فتنة السرد في رواية «فتنة»

فتنة السرد في رواية «فتنة»

لأن هزيمة 67 شكلت ومازالت تشكل منعطفاً فكرياً على كل المستويات في عالمنا العربي، فإن الأدب عامة، والرواية بشكل خاص لم تخرج عن هذا الإطار وجاءت لتعصف بالأشكال الروائية والتقنيات التي تعارف عليها الأدباء، والقفز والتمرد عليها، بل وبذر بذور الشك في كل القيم التي سادت حتى تلك النكسة، لدرجة الاحتجاج الحاد على جميع المسلمات التي سادت عندئذ.

نحت الرواية الجديدة مناحي كثيرة أهمها تحليل الواقع وتفسيره ومحاولة استكناه ما يمكن أن يؤول إليه المستقبل، بهدف الوصول لمرحلة من تحرير الذات والمجتمع والمنظومة التي كانت تحكم الواقع الذي أوصلنا للهزيمة، بالبحث في/وعن العلاقات القائمة والإسهام في إيجاد ما هو جديد يقفز على المتعارف عليه ليتمكن الكاتب من الوصول لأدوات تعينه في التعبير عن علاقة الفرد بواقعه المستجد.

جاءت الرواية الجديدة بناء على كل هذه المعطيات معبرة وكاشفة عن علائق جديدة غير ظاهرة في محاولة لفهم الظواهر والربط بين علائقها والوقوف على الجذور والجوهر فيها، ولهذا فإن لغتها تأتي في غالب الأحيان تصويرية إيحائية بعيدة عن التقريرية والإنشائية والمباشرة، حتى أصبح من المؤكد أن الرواية الجديدة لا تبحث عن إجابات بقدر ما تثير الأسئلة سعيا وراء فهم جديد للعالم من أجل إيجاد تغييره والسيطرة عليه.

بكلمات أخرى فقد جاءت الرواية الجديدة لتلبي حاجات العصر بتعبير فني عصري يعكس عمق وخطورة الأزمات التي تكبل الإنسان وتواجه البشرية وتقرأ مشكلاته وتؤسس ذائقة ووعياً جماعياً مغايراً للمتعارف عليه في العقود السابقة.

وقد أدى تشظي المجتمعات وتفككها وتنامي المدينة واتساعها إلى ظهور مشكلات عدة كتوحد الإنسان مع ذاته وتفكك الأسر وتشظي بنية المجتمع: كل ذلك فرض أنماطا سردية جديدة تعبر بصدق عن الأزمات الحادة التي تلف البشرية والفرد والمجتمعات.

هذه مقدمة لابد منها قبل الدخول في أجواء نص الكاتبة «أميرة القحطاني» والموسومة بـ«فتنة» والتي لاقت تباينا في تقبلها بين مؤيد ورافض، وهذا مؤشر صحي على تلقي أي نص، إذ من غير الممكن بل ومن الصحي اختلاف وجهات النظر حول قضية.

لكن لابد هنا من الإشارة إلى حقيقة أساسية مهمة هي أن المتلقي لأي نص يجب أن يدخل إليه دون آراء مسبقة عن العمل من خلال آراء الآخرين أو عن كاتبه، فلا سلطة على النص، وأن كل نص ينفرد بذاته بتفاصيله ورؤاه الفنية والجمالية والبنائية، وأن كل نص له فنياته وخصائصه وفلسفته ويزود المتلقي بمفاتيح قراءته واستيعابه دونما تمحك بنظريات جافة مترجمة لا علاقة لها ببيئتنا ولا ثقافتنا. في اجتراحها مخاض التجربة الأولى، تسجل «أميرة القحطاني» نجاحاً لافتاً عكَس ذكاءها - الذي أوجد الكثير من الإيهام لدى متلقي نصها بين بطلتها وشخصيتها - وثقافتها وجرأتها وسخريتها وخفة ظلها.

بأسلوب جاذب سلس وحوار متقن، ابتعد بالنص عن الترهل والركاكة، وبتوظيف تقنية التقطيع السينمائي والفلاش باك والاستباق وتقنية التداعي، استطاع النص التعبير عن حالة الفتاة التي تعيش تمزقها وقلقها النفسي في سعيها للبحث عن إجابات لجذر معاناتها، مع بقاء النص متمتعا بوحدته العضوية وترابطه الفني.

مركزية الحج جاء مشعا في النص، مع ما تبع ذلك من مراوحة عن هذا المركز وعودة إليه وترك مساحات فارغة داخل النص تركت عمداً احتراماً من الكاتبة للمتلقي وخياله وذكائه، مع تشظ مقصود للأحداث ترفع من قابليتها للتأويل وتحد من تداعيات الذاكرة غير المضبوطة، وأزمنة متداخلة تعكس نفسية الروائي/الراوي/ الساردة التي تدير مفتاح شكها في كل الأقفال، وهي المولودة في سجن الخوف، باحثة عن يقين مطلق مفقود وقوة تستمدها من أم وليس من الرجل حتى لو كان أباً.

رواية تجأر بوعيها وثورتها الناعمة أملاً بخلق أنموذج أنثوي بفكر وخصائص جسمانية تمكنها من مواجهة المنطق الذكوري بمطرق أنوثتها، رافضة من يقترب منها وبصورة أقرب للقمع منها إلى الهروب. لا نستغرب من الساردة مثل هذه التصرفات وهي التي غمرت وجودها بظلال الهزائم سواء أمام والدها وصراعها بين مدينتها وبداوتها أم بانتمائها الأيديولوجي واقتناعها الفكري بل وهزيمتها أمام حلمها في المطاف الأخير.

انطلاقاً من تلك المعطيات ، نتفهم سعي الساردة للإيقاع بالرجل في المراكز الوظيفية والاجتماعية العليا، إنها وبطريقة لاواعية تسعى لتحطيم صنمية الأب ونزع مقومات شوكته، ومن هنا برز الصراع الحاد داخل أعماق «فتنة»، وانعكس بشكل جارح إثر انفصال الأبوين على روح فتنة وشخصيتها، ومن هنا نفهم أيضا لماذا كان (الرجل) الوالد والأخ متهمين في النص (ص9-15) بالرغم من كل التمسحات الظاهرة بهما والتودد لهما.

فتنة، الشخصية الأبرز على مساحة النص، والتي أخفى ضياؤها ملامح الشخصيات الثانوية الأخرى أو كاد، جاءت شخصية محورية متنامية، وما التعريج على الفضاءات السياسية وملامستها من بعيد إلا بهدف إضاءة العتمات في شخصية البطلة وكشف تناقضاتها الجوانية.

تميزت رواية «فتنة» بقدرتها المذهلة على استبطان نفسي دقيق لخلجات البطلة فكانت فتنة الشفافية والسرد والمرأة الواعية والذاكرة والجرأة والرفض والمتعة والمبنى الفني والانبهار والتشويق ومنح مفاتيح التخييل وتوظيف السخرية وبث الفكاهة وتوظيف الرائحة بطريقة لافتة ونثر وجع الأنثى وطرح ميكانزمات القلق والجرح الداخلي فيها واجتراح الأسئلة الكبرى ومحاولة نحت أنموذج المثال للرجل على غير القياسات المعروفة لكل النساء والبحث عن الأمان والحب المفقودين والقارب الذي تكسرت مجاذيفه وعاصفة التناقضات التي عصفت بفتنة جراء الزيف وخليط عجيب من التناقضات التي عاشتها.

وبعد، فإن ثيمات وعناوين كثيرة يمكن أن تحتل البطولة في نص «أميرة القحطاني» الماتع كعقدة الاضطهاد أو علاقة الأنثى الملتبسة بالرجل أو التساؤلات الرافضة والجريئة، غير أن تيار الوعي هو الذي يستحق أن ينال بطولة هذا النص بلا نزاع.

 

 

أميرة القحطاني