تنفست نسيم الحرية والتسامح
تنفست نسيم الحرية والتسامح
من عجب ألا يستطيع المرء اختيار زمانه، ولا يوم مولده ولا مكان ميلاده، ومع هذا فما أشد تأثير هذه العوامل جميعا في حياته. ولدت في مدينة بنها عام 1920, وخرجت منها طفلا في الشهر التاسع مع أسرتي, حيث نقل إليها والدي الذي كان يعمل موظفا صغيرا في الحكومة, وجاء ليلتحق بزملاء له في محافظة الإسماعيلية. التاريخ: 1920 تاريخ عبقري! كانت مصر قد ودعت ثورة 1919 المجيدة بكل ما حفلت به من بطولات وهزائم وأعمال فداء وبطولة وخيانة وكان لايزال أمامها نضال متصل قاده زعيم مصر سعد زغلول, الذي تقلب به الإنجليز في المنافي ثم عاد إلى مصر ليستقبل استقبال الفاتحين, قبل أن يموت في 23 أغسطس 1927. كنت طفلا لما مات الزعيم, وبرغم سنواتي الباكرة استطعت أن أتبين أن أمراً جللا قد حدث في البلاد, كانت أغان حزينة تتردد في أرجاء الإسماعيلية, كان من بينها صوت يردد: (وسعد مات يوم أربع, والنعش شالوه على مدفع) أظن أن هذا كان صوت أم كلثوم, وسرت مقولة مغرضة تقول: إن الزعيم قال لرفيقة حياته صفية زغلول: (أنا انتهيت يا صفية), وأنه أضاف قبل هذا قوله: (مفيش فايدة), تلقف خصوم الحركة الوطنية العبارة الأخيرة وقالوا إن سعد كان يعني: لا فائدة من مكافحة الاستعمار البريطاني. حي الإفرنج وحي العرب كانت الإسماعيلية بالنسبة لي أرضا مناسبة تماما لتلقي تطلعاتي وتوجهاتي وأحلامي, كانت في العشرينيات مدينة عالمية بكل معنى للكلمة, كانت (كوزموبوليتان) صغيرا, تحوي أخلاطا من الأجناس والثقافات والسلطات, فمن جهة كانت شركة قناة السويس ـ الفرنسية ـ تحكم جزءا مهما من المدينة: ما عرف آنذاك بالحي الإفرنجي, وكانت الإدارة المصرية تحكم حي العرب, وبين جزئي المدينة كان يقوم كل ما يستطيع المرء أن يتخيله من تناقض, الحي الإفرنجي به كل مقومات الحضارة والمدنية الحديثة, فيلات بالغة الأناقة, حدائق ملحقة بهذه الفيلات, حدائق واسعة تحيط بها تستخدم أحدث وسائل الري, الري بالرشاشة المتحركة على شكل مروحة, كان به مستشفى على مستوى كبير من حسن التجهيز اسمه مستشفى نمره (6), وكان الحي يشهد حفلات راقصة سمعنا عنها نحن الأطفال, وذهبنا نشاهدها عن بعد, وعرفنا أن اسمها (باللو), كانت الحفلات تستمر حتى الساعات الأولى من الصباح, وكنا نذهب لنعاين مخلفاتها من زهور وزجاجات ومأكولات ندهش لوجودها بكل هذا القدر من التوفر. وفي الجانب الآخر كان يقوم حي العرب ـ أصحاب البلاد الأصليين, فيما عدا مدرسته الأميرية, ومبنى المحافظة, كانت مبانيه متواضعة, يؤسسها الفقر الشامل, ويخطط شكلها ومستقبل شاغليها, وبين الفرنسيين والمصريين كان يعيش اليونانيون والإيطاليون, الأول متداخلون مع المصريين معايشون لهم في ود حقيقي, كانت لنا جارة يونانية تصادق أمي, وتتبادل وإياها الود والعون. وحي المعسكر ـ الذي توجد به ثكنات جيش الاحتلال البريطاني ـ كان جنود الاستعمار يعيشون في راحة وترف ـ غذائي وترفيهي ـ كانوا يقيمون الاستعراضات العسكرية ويطوفون بها الشارع الرئيسي في البلد ـ الذي يحاذي الترعة ويمتد إلى مبنى المحافظة وما بعدها, وكنا نصطف على أحد جانبي الشارع ونهتف مرددين: (يا عزيز يا عزيز, كبة تاخد الانجليز), لم تكن هتافات الشعب المصري ضد محتليه الغاصبين بعيدة عن أسماعنا, كان هتاف مثل: (مصر للمصريين), الذي ردده ثوار 1919 بالإنجليزية لايزال يتردد بيننا, وكانت أغنيات مثل: (الحرية الحرية, هي روحي ودوا عنيه), ماثلة أمامنا كذلك, أما النشيد الساخر الذي ردده ثوار 1919 ضد المستعمر البريطاني لورد اللنبي, والذي حوروا فيه إحدى أغنيات كشكش بيه (نجيب الريحاني) فكان يقول: (يا اللنبي بيه الله يسمك, ويطربق التربة على أمك, وأحطك يا واد يا لنبي.. تحت التنجرة) النقمة على المحتل كان أهل الإسماعيلية برغم غلبة الوجود الأجنبي في البلد ينقمون على الإنجليز والفرنسيين وجودهم وتحكمهم في مقاليد الأمور, وكانت هذه النقمة مكبوتة حينا, وظاهرة حينا آخر, ولم يكن صدفة أن بداية حركة الإخوان المسلمين قد كانت في الإسماعيلية, على يد الشيخ حسن البنا, الذي كان يعمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الأميرية, والذي جلست إليه في مقاعد الدرس, كان رجلا شديد الذكاء, فصيح العبارة, ساحر الشخصية, وكان حفياً بي بصفة خاصة, لما لمسه فيّ من حب اللغة العربية وإتقانها, أذكر أنه دخل علينا الفصل ذات يوم وبدأ بندائه المألوف: أخرجوا كتب المطالعة وأقلام المتابعة. ثم قص علينا قصة الشيخ الفاني المشرف على الهلاك, الذي جمع أولاده إلى جواره وأمر كلا منهم أن يكسر عودا من الخيزران فكسروه جميعا بلا عناء, ثم أمرهم أن يضموا الأعواد على شكل حزمة, وطلب إليهم أن يحاولوا كسرها فلم ينجح أحد منهم, فتغني الشيخ قائلا: كونوا جميعا يا بني إذا اعترى خطب ولاتتفرقوا آحادا ثم أمرنا الشيخ حسن أن نكتب موضوعا إنشائيا في هذا المعنى ولما قرأت له ما كتبت اهتز طربا, فقد قلت: فلما مات الشيخ وواروه التراب.. الخ, فشاقه أن يعرف حدث مثلي هذه الكلمة (واروه). وكان الشيخ حسن يسهم في نشاط المدرسة الرياضي, مدرسة الإسماعيلية الابتدائية الأميرية, وطلب إليه أن يكتب كلمات لنشيد يلقى في حفل آخر العام الرياضي, فكتب يقول: الإسماعـيلية روض مـونق كوكب التعليم فيها مشرق زانها الحفل فـزاد الرونـق وأزدهى زهر الرياض بابتسام مرحبا أهلا بمن قد شرفوا وعلى أبنائهم تعطغوا ... الخ. رحلة التعليم كنت قبل التحاقي بالتعليم الابتدائي الأميري, قد عرفت ألوانا أخرى من التعليم, قضيت فترة في مدرسة الإسماعيلية الإلزامية, وقرأت فيها القرآن, وتعلمت مبادئ الحساب, وتعلقت ـ مبكرا ـ باللغة العربية وأعجبت إعجابا وافرا بمدرس اللغة العربية, مازلت أذكره حتى الآن, شاب شديد الإخلاص لعمله, متقن لمادته, أغلب الظن أنه تخرج في دار العلوم, تلك القلعة الحصينة التي احتمت بها لغتنا وواجهت بها أعاصير الفرنجة, ودعاوى استخدام العامية في الأدب والصحافة والمسرح, لقد علمني اللغة وأسرارها فريق من خريجي دار العلوم, صحبوني في رحلتي الباكرة من التعليم الإلزامي حتى التعليم الابتدائي, وامتد أثرهم من بعد إلى مرحلة التعليم الثانوي, عن طريقهم عرفت النحو والصرف وقرأت بعضا من عيون الشعر, فرسخت في نفسي وعقلي قاعدة صلبة, تولت بدورها حمايتي حين انتقلت إلى الجامعة لأدرس الأدب الإنجليزي وأتخصص فيه. على أنني قبل الالتحاق بمدرسة الإسماعيلية الابتدائية الأميرية كنت قد قضيت سنة أو نحوها في مدرسة تبشيرية يديرها الإنجليزي وتسمى: (المدرسة الإرسالية الإنجليزية للصبيان), لم يجد والدي ما يدعو إلى الاعتراض في دخولي هذه المدرسة ـ برغم طابعها الديني الواضح ـ كان المناخ الثقافي والسياسي والديني إذ ذاك رخياً, وكان التقارب يبن أبناء الدين الواحد وغيره من أديان سماوية قائما, صحيا, سمحا, يسعى إلى التبادل وليس إلى التنابذ, وعلى هذا دخلت المدرسة الإرسالية وأنا مشوق لأعرف ما يجري فيها وما تعلمه أبناءها, ودخلت كنيسة المدرسة مع غيري من التلاميذ, وأنشدت ما ينشدون من أناشيد وترانيم لازلت أذكر واحدا منها: (الرب قسمتي.. حظي ومنيتي) وعندما حل ميعاد آخر العام كان من بين المواد التي تفوقت فيها مادة الدين المسيحي, جنيت من هذه المدرسة فضيلة التسامح وسعة الصدر, ولم يؤثر التعليم المسيحي في عقيدتي, إذ إنني حين انتقلت إلى المدرسة الأميرية تفوقت في أربع مواد هي: اللغة العربية والإنجليزية والقرآن الكريم والدين والتاريخ أو الجغرافيا. لا أذكر الآن أيهما, وكانت المدرسة قد خصصت جوائز رمزية للمتفوقين هي صورة الملك فؤاد وصورة الملك فاروق, وقال لي المشرفون: نكتفي بصورتين فقط فلا داعي للتكرار. من الإسماعيلية إلى شبرا تركت الإسماعيلية من بعد إلى القاهرة والتحقت بمدرسة التوفيقية الثانوية من حي شبرا, الذي كان آنذاك ـ أوائل الثلاثينيات وما بعدها حتى الخمسينيات ـ غاصا بالأجناس جميعا. كان صورة مصغرة للمجتمع المتعدد الأجناس الذي خبرته في الإسماعيلية, يونانيين وإيطاليين وأرمن وإلى جانب المصريين من مسلمين وأقباط, كنا جميعا نعيش في وئام, وكما كنت أ غشى المساجد لأصلي, كنت أذهب مع أصحابي الأقباط لنحضر صلواتهم ونردد أناشيدهم وأذكر من أناشيد تلك الفترة نشيد: مـرة تـهـت بعـيـدا عن مخلصي يسوع والذين يعرفون شبرا تلك الأيام يعلمون أن المسلمين كانوا يزورون ضريح القديسة تيريزا, وينذرون لها النذور ويسألونها الشفاعة عند الله تماما كما كان يفعل الأقباط. والبيت الذي كنت أسكنه في شبرا, كان صاحبه قبطيا, وكانت الشقق الأربع التي ضمها البيت موزعة كالتالي: الدور الأسفل تسكنه أسرة قبطية ويعلوه الدور الذي نسكنه, وفوق هذا كانت تسكن أسرة مسيحية, وفوقها أسرة مسلمة, وكان الود قائما بين هذه الأسر الأربع, حتى أنه حينما مات والدي, سارع أصدقاؤنا الأقباط من سكان الدور الذي يعلونا إلى احتضاني, والترفيه عني وإبعاد وقع المأساة عليّ. إذا عرفت لغة قوم في عام 1939 التحقت بكلية الآداب في جامعة فؤاد الأول ـ القاهرة الآن ـ لأتخصص في الأدب الإنجليزي, وكانت هذه أمنيتي منذ السنوات الباكرة للمرحلة الثانوية, كنت أحلم بأن أكون ناقداً يعتد به في قابل الأيام, وكانت عدتي في هذا, الرغبة في إتقان اللغة الإنجليزية إلى جوار لغتنا العربية, وقد تقدم ما ذكرت من أن أساتذتي الأجلاء من خريجي كلية دار العلوم كانوا قد أرسوا في نفسي أساسا متينا للتماسك القومي والثقافي بإزاء ثقافة الغير ـ وعلى رأسها الثقافة الإنجليزية التي كانت قد اتسعت انتشارا واثرا في النفوس منذ الاحتلال عام 1882, ولهذا فقد دخلت قسم اللغة الإنجليزية وآدابها وأنا يقظ أشد اليقظة لما يمكن أن تنتجه دراسة أدب عالمي الانتشار مدعوم بقوة مادية عظمى هي قوة الإمبراطورية البريطانية ـ ما يمكن أن يخلفه هذا الأدب من استلاب للشخصية القومية, غير أن الثقافة البريطانية ـ مخالفة في هذا غيرها من الثقافات ـ الفرنسية خاصة ـ تعلم متلقيها التساؤل وتدعوه إلى التحدي, وقد كنا نقول في محيط الطلاب إن قسم الأدب الإنجليزي هو أكثر الأقسام الجامعية الذي يندد فيه بالاستعمار البريطاني, وكان هذا واقعا فعلا, ساعد عليه أن ظروف الحرب قد وفرت لنا طاقما من المدرسين الإنجليز, كان بينهم متمردون على الجوانب السيئة في ثقافات بلادهم وفي ممارسات حكوماتها, وكان على رأس هؤلاء مستر ويمنت, الذي كان يعلمنا الأدب الإغريقي والروماني في الصباح ويدعونا في المساء إلى شقته في جاردن سيتي ليعلمنا الاشتراكية, علاوة على أن الثقافة البريطانية تزخر بكثير من أعلام الثوار: ملتون الشاعر الذي حمل السلاح في وجه الملك وشيللي الذي دعا الجماهير إلى الثورة قائلا: أنتم الكثرة وهم القلة. وبرنارد شو الذي ساند الشعوب المستضعفة في وجه ظالميها, وبيرون الذي حارب في صفوف اليونانيين ضد الاستعمار التركي. لم يكن ثم خطر على أقوياء النفوس من الثقافة البريطانية, وقد زاد من ضعف هذا الخطر ما كان يسود العالم آنذاك من موجة تحرر عارمة, أفرزتها ملاحم الكفاح البطولي لشعوب العالم ضد العنصرية البغيضة التي كان يدعو لها كل من هتلر وموسوليني, وقد كنت خلال الحرب التي اندلعت قبيل التحاقي بكلية الآداب بشهور منضما قلبا وقالبا للشعوب المكافحة للفاشية, وكنت أردد آنذاك: مادامت الحرب قائمة فنحن نساند الحلفاء, وحين تنتهي الحرب سيكون لنا مع بريطانيا شأن آخر. في عام 1943 تخرجت في كلية الآداب, وانضممت بعد أسبوعين اثنين فقط, إلى الإذاعة المصرية (التي كان يديرها ويوجه سياستها الإنجليز, بالتعاون أحيانا مع الملك وأحزاب الأقلية), وكانت هذه نقلة بالغة الأثر في حياتي, فقد كنت قبل أيام أدرس وأتمتع بروائع الأدب العالمي من قديمه ووسيطه وحديثه فإذا بعملي الجديد يلغي عقلي ويحيلني إلى لسان فقط, عليه أن يردد ما يطلب منه وحسب, كانت الصدمة شديدة, غير أنني استوعبتها بعد وقت لم يطل, وأخذت أتبين ما في الإذاعة من مزايا, أهمها الاتصال المباشر بتيارات الفكر والسياسة والفن, ولقاء الأعلام في هذه المجالات, إلى جوار التعرف على نجوم الفنون العامة من مسرح وموسيقى وأغان شعبية ومونولوجات.. الخ, وقد ساعد هذا كله على أن أهدم حيطان الأكاديمية في نفسي, حينما عدت من بعثة إلى إنجلترا عام 1955, درست فيها أدب المسرح العالمي, كانت طريقة تدريسي تحمل سمات الرجل الذي خبر الاتصال المباشر بطوائف كثيرة من الناس, وأزعم أن هذا قد ترك أثره على طريقتي في التواصل مع طلبتي. لقاء مع الفكر الاشتراكي خلال السنوات الثماني التي قضيتها في الإذاعة, تعرفت إلى الفكر الاشتراكي عن كثب, ووجدت فيه ـ كما وجد غيري من شباب الجيل ـ ردا واضحا على الظلم الاجتماعي ودليلا هاديا يوضح طريق محاربته, وقد كنت منذ سنواتي الباكرة شديد الإحساس بفداحة الظلم الذي يصيب الفقراء في بلدنا, وقد دفعني هذا إلى مناصرة الفقراء بالقول والفعل, أذكر أن خادما كان يعمل لدينا جاءني ذات يوم شاكيا من أن أخي الأكبر قد ضربه, على الفور التقطت حجرا فصوبته إلى رأس أخي وأدبته, هنالك ضحك الخادم وقال: إنني كنت أمتحن مدى حبك لي وحسب! على أنني اقتربت من الفكر الاشتراكي بعقل مفتوح, قبلت منه ما تعلق بمناصرة الشعوب المقهورة بعضها لبعض, ومبدأ أن ملكية وسائل الإنتاج يجب أن تكون للشعب ومبدأ تساوي الفرص أمام الناس, فلا يملك أحد كل شيء بينما يبيت جاره على الطوى, وأحسب أن هذه المبادئ هي التي تبقى من الفكر الاشتراكي وهي القادرة على تطويره في الظروف المتغيرة التي يمر بها العالم, عدا هذا, لم أشأ أن أنضم إلى الحركة السرية للاشتراكيين, وفضلت أن أعمل في العلن لتغيير المجتمع بالطرق السلمية ما أمكن. وقد انعكست هذه النظرة الرحبة للفكر الاشتراكي على ما قدمته فيما بعد من نقد للأعمال الأدبية والفنية, فقد رفضت رفضا تاما, أن يقوم العمل على أساس ما يحمله من رسالة ـ مهما كانت نبيلة ـ وألححت على أن يقوم العمل الفني على أساس من جودته الفنية أولا ـ أن يكون له الحق في الحياة بوصفه عملا فنيا متكاملا, على أن يبث رسالته التي يريد إيصالها للناس بوسائل فنية وحسب, لا بالهتاف ولا بالصوت الجهير, ولا بالنبرة التعليمية الواضحة. وحين سافرت إلى إنجلترا عام 1951, لأدرس الأدب المسرحي العالمي لحساب كلية الآداب, جامعة محمد علي ـ أسيوط الآن ـ حملت معي هذه الرغبة المفتوحة لتقصي حقائق الأشياء, بدلا من الاكتفاء بما يقوله عنها الدارسون والباحثون, وربما لحظ المجاهد الوطني النبيل فتحي رضوان هذا الميل فيّ, فقد قال لي وهو يودعني: ستعود من إنجلترا أكثر اعتدالا, يومها كان المجاهد الكبير يكافح الطغيان الإقطاعي الملكي والاحتلال العسكري البريطاني, وكنت قد تعرفت قبل لقائه بشهور إلى جميلة كامل ـ شابة جامعية متفتحة, حديثة العهد بالتخرج في كلية الآداب ـ قسم الأدب الإنجليزي, رأيتها فأسرتني دماثتها وخلقها الرضي وتعلقها بالحياة العصرية دون بهرج ولا إعلان, كما شاقني منها استعدادها الدائم للخدمة العامة التي نذرت نفسها لها فور تخرجها, وقد كان من أبرز مظاهر التوفيق في حياتي أن تحولت علاقة الود بيننا إلى زواج, وحين بعثت إليها بمن يقول أني أطلب يدها, ردت قائلة: إنها تخشى أن أمنعها من العمل بعد الزواج, وكان ردي: أنني لن أكتفي بعدم منعها من العمل, بل سأبذل كل جهدي لكي تكون مواطنة عاملة ناجحة وفعالة, وقلت لها أيضا ـ بعد الزواج ـ إنني أعدك بأن أجعل حياتنا شهر عسل متصلا, وليس مجرد أيام سرعان ما تنقضي, وقد كان من فضل الله عليّ وعليها أن اتصلت حياتنا الزوجية منذ 1951, كان كل منا نعم القرين للآخر, مساندا له في السراء والضراء معا. التكنولوجيا لا الأيديولوجيا في إنجلترا قرأت الأدب الإنجليزي وأدب المسرح العالمي, وشاهدت المسرح والباليه واستمعت إلى الموسيقى العالمية, وأنهيت مدة البعثة ـ أربع سنوات ـ بالحصول على درجة الدكتوراه, وأهم من هذا كله عشت الحياة التي كان يحياها الإنجليز آنذاك وراقبت عن كثب تطورات المجتمع الغربي السياسية والاقتصادية, وفي قمة احتدام الحرب الباردة بين المعسكرين قلت لزوجتي: إنني أرى أن الصراع لن تحسمه الأيديولوجيا بل التكنولوجيا, وأن السابق في الميدان الأخير هو الذي سوف يتسنم القمة العالمية, ولكني أضفت: إنني أرى الصراع بين المعسكرين سيفضي إلى قيام نظام ثالث ينبذ مساوئ الاشتراكية والرأسمالية, ويفيد من مزايا كل منهما. وهذا هو الذي يحدث الآن ـ وإن كان بطيئا ـ يحدث في جمهورية الصين الشعبية على وجه الخصوص. وعدت إلى مصر عام 1955 لأرى فيها نعيما وملكاً كبيرا, فجرت ثورة يوليو المجيدة بقيادة جمال عبدالناصر طاقات الشعب الحبيسة, وردت إليه اعتباره, وأعانته على التخلص من أعدائه وخصومه في الداخل والخارج, ومدت بصره إلى شعوب القارات الإفريقية والآسيوية واللاتينية, وحفظت له ماء الحياة بإنشاء السد العالي, وضمنت أمنه وموارده المالية بتأميم قناة السويس, لا غرو أن تكاتف الأعداء الثلاثة: فرنسا وإنجلترا وإسرائيل, (وانضمت إليهم أمريكا في السر) لمحـاولـة إسقـاط عبد الناصر ووأد ثورة يوليو في مهدها, غير أن المخطط الرباعي لم ينجح في شيء من هذا, وفشل في زحزحة ثورة يوليو عن خطها الوطني القومي التقدمي العالمي. أتاحت لي ثورة يوليو أن أرأس مؤسسة فنون المسرح والموسيقى في الفترة ما بين 1959 ـ 1973 فاشتركت مع زملاء لي أفاضل في قيادة الحركة المسرحية وفنون الأداء بصفة عامة وإيصالها إلى الشعب في المدينة والأقاليم والقرى أيضا, وقامت آنذاك نهضة فنية لم يسبق لها مثيل, مما دفع الفنانين في الشرق والغرب معا إلى عرض خدماتهم على هذه النهضة العارمة. تجربتي في الكويت وفي عام 1973 سافرت إلى الكويت لأعمل ضمن هيئة التدريس في كلية الآداب ـ قسم اللغة الإنجليزية ـ كانت رحلتي إلى الكويت التي استمرت تسع سنوات متصلة علامة فارقة كبرى في حياتي, كانت الكويت آنذاك في قمة الازدهار والتفتح, فجذبت إليها أعدادا كبرى من المثقفين أغلبهم من المصريين, ومنحتهم فرص العمل الحر, دون أن تسأل أحدا منهم عن هويته السياسية, كان المطلوب فقط أن يقدم أفضل ما عنده لخدمة الميدان الذي يعمل فيه. في تلك السنوات الزاهرة تعلمت على الطبيعة, كيف أكون مواطنا عربيا, كانت الكويت تعج بأجناس مختلفة من الناس, لقيت الفلسطينيين والسوريين والعراقيين والسودانيين والتونسيين, إلى جوار الكويتيين بالطبع فتخلص إليّ من هذا الاحتكاك المثمر إيمان لايتزعزع بالقومية العربية وضرورة استمرارها في البقاء خدمة للعرب وللعالم معا, وشاركت في تشكيل عقول شبان وشابات انتشروا في أرجاء الوطن العربي, حاملين معهم النور, وتعرفت إلى نخبة من كبارالمثقفين الكويتيين على رأسهم الراحلان العزيزان: عبدالعزيز حسين وأحمد العدواني, فضلا عن المثقف والفنان الكبير حمد الرجيب, وتعرفت أيضا إلى نساء كويتيات مثقفات بعضهن جلس إليّ في مقاعد الدرس, والبعض الآخر غشيت بيوتهن, وكن كاتبات ومثقفات وفنانات على رأسهن الكاتبة المرموقة ليلى العثمان. واستعرض بعد هذا حياتي في عجالة فأجد أنني مدين للشعب المصري أساسا بما حصلت من تجربة ومعرفة, فقد دفع هذا الشعب الفقير المطحون نفقات تعليمي في جامعتين: القاهرة, وبرمنجهام, فأقسمت أن أرد له الجميل مضاعفا. ديني لأبي وأمي وأجدني مدينا كذلك لأبي وأمي, كان أبي شديد الولع بالمعرفة والتقدم, أنفق آخر ما يملك على تعليم أولاده, أما أمي فقد كانت كالشجرة الظليلة الراسخة, منها تعلمت حب الناس البسطاء, والعطف على المرأة التي طالما نبهتني إلى ما تعانيه من عنت وقهر في مجتمع يحكمه الرجال, وقد أحببت هذه الأم الحنون, وطالما عقدنا جلسات غنائىة نتغنى فيها ـ معا ـ بالأغاني السائدة آنذاك. وأجدني مدينا كذلك لأخي أمين الراعي, الذي وقف إلى جواري وقفة الرجل الشهم النبيل, كان أبي قد مات بعد إتمامي للدراسة الثانوية, مات فقيرا كما عاش, فالتف حولي بعض من أفراد الأسرة وقرروا ألا مفر من أن أعمل بالثانوية العامة, وما أن سمع أخي أمين بهذا حتى ثار ثورة عارمة, وأصر على أن أتم تعليمي الجامعي, ودفع من إيراده المتواضع ما عنى هذا من تكاليف, وكانت ـ لحسن الحظ ـ قليلة, فقد كنت أتعلم في الجامعة بالمجان, مستفيدا من منحة التفوق التي كانت تقدم لي كل عام, وقد زاد من نبل موقف أمين أنه هو نفسه لم يستطع أن يتم تعليمه في كليات الجامعة, واضطرته الظروف إلى الاكتفاء بمعهد التربية, فحرم بهذا من حق واضح في أن يستزيد من العلم. كان أمين أخا وصديقا لي, وكنت أراجع دروسي إلى جواره, فحفظت معه (مصرع كليوباترا), وتعرفت إلى مدارس علم النفس المختلفة, وأخذت أردد أسماء فرويد, وآدلر ويونج ومدرسة الجشتالت, وسمعني مدرس اللغة الإنجليزية في مدرسة التوفيقية ـ وكان إنجليزيا ـ فحملني إلى حجرة الناظر, حيث كان يوجد مفتش إنجليزي يزور المدرسة, قال له: هذا الولد يعرف فرويد وآدلر ويونج, وعجب الناظر والمفتش, ثم نصحني الناظر بأن أهتم بصحتي فقد كنت بادي الهزال! أستعرض وقائع حياتي وأقول: الحمد لله, قد آتاني الله فضلا كبيرا, وهيأ لي الفرصة كي أكون نافعا لنفسي وللناس, وإلى الذين سوف يقرأون هذه السطور أقول: ما من شعار ينبغي أن يتخذوه لحياتهم أوقع ولا أعظم من شعار: خير الناس أنفعهم للناس!
|