ناقد عرف طريقه فؤاد دوارة

لم أتجاوب مع كتاب من الكتب التي قرأتها أخيرا مثلما تجاوبت مع هذه السيرة الذاتية المركزة للدكتور محمود الربيعي، ربما بحكم الاشتراك في المهنة، وربما بحكم تقارب السن، واتفاق كثير من المواقف والآراء .. ولكن لاشك في أن للصدق والبساطة اللذين كتبت بهما هذه السيرة الذاتية دخلا كبيرا في تجاوبي معها.

يقول الكاتب اللبناني الكبير ميخائيل نعيمة في مستهل سيرته الذاتية "سبعون - حكاية عمر": "إنك خادع ومخدوع كلما حاولت أن تحكي لنفسك أو للناس حكاية ساعة واحدة من ساعات عمرك. لأنك لن تحكي منها إلا بعض بعضها. فكيف بك تروي حكاية سبعين سنة؟!".

وأعتقد أن هذه الحقيقة كانت ماثلة في ذهن د. محمود الربيعي وهو يكتب إهداء سيرته الذاتية، ويقرر فيه أنه يقدم "جوانب" من هذه السيرة، ويضيف:

"وهناك جوانب أخرى في قصة حياتي لا سبيل إلى كتابتها، إما لأنها ذهبت من الذاكرة أدراج الرياح، أو لأنها أعز من أن تقتنصها الكلمات، أو لأنها تتصل بأطراف أخرى لست في حل من التحدث باسمها".

أما الإهداء نفسه فهو لعدة أجيال من أبناء قريته، أجيال الشيوخ الحكماء، والجيل "اليافع" الذي سبق جيله، وعلمه حب المغامرة، وأبناء جيله الذين تفرقت بهم السبل بعد صحبة جميلة لمدة سنة أو اثنتين.." وإلى الأجيال التالية، وذكرى أمه وأبيه، وولديه، وأعزاء آخرين..

إنه يتحدث باسم أبناء جيله "مؤديا ضريبة الحظوة التي انفردت بها دونهم، والتي حملتني إلى معاهدة العلم في "الأزهر" و "دار العلوم" و "جامعة لندن"، على حين حملتهم إلى العمل في الحقول إلى الأبد، أو التغرب في بلاد الله إلى الأبد! ..".

لا يمكن أن أكتم إعجابي بروح الولاء لهذه للأجيال السابقة والمعاصرة واللاحقة، وما تنم عنه من احساس عميق باستمرار دورة الحياة وتجددها، كل جيل يسلم الأمانة للجيل الذي يليه، وما نحن سوى ذرات ضئيلة في هذا التيار الجارف المتصل ... وإن كانت مسؤليتنا تزداد ووجباتنا تتضاعف بمقدار ما أتاحته لنا الحياة من فرص حرمت منها الآلاف من أقراننا ..

ويرتبط بهذا الولاء للأجيال السابقة والوفاء لها ما رواه لنا الكاتب عن بعض أساتذته الأوائل بالمدرسة الإلزامية، ومنهم الشيخ عبداللطيف هارون الذي تصادف أن تتلمذ ابن له على صاحب السيرة حين أصبح بعد دورة كاملة للأيام أستاذا بكلية دار العلوم، فإذا به يسعى من خلال تلميذه للقاء أستاذه القديم ..

البذر والحصاد

في الفصل الأول من هذه السيرة الذاتية - وعنوانه "فصول القرية الأربعة" - يرسم الكاتب صورة مترامية الأطراف، بالرغم من تركيزها الشديد للحياة في قريته "جهينة" مركز سوهاج، معتمدا على إبراز اختلاف أنماط الحياة من فصل لآخر، فكأنه يرسم خلفية اللوحة الشاسعة التي نشأ فيها، في صعيد مصر.

أروع الفصول في قريتهم هو الخريف، مياه الحياض الأرض الزراعية، فيعود من رحل إلى الشرق الترعة "السوهاجية"، إلى غربها، حيث منازلهم الأصلية، فيلتئم شمل الأسر، وتعمر القرية بالناس .. ويحلو السهر والسمر إلى ما بعد منتصف الليل ..

وفي الخريف تكثر حفلات الزواج، ويزور شيخ الطريقة أتباعه، فتكثر الولائم وحفلات الذكر والإنشاد.

"يلي فصل الخريف في جماله في قريتي فصل الشتاء، هو فصل الكمون حول النار، والحكايات الليلية الطويلة وهو فصل ولادة الأبقار وكثرة اللبن ومشتقاته.

وفي الشتاء تنضج أزاهير الفول والبرسيم، وتطلع سنابل القمح، وتحوم الفرشات والعصافير النحل، وتزحف حشرات الحقول، ويزخر الجو بالروائح والأصوات، وتسمن الحيوانات، وتنمو العواطف في جو الخصب والدفء!

وأما فصل الربيع فمتعه قليلة نسبيا، فهو الفصل الذي يكون الناس فيه مشغولين بجمع المحاصيل الشتوية والصبيان بالدراسة.

وأقل فصول السنة متعة في قريتي فصل الصيف. إنه فصل انشغال كل الناس بزراعة المحاصيل الصيفية التي تروى من ماء السواقي بمشقة بالغة، وهو فصل الحر وانتشار الذباب، ونقص الغذاء ...

يخيل إلى أن هذا الإحساس القوي بانقسام الزمن إلى فصول من خصائص أهل الريف لارتباط حياتهم

ومختلف أنشطتهم واحتفالاتهم بالزراعة والحصاد، كما وضح من حيث الكاتب وهذا الإحساس القوي واضح في كثير من صفحات الكتابة ومواقفه، حينما يحدثنا في مناسبات عديدة عن تباين فصول السنة في لندن وفي الجزائر وفي كل مكان حل به، ويربط بين الأحداث المهمة في حياته وفصول السنة أكثر من شهورها.

القناعة والرضا

سنلمس تأثير هذه النشأة القروية في مواقف وسلوكيات عديدة مما رواه لنا الكاتب في مسيرة حياته .. فحين يذهب إلى الإسكندرية لأول مرة في حياته ليعمل مدرسا بها بعد تخرجه في كلية دار العلوم يخط قلمه:

".. وحين تركت رصيف المحطة إلى فنائها لفحت وجهي نسمة لها واقع ثقيل لا عهد لي به، وشممت رائحة غريبة جديدة علي، ولم أكن إلى ذلك العهد قد زرت مدينة ساحلية قط".

ويقول عن لقائه الأول بالبحر، وكان الوقت ليلا:

".. وسلكنا شوارع الإبراهيمية الفرعية الضيقة، وفجأة اتسع المنظر وسمعت صوت زمجرة، ولفحني الهواء وبعد ثوان كنا نواجه البحر. لم أر سوى ذرات الأمواج المزبدة المتسابقة إلى الشاطئ،

وبعض أضواء تلتمع من بعيد".

لعل هذه النشأة الريفية هي المسئولة أيضا عن خجل الكاتب وحيائه مما يمكن أن نلحظه في بعض فلتات قلمه غير المقصودة، يقول عن رحلته الأولى إلى الجزائر للعمل في جامعتها:

".. وتعرفت في المطار على أحمد فؤاد الأهواني، وكان مسافرا للغرض ذاته. وبعد فترة من الطيران قدم الغداء فلم آكل خجلا من مرافقي.."!

إذا استطعنا تفسير بعض خصال الكاتب بردها إلى نشأته الريفية، فثمة خصال أخرى لا يمكن تفسيرها أصلا ومنها موقفه من المال: "

".. كنت - ومازلت - لا أعرف قدر المال، ولا أسعد بامتلاكه ولا آسى على نقصانه. وقد يرى البعض هذا نقضا في تكوين شخصيتي، ولكنني أصف بذلك واقعا لا أملك تفسيره، فضلا عن تغييره".

ما اعتبره البعض نقصا في شخصيته، أعتقد أنه إحدى فضائله الأساسية، سمها القناعة، أو الرضا، فلولاها ما استطاع أن يحقق ما بلغه من نجاح واضح في تخصصه، وفي علاقاته الشخصية والعامة، ابتداء من علاقته بأفراد أسرته، وأمثل له بموقفه من ميراثه:

"أصبح راتبي ثلاثة عشر جنيها (حين عين معيدا بكلية دار العلوم سنة 1960)، وكان كافيا فلم أطلب مالا من أهلي بعد ذلك قط وكان - ولا يزال - لي ميراث من الأرض خلفه لي أبي، ولكنني لم أفكر في طلبه، أو طلب ريعه من أخي الأوسط، الذي بقي في جهينة، يفتح بيتنا ويستقبلنا في زياراتنا النادرة، ويربي أولاده ويرعى أختا لنا فيه وقد فعل كل إخوتي الشيء ذاته، وبقيت صلات الود تحكمنا، كما بقيت الثروة التي خلفها لنا أبي كاملة لم تمس، وإن لم تنم كثيرا، والظاهر أننا ضربنا بهذا مثالا غريبا في القرية التي ما يكاد يتوفى فيها رب الأسرة حتى تنشأ المشاجرات بين ورثته سواء كان ما تركه كثيراً أم قليلاً. ولا يزال تعلقي بإخوتي شديدًا، وأسعد بأن أقدم لهم أي شيء يسعدهم".

تحقيق الأحلام الغامضة

أمثال هذه الوقفات الإنسانية تضفي على السيرة الذاتية للدكتور محمود الربيعي، وقد أسماها "في الخمسين عرفت طريقي" جوا من الألفة والمتعة، وتبعد بها عن الجدية والجفاف اللذين يسيطران عادة على أمثالها من السير الذاتية التي يغلب عليها التاريخ التعليمي والتكوين الفكري لأصحابها، وهو ما يمثل العمود الفقري في سيرتنا أيضا.

كانت البداية بمدرسة جهينة الأولية، ولما كانت النية متجهة إلى إلحاقه بالأزهر، فقد التحق كذلك بقسم الحفاظ بالمدرسة ليحفظ القرآن كله، وهو ما انتهى منه في صيف 1946، ولأنه كان شديد الإعجاب بابن خالته المدرس الإلزامي فقد أراد أن يقتدي به، ويتعلم مثله، ويعود إلى قريته ليشتغل بمهنته ذاتها، ويرتدي الزي الإفرنجي بدلا من الكاكولا والعمامة، وهذا يتطلب الالتحاق بمدرسة المعلمين الأولية بدلا من الأزهر، وتقدم لامتحانها، ولكنه رسب فحزن لذلك حزنا شديدا. ويعلق على ذلك بقوله:

"وحين أسترجع ذلك الآن أقول لنفسي: إنني لو كنت نجحت في ذلك الامتحان لانتهى بي الحال إلى أن أكون مدرسا إلزاميا، وأنا الآن أستاذ في الجامعة! ولكن حتى ذلك - والحق يقال - لا يجلب لي السلوى الكاملة، فهل أستطيع أن أقطع أنني الآن أكثر سعادة من مدرس ابتدائي في قريتي؟".

التحق محمود الربيعي بالمعهد الديني بأسيوط، وعرف طريقه إلى مكتبة البلدية هناك، وتردد على السينما، وحين أنهى أخوه دراسته الثانوية الأزهرية انتقل إلى القاهرة ليلتحق بكلية اللغة العربية بالأزهر، فرحل محمود معه في "خريف" عام 1951، ليبدأ "مرحلة النضج الذهني الحقيقي".. من خلال القراءة المنظمة بدار الكتب والمشاركة في الحياة الثقافية الحافلة في القاهرة.. وازدادت هذه المشاركة بالتحاقه بكلية دار العلوم، التي حققت أحلامه الغامضة في "عبور البحر إلى أوربا، وتجديد مغامرة رفاعة الطهطاوي وطه حسين، الصعيديين العريقين".

في لندن قضى محمود الربيعي خمس سنوات في بعثة دراسية بجامعة لندن للحصول على درجة الدكتوراة في النقد الأدبي الحديث، أنفق منها عامين كاملين في تعلم اللغة الإنجليزية، وكان الأصوب أن يقضيهما بمصر، ولولا أن الحظ ساعده فأعفاه مجلس الجامعة من امتحان المعادلة بناء على اقتراح أستاذه، الذي طلب من المجلس أيضا أن ينتقل ببحثه إلى درجة الدكتوراة دون ضرورة للحصول على الماجستير، لطالت إقامته في انجلترا أكثر من خمس سنوات.

هذه السنوات التي قضاها المؤلف في لندن تمثل "التحول الكبير" في حياته، ومن ثم فمن الطبيعي أن تستأثر ذكرياته عنها بربع الكتاب، في حين تحتل بقية حياته في مصر والجزائر والكويت بقيته موزعة على عشرة فصول.

عابس .. ولكنه طيب!

خلال هذا السجل الحافل الذي استغرق نصف قرن تبرز أسماء العديد من الشخصيات من أصدقاء وزملاء الدراسة والعمل والأساتذة، وبعض الشخصيات العامة ممن جمعت الظروف والحياة الأدبية بينهم وصاحب السيرة، كيحيى حقي، ومحمود شاكر، ورشاد عبد المطلب، وفؤاد السيد، ومحمد خلف الله أحمد، وإبراهيم الترزي، وفاروق شوشة والسعيد بدوي، وغيرهم.. وغالبا ما تذكر هذه الأسماء مصحوبة برأي الكاتب فيها، وموقفه منها، كقوله عن العقاد:

"في تلك الفترة زرت ندوة العقاد، التي كان يعقدها. في بيته صباح كل يوم جمعة بشارع السلطان سليم الأول بروكسي بمصر الجديدة، بصحبة عبد الحي دياب (وكان رحمه الله من تلاميذه المقربين) وإسماعيل الصيفي ولم تترك الزيارة في نفسي أثرا كبيرا، ولم أستسغ المديح المطلق الذي كان يكال له من بعض الحاضرين. لم تكن ندوة وإنما كانت محاضرة تلقى. وقد لاحظت أن ردود العقاد على بعض المتسائلين كانت قاسية. ولم أعد مرة أخرى إلى ندوة العقاد...".

معالم الطريق

في الفصل الأخير يلخص المؤلف أهم المعالم التي تميز الطريق الذي عرفه في الخمسين وسار فيه نتيجة لخبرات السنين وتتمثل معظمها في بعض الفضائل النفسية والثقافية من أهمها الطريق الذي رسمه للنهوض بالنقد الأدبي، وكان قد حدثنا عن منهجه فيه في فصل سابق"، وهو ".. العمل الشاق والتأهيل الرفيع، وفتح النوافذ على العالم لمعرفة مالدى الآخرين، ونفي أي ثرثرة مسترخية حول النص، وتخصيص كل الجهد المخلص الصابر الكفء للقراءة "النصية" وذلك لتأصيل تقاليد القراءة النقدية الفاحصة، التي يقوم بها مجموعة من النقاد المؤهلين، عبر جيل أو أكثر من الزمان".

أهم من ذلك، ولعله أهم ما في الكتاب كله، حديثه المفصل الحزين عن هبوط مستوى البحث في الدراسات العليا والرسائل الجامعية نتيجة للفساد أو المجاملات أو الضغوط، وهو ما يلخصه بقوله:

".. تغيرت مقاييس البحث والإعداد للدرجات العلمية فأصبح المهم أن ترضي المشرف لا الحقيقة، وأن يختار للامتحان المرضي عنه، المأمون الجانب من الأساتذة، لا المؤهل للمناقشة، وأن الامتحان يسير في ناحية والتقدير في ناحية أخرى.. إلخ. ورأيت ما أصاب المكتبات العامة من موات، وما أصاب الكثير منها من حالة مزرية..".

لقد بدأ د. محمود الربيعي كتابة هذا الكتاب سنة 1981، وانتهى منه سنة 1984، وأخبرنا في ثنايا الكتاب أنه ولد في 15 يناير 1932، أي أنه الآن بلغ الستين من عمره ولاشك أنه خلال السنوات الأخيرة قد تضاعفت خبراته، وتبينت له معالم أخرى في الطريق كانت غائبة أو غائمة عليه وهو في الخمسين، وهو ما يتطلب منه إضافة فصل جديد، أو فصول إلى هذا الكتاب، أو تأليف كتاب جديد، أعتقد أن السطر الأول فيه سيكون نسخ ما جاء في عنوان هذا الكتاب " في الخمسين عرفت طريقي".