق فيهم بعينيه الفارغتين، وحرك أنفه كأنه يتعرف عليهم من روائحهم، كان وحده من يستطيع أن يقرأ علامات الغيب، ويحس بدبيب القدر، وهو وحده الذي يحدد للقائد مكان المعركة وزمنها.

نهض هولاكو وتخلى له عن مكانه في صدارة المجلس، تراجع القادة جميعا إلى أطراف الخيمة، سار بخطوات ثابته حتى جلس في الصدارة، أدار وجهه بينهم كأنه يراهم ويقرأ ملامحهم المتوترة، قال هولاكو:

- يستعد قوادي لمواجهة بلد غامض يدعى مصر.. أريد أن أعرف من سيحكمه منهم ويكون ملكا على عرشها؟

كأن العراف كان يعرف السؤال مقدماً، أخذ يردد في صوت خافت التمائم والتعاويذ الغامضة، وتأمله القادة الذين قهروا جيوش العالم بقلوب واجفة، كان مصيرهم محكوما بالكلمات التي ستخرج من بين شفتيه، قال:

- «كتبغا» هو الذي سيحكم مصر.

ارتجف الغلام الصغير وهو يسمع اسمه يتردد على شفتي العراف، ولكن الأنظار كلها اتجهت صوب القائد العظيم «كتبغا»، قاهر ميافارقين ومدمر حلب، ابتسم هولاكو في رضا، لقد جاءت النبوءة بالشخص الذي يرضيه، أشجع قواده وأكثرهم قسوة وأقدرهم على الانتصار، هتف في ارتياح:

- فلتكن مشيئة القدر.. منذ الآن أصبح «كتبغا» هو القائد الأعظم لكل جيوش المغول، وسوف أبدأ من الغد رحلتي الطويلة إلى «قوارقوم».

الحرب في عين جالوت

- لقد سعوا إلى حتفهم بأيديهم.

قال «كتبغا» سعيداً وهو يتناول كأس النبيذ الصرف من يد غلامه «كتبغا»، رحل هولاكو سريعاً، ولكن الحرب جاءت أسرع، كانت عيون الجواسيس التي بثها في كل مكان قد أبلغته أن المماليك، ذلك الحرس الغامض، الذي لانسب لهم ولا جذور، قد استولوا على عرش مصر ويستعدون للخروج إليه، هؤلاء الحمقى يريدون مواجهته في العراء بدلا من أن يخبئوا فرائصهم المرتعدة خلف الأسوار، عليه إذن أن ينتظرهم حتى يأتوا إليه، متعبين منهكين، فيقضي عليهم بضربة واحدة.

ولكن المماليك كانوا أكثر خفة ومهارة مما توقع، ساروا سريعاً بموازاة البحر وتجنبوا عبور الصحراء، وصلوا إلى غزة دون أن يكتشفهم أحد، وباغتوا الحامية المغولية، التي لم تكن محصنة بشكل جيد، قضوا عليها قبل ان تصل إليها اي نجدة، ثم واصلوا تقدمهم نحو الناصرة في قلب فلسطين.

لم يأبه «كتبغا» بهذا الانتصار الصغير، ونظر باستهزاء إلى جيشهم حين طالعه للمرة الأولى، كانوا جيشاً صغيراً وناعماً، مسربلاً بأردية من حرير، يبدون في غاية الضآلة والضعف وهم يعسكرون حول «عين جالوت» وسط سهل بيسان الممتد، أحس «كتبغا» بالغضب لأنهم يستهينون به وبقوته، لم يتحدوه فقط، ولكنهم أرسلوا إليه أيضاً ذلك الجيش الهزيل، ولن يكون الرد إلا أن يبدأ الحرب فورا.

فوجئ المماليك بالهجوم المباغت، وجدوا السهل من حولهم وقد امتلأ بجند المغول، لم يحاولوا المقاومة أو التصدي، لووا أعنة الخيول وبحثوا عن طريق للهرب، توجهوا جميعاً للتلال القريبة ليحتموا خلفها، كان هذا الجبن متسقا مع مظهرهم وسوء تقديرهم، شدد «كتبغا» وقواته على مطاردتهم وحاصرهم حتى لايبقي منهم أحداً.

ثم حدث شيء غريب، توقف الجيش الهارب فجأة، أدار فرسانه أعنة خيولهم ووقفوا في مواجهة المغول، كأنهم جميعا قد قرروا الانتحار بدلا من عار الهرب، انقض المغول عليهم وأحاطوا بهم واستعدوا لاستئصالهم، ولكن حدثت المفاجأة الثانية عندما خرج من خلف التلال مجموعات كبيرة من الفرسان، مظهرهم مختلف، لا يرتدون الحرائر، ولكن دروعا من زرد، وفي أيديهم سيوف معقوفة منصهرة من معادن مختلفة، وفي لحظات قليلة أحاطوا بالجيش المغولي من كل جانب.

أحس «كتبغا» أن هؤلاء المخنثين قد نصبوا له فخاً مميتاً، كان واثقاً في قوة النبوءة، وكان هو الذي يحاصر، ويباغت الجيوش، فكيف دارت الدائرة عليه؟ ألقوا عليه شبكاً مجدولة من الأسلاك الصلبة، تعثر جواده وكبا الأرض، لم تكن الهزيمة كافية فوقع في الأسر أيضاً، لو تركوا له الفرصة لقتل نفسه، ولكنه ظل مقعياً مهاناً تحت الشبكة، بينما تناثرت حوله مئات الجثث، رفاق الانتصارات السابقة، وأصبحوا موتى صامتين، تتعفن أجسادهم في ذلك السهل الواسع ولن تجدي معهم النبوءات.

ساقوه من رقبته، جعلوه يركع على ركبتيه أمام سلطانهم، مملوك نحيف مشذب اللحية اسمه «قطز»، كيف بالله استطاع هذا المخنث الانتصار عليه، يقول له متهكماً:

- أهو أنت .. الذي تنبأ لك العراف بحكم مصر؟

ذهل «كتبغا»، شاعت الحكاية حتى وصلت لآذان الأعداء، قال:

ـ لم يتصور العراف أن يحكم هذا البلد واحداً من العبيد المجلوبين.

قال السلطان: اقتلوه أمامي الآن..

كانت السيوف متأهبة، وملوثة أصلا بالدماء.

رحلة الغلام للقلعة

الذين انتصروا معاً.. أخذوا يتنازعون حول كل شيء، قسم المماليك الغنائم والاسلاب، واعتقد كل واحد أن القسمة لم تكن عادلة، سيق «كتبغا» الصغير مربوطاً بحبل حول عنقه في صف طويل من الأسرى، لم يفكوا قيوده،إلا بعد أن وصل الجيش إلى «الصالحية» وعرف «كتبغا» أنه أصبح غلاماً تابعاً للقائد قلاوون.

توقف المماليك وقد بدت أمامهم أرض مصر الخضراء وبحيرة المنزلة ساجية ومليئة بالوعود، أصبح كل شيء آمنا فجأة، وأصبحوا هم - الذين كانوا أرقاء منذ أعوام قليلة - يمتلكون مساحة شاسعة من الأرض، ونفوساً من البشر، ومدناً وقرى ودساكر، تمتد من حدود السودان إلى ذرى الشام، ملك خالص لا ينازعهم فيه أحد، وسبحان من في يده ملكوت الأرض والسماء.

لكنهم لم يستريحوا، ولم يهنأوا، كان قائدهم الضخم «بيبرس» غاضباً، كأنه مازال يقاتل المغول، كان مخيفاً، يحف به الهواء وهو سائر فيصدر صوتاً عالياً، وعندما خرج الجميع للصيد، أدرك «كتبغا» وهو يعدو مع بقية الغلمان خلف خيولهم أن شيئا ما على وشك الحدوث، كان الجو كله معبأ بالنذر، السلطان وحده هو الذي يضحك في انشراح، وعندما دوت صرخة عالية، لم يتصور أحد أنها صرخة السلطان.

كان الأمراء وقادة الجيوش الذين حاربوا معاً يقفون جامدين، وأمامهم يقف القائد القاسي بيبرس وسيفه يقطر منه الدم، وعلى الأرض يرقد السلطان «قطز»، بطنه مفتوحة ودمه متدفق، يرفع يده متوسلاً، لكنهم يحدقون فيه بوجوه جامدة، بالصرامة نفسها التي هزموا بها المغول، قاوم السلطان قليلا ثم همدت حركته، وصاح بيبرس في الجميع:

- دعوه في العراء.. وسوف تخلصنا الضواري من كل أثر له.

وبدأ الجيش الرحيل مرة أخــرى إلى القاهره، كانت أكبر المدن التي رآها «كتبغا» وأشدها ازدحــاماً، خرج سكانها جميعاً يهنئون سلطانهم بالنصر، ولكنهم فوجئوا أن الذي يتقدم الموكب سلطان آخر، انتابهم الذهول في البداية، ثم بدأوا يحييونه في تردد، ويهتفون له في خفوت، وعندما تواصل موكبه وأصبح وجهه الغاضب أكثر احمراراً، دخلت الخشية في نفوس الناس فأخذوا يهتفون بحياته في حماس زائد، كانت القاهرة دوماً، ملكاً لمن غلب، وأدرك «كتبغا» درسه الأول في هذا البلد الغامض، أقتل سلطاناً تصبح سلطاناً.

الاقتراب من العرش

عرش سائب، هدف لكل طامح، فلماذا لايكون من نصيب غلام مغولي مهزوم ومجهول النسب، لم يعد «كتبغا» غلاماً، تحول من غلام هامشي إلى مقاتل شديد المراس، لم يعد الأمير «قلاوون» يحس بالأمان إلا وهو بجانبه، كان خائفاً منذ أن شاهد «قطز» صريعاً وسط أحراش الصالحية، ولو غفل لحظة فسيكون الضحية التالية، لذلك حول قلاوون كل مَن يحيط به إلى مقاتلين، الاسرى والغلمان المجلوبين والأولاد المخطوفين، كون منهم حرساً غريباً متباين الأعراق ولكن تجمعهم لغة واحدة هي لغة السيف، وجعله هذا ينجو من كل صنوف القتل المتربصة به، وأصبح سلطاناً لمصر بعد موت بيبرس، ولا يدري لماذا تذكر «كتبغا» تلك النبوءة البعيدة حين سار خلفه، لم تكن تعنيه، ولم تحم صاحبها من الموت في سهل بيسان، ولكن قلاوون كان يقول له ممتناً:

- أنت درع حياتي يا كتبغا، ابق بجانبي مادمت حياً، واحم أولادي بعد موتي، عاهدني على ذلك.

عاهده «كتبغا» بذهن شارد، كان يردد لنفسه القاعدة الأساسية، اقتل سلطاناً تصبح سلطانا، لم يجرؤ على قتل أستاذه، لم تكن بينهما مساحة كافية يرفع فيها سيفه، ورحل قلاوون ليجيء من بعده ابنه الأشرف خليل، واكتشف الجميع أنه كان سلطاناً باهراً، لم يترك للجميع فرصة ليفكروا في استحقاقه للعرش الذي يجلس عليه أم لا، أعلن الجهاد على كل الثغور التي كان الفرنجة مازالوا يمتلكونها في الشام، بدأ بثغر عكا الحصين، كان الفرنجة قد أخذوه من يد صلاح الدين ومات قبل أن يقدر على استرداده، ولكن السلطان خليل فعلها، حاصر القلعة حتى أسقطها، وبدأت بقية الإمارات الصغيرة في الانهيار، عكا وحيفا وصور وصيدا وجبيل وأخيراً بيروت، استولى على عشرة ثغور مهمة في أقل من خمسين يوماً، قضى بضربة واحدة على الفرنجة الذين استولوا على الأرض لعشرات من السنين حتى ظن البعض أنهم لن يرحلوا أبداً، صنع معجزة لم يقدر سلطان من قبله على صنعها، وأضيئت له الشموع وهو يدخل منتصراً إلى شوارع القاهرة.

كيف يمكن لأي سيف أن يرتفع في وجه سلطان مثل هذا؟

ولكن اللعبة لم تتوقف، والدم لم يجف، قرر الأمراء المقربون من السلطان أن دورهم في اعتلاء العرش قد حان، كانت هناك رحلة صيد في الإسكندرية، وسيوف متأهبة، وشهود متواطئون، شاهدوا مقتلة السلطان وباركوها، ولكن «كتبغا» تنبه، هذه المرة كان قوياً وقادراً على الفعل، وزاد من قوته وقوف الأمير سنقر الشجاعي بجانبه، قبض على القتلة ووضعهم في جب القلعة، حيث لا توجد سوى الظلمة والفئران، ونصبوا الناصر محمد بن قلاوون الذي لم يكن عمره يتجاوز الأعوام التسعة سلطانا على مصر، وكانت تقف بجانبه أمه أشلون خاتون، المرة الأولى التي يراها «كتبغا» بوضوح، وتمنى للحظة أن يستطيع امتلاكها.

مَن يسبق الآخر؟

تشاجر الأميران معاً، لوّح الأمير كتبغا بقبضته وهو يهتف: لقد قلبت على المماليك البرجية وحرضتهم ضدي، وصاح سنقر الشجاعي وهو يحاول الوصول إلى عنقه: وأنت جمعت ضدي كل أوباش المغول والأكراد.. وكان السلطان الصغير يجلس على عرشه مرعوباً، يهتف بهما بلا جدوى : اهدأ ياعمي.. وأنت ياعمي الآخر.. كانا نائبيه، الأوصياء على عرشه، ولكن النزاع بينهما لم يهدأ، من حسن الحظ أنهما لم يكونا يحملان السيوف في تلك اللحظة، وعندما ازدادت حدة الشجار، لم يجد السلطان الصغير بداً من أن يترك العرش ويجري هو يجري إلى الحريم ليلقي بنفسه في حضن أمه وهو يبكي مرتعداً.

لم يكن أمام «كتبغا» إلا أن يغادر القلعة، أعوانه فيها قلائل، والمماليك البرجية يحيطون به من كل جانب، سيوفهم جاهزة وسهامهم مصوّبة، كان عليه أن يفلت سريعاً قبل أن يأخذوا قرارهم بقتله، وعندما سمع باب القلعة الضخم وهو يغلق من خلفه أدرك أنه لن يفتح له طوعاً مرة أخرى، استأثر الشجاعي بالقلعة بمن فيها السلطان وأم السلطان.

أفلت «كتبغا» من الموت، ولكنه أصبح بعيداً عن مركز السلطة، عليه أن يسابق الزمن ويجمع أعوانه وأنصاره، استيقظ في داخل المغولي القديم الخبرات المتوارثة في حصار المدن والقلاع، أحاط أسوار القلعة بجنوده، ومنع السقائين الذين يحملون قراب الماء على ظهور حميرهم من الدخول، كان يعرف أن النيل غائض ولا يوجد في بئر القلعة إلا مياه قليلة عطنة، ثم منع صعود باعة الألبان والخبز والخضار واللحوم وحملة الوقود والفحم والخشب.

ولكن القلعة ظلت صامدة لايظهر عليها وهن، ولا يبدي الشجاعي أي نية في الاستسلام، ومرت أيام كثيرة قبل أن يشاهدوا راية بيضاء تلوح من خلف الأسوار، كان يرفعها شخص مفرد، وحين ذهب كتبغا متردداً إليها وجد «اشلون خاتون» تقف مرتعدة، وشعرها يتطاير مع الهواء، ووجهها الذي طالما اشتهاه الجميع جائعاً وشاحباً، كانت من أصول مغولية مثله، قالت له:

- ماذا تريد أن تفعل بولدي؟

قال كتبغا: هو سلطاني، لا أنوي له شراً، ولا أريد إلا طاعته، ولو ترك أستاذي قلاوون بنتا عمياء على العرش لأطعتها، كل ما أريده هو أن أؤدب الشجاعي الذي ألب علي الجند وأثار الفتن.

تأملته طويلا، وأحست برغبته فيها، كان لابد من صفقة ما يعقدانها معاً، تخرجهما من ورطة الجوع والحصار، ومن حسن الحظ أن الريح قد هدأت وأصبحا قادرين على الحديث دون صراخ، في اليوم التالي، استدعى السلطان الجائع نائبة الجائع سنقر الشجاعي، قال له في وهن:

- ياعمي.. نريد أن ننهي هذه المشكلة بينك وبين كتبغا دون مزيد من القتل والخراب، لقد أعطيتك ولاية حلب، فاخرج إليها آمناً أنت وجيشك ولن يتصدى لك أحد.

كان حلا لا ينهي الصراع، ولكن يؤجله مؤقتاً، و فكرة خروجه وجنده سالمين إلى إمارة غنية مثل حلب فكرة مغرية، يخرج ضعيفاً جائعاً، ويعود قوياً وقادراً، أقسم السلطان له برأس أبيه أنه لا توجد خدعة ما، وأن «كتبغا» موافق على خروجه سالماً، فهو أيضاً لا يريد أن يدخل في صراع غير مضمون النتيجة.

فتحت أبواب القلعة أخيراً، لم يحرك أحد من جنود كتبغا ساكناً، خرجت ثلة من الجنود البرجية، وقفوا متحفزين شاهرين سيوفهم، وظل جنود كتبغا جامدين، خرج سنقر الشجاعي، واندس وسط جنوده، أصبح محمياً في المقدمة، وانتظر خروج بقية الجنود ليحموا مؤخرته، ولكن باب القلعة بدأ في الانغلاق، لم يتركوا الفرصة لخروج البقية، فوجئ الشجاعي أنه يقف عارياً من قوته خارج الأسوار، ليس معه إلا أقل من ثلث جيشه، وكان «كتبغا» يقف أمامه، والسلطان وأمه يطلان عليه من فوق السور.

كانت معركة قصيرة، نتيجتها حاسمة، ذبح الشجاعي وقتل كل من معه من جنود، تكومت جثثهم على الممر المؤدي إلى بوابة القلعة. دخل «كتبغا» القلعة أخيراً وهو يشعر أنه سيدها الأوحد، وحتى المماليك البرجية الذين كانوا يناوؤنه أسرعوا يقدمون إليه فروض الطاعة والولاء، سار بخطوة واثقة إلى القصر الأبلق.

كان السلطان الغلام جالساً في انتظاره، أنجز جانباً من الصفقة وينتظر الشكر والعرفان، لكن «كتبغا» دخل عليه وقد كبر حجمه فجأة، سار نحوه بخطوات مباشرة وسريعة، لم يتوقف ليظهر أي بادرة احترام، أمسك بخناقه ورفعه من فوق الكرسي، صاح السلطان مذعوراً:

- ماذا تفعل بي ياعمي؟

دمدم «كتبغا» وهو يلقي به بعيداً:

ـ ما كنت لأقوم بكل هذا حتى يبقى غلام مثلك على العرش.

جلس على كرسي العرش وهو يتنهد في ارتياح، وكان كرسي العرش لايزال دافئاً، وتكوّم السلطان الصغير في أحد أركان القاعة وهو يجهش بالبكاء.

-----------------------------------------
يطيرُ الحمامُ
يَحُطّ الحمامُ
- أعدِّي ليَ الأرضَ كي أستريحَ
فإني أُحبُّكِ حتى التَعَبْ...
صباحك فاكهةٌ للأغاني
وهذا المساءُ ذَهَبْ
ونحن لنا حين يدخل ظِلُّ إلى ظِلُّه في الرخام
وأُشْبِهُ نَفْسِيَ حين أُعلِّقُ نفسي
على عُنُقٍ لا تُعَانِقُ غَيرَ الغَمامِ
وأنتِ الهواءُ الذي يتعرَّى أمامي كدمع العِنَبْ
وأنت بدايةُ عائلة الموج حين تَشَبَّثَ بالبِّر
حين اغتربْ
وإني أُحبُّكِ , أنتِ بدايةُ روحي , وأنت الختامُ.

محمود درويش

 

 

 

 

محمد المنسي قنديل