بهاء برهان في رواية «جرأة الصمت»: أسئلة مصيرية مفتوحة بين جيلين

بهاء برهان في رواية «جرأة الصمت»: أسئلة مصيرية مفتوحة بين جيلين

في حوارات صامتة، وحوارات داخلية، بين صبي ذكي وأمه المشحونة بعاطفة خاصة نحوه، تتحرك رواية الكاتب السوري بهاء برهان «جرأة الصمت» التي صدرت أخيراً عن دار المدى بدمشق.

تأتي الحوارات الحادة المكثفة بين الأم وابنها على شكل رسائل وردود متبادلة، يتلقاها، أو يشعر بها، كل منهما بالحدس أو التخاطر عن قرب، وهي حوارات، أو أسئلة مفتوحة، تحمل أجوبتها معهاً أحياناً، وتبدأ من دوائر صغيرة، تكبر وتتجاوز الحدود بين ما هو شخصي وما هو اجتماعي أو إنساني.

وكانت البداية حينما عبر الصبي عن ملله من الحياة، ويأسه الشخصي من جدوى استمرارها، وهو لم يبلغ التاسعة من عمره بعد.

وتواصل بينهما السجال الدرامي، الذي يقترب من المواجهة السلمية أحياناً، قبل أن نكتشف في السطور الأخيرة من الرواية ما يبرر هذا الصمت الذي يلف هذه الحوارات، وهو أن الصبي كان أخرس منذ الولادة، ولكن ذكاءه غير عادي حينما يتحدث في داخله، بلسان حاله، كما لو كان أكبر من عمره الحالي بكثير:

«إني وريث زمانك، فزماني لم يحن بعد، إني وليد تلك الأحاسيس، التي عشت، فليس لي أن أضيف شيئاً، وأنا في مثل هذه السن».

ومع ذلك تشعر الأم بعجزها عن تغيير حالة اليأس التي تسيطر على ابنها، وهي حالة مدعومة بأفكار حية عن صعوبة تغيير الحياة نحو الأفضل، بعد انحسارها وضمورها إلى هذا الحد، من وجهة نظر ابنها، والأسباب كثيرة:

«إننا نعيش حالة من تطويع الفكر بما يخدمنا، وليس تطويع أنفسنا بما يخدم الفكر».

كانت الأم معنية بالتقاط كل الإشارات، الموجهة إليها من ابنها، وأكثر من ذلك، كانت تحاول أن تلتقط حواراته الداخلية، وتكشف له ما يمكن أن يدعم سوية التفاهم المشترك بينهما، وقد يكون لهذه السوية ما يوازيها في أشكال صائتة، أو صامتة، في عالم الأحياء الأخرى براً وبحراً وجواً.

في البداية كانت الأم تخاف عليه، فلا تمضي بعيداً في الحديث عما يريده، ولكنها صارت بعد ذلك تخاف على نفسها، بعد أن تغيرت حالها، لأن جرأته الصامتة، بما فيها من غموض، وضعتها في حالة ارتباك وقلق. وهي تظن أن لديها من الأفكار ما يكفي للرد على كل أسئلته، ولكن تلك الأفكار كانت مرتبطة بموروثها، ولم يكن هذا كافياً للرد على الأسئلة، أو الأفكار التي تنسف هذا الموروث، أو تهز أركانه المضطربة.

إنها مواجهة صامتة وحامية بين جيلين، تغذيها مشاعر الخيبة لدى الصبي والشعور بالتقصير والذنب لدى الأم، مع أن الصبي اعتاد، حينما كان صغيراً، أن يفهم الأشياء من حوله من خلال نظرة الأم إليها، لكن أمه أرهقت نفسها لتتمكن من الإجابة عن الأسئلة الصعبة بعد أن كبر، واستطاع أن يوظف طاقته المعطلة في لسانه لتنمية حواسه الأخرى وتدعيمها:

«كنت أشعر أن ما يقوله لا يحتمل أن أتناوله بالشكل الذي كنت أتناول به الأشياء في محيطي عادة، أحسست أنه علي الخروج من نفسي وترك كل ذاكرتي لأعيد صياغة فكر آخر، فكر جديد، أستطيع من خلاله أن أعيد تركيب أشلائي بالشكل الذي يجعلني قادرة على مواجهة وعي ابني المليء بكل هواجس المسلمات التي كنت لا أعيرها أهمية، كم قلت لنفسي: عليّ فهم نفسي.. ولكن ضجيج النمل لا يوقظ نائماً».

أخيراً، يمكن القول إن حبكة الرواية في «جرأة الصمت» تعتمد على تصعيد الأفكار والحوارات، وتعميق مستوى التفاهم بالتخاطر، بدلاً من تصعيد الأحداث نحو الذروة، حيث تتصادم الأفكار بسلاسة، أو تلتقي وتتلامس، في بعض وجوهها، وهي بذلك تقترب من إيقاع الحوارات في المسرح الذهني، دون أن تنتمي إلى المسرح، لأنها، أولاً وأخيراً، رواية تجريبية مغامرة، تطرح أسئلة صعبة عن الراهن الملتبس في حياتنا، وتتقصى الجذور المتواصلة مع الماضي، وتحاول استشراف المستقبل المغبش، من خلال مقدماته المرئية الآن.

------------------------------------------
وأُريدُ أُن أَحيا...
فلي عَمَلٌ على ظهر السفينة. لا
لأُنقذ طائراً من جوعنا أَو من
دُوَارِ البحر، بل لأُشاهِدَ الطُوفانَ
عن كَثَبٍ : وماذا بعد ؟ ماذا
يفعَلُ الناجونَ بالأرض العتيقة؟
هل يُعيدونَ الحكايةَ ؟ ما البدايةُ؟
ما النهايةُ ؟ لم يعد أَحَدٌ من
الموتى ليخبرنا الحقيقة...

محمود درويش

 

 

عرض: بندر عبدالحميد