عُسر القراءة (ديسليكسيا) عند الأطفال.. ما الحل؟

عُسر القراءة (ديسليكسيا) عند الأطفال.. ما الحل؟

عـُسر القراءة واحدة من صعوبات التعلم الشائعة عند الأطفال. مشكلة مرتبطة بطريقة معالجة اللغة من قبل الدماغ. وهي توجد عند الذكور والإناث، مما يؤدي الى مصاعب جمة في حاضرهم ومستقبلهم. فما الحل؟

عـُسر القراءة أو الـ «ديسليكسيا» Dyslexia مصطلح يوناني استحدثه «رودولف برلين» أواخر العام 1800م، وهو يشير إلى: «صعوبة التعامل مع الكلمات»، أو «عُسر/ قصور القراءة». أما «العمى الكَلِمي» فقد نحته طبيب الأعصاب الألماني «أدولف كسماول». وفي العام 1917م وصف «جيمس هنشلود» المشكلة بـ «العمى الكلمي الخَلْقي». أما الرابطة الدولية لعسر القراءة والكتابة فتعرف المشكلة بأنها: «اضطراب له - في معظم الإحيان - صلة وراثية، ويتسبب في صعوبة تعلم ومعالجة اللغة.. استماعا وتعبيرا، ويتضمن مشكلات في النطق، والقراءة والكتابة والإملاء، والخط، وأحيانا في الرياضيات».

ويقدر أن 10% من تلاميذ المدارس البريطانية مصابون بالديسلكسيا، بينما تصل النسبة في مثيلاتها الأمريكية إلى ما بين 10 و15%. أما في الكويت - على سبيل المثال -فتقدر «جمعية الديسليكسيا» أن 6.3% من طلبة المدارس الابتدائية يعانون منه. ولا يعتبر الشخص «القاصر قرائياً» / أو «الديسلكسي»، متخلفاً عقلياً أو غبياً. فأغلبية المعُسرين قرائياً لديهم معدلات ذكاء متوسطة أو فوق المتوسطة، بل إن بعضهم قد تتعدى نسبة ذكائه المعدلات الطبيعية. وهم يتميزون عادة بأسلوب مختلف في مواجهة المشكلات وحلها. ويُذكر أن بعضاً من المشاهير قد عانوا أعراض «الديسلكسيا» ومنهم: «ليوناردو دافنشي»، و«وينستون تشرشل»، و«بابلو بيكاسو»، و«الكسندر غراهام بل»، و«ألبرت آينشتين»، و«محمد علي كلاي»، و«والت ديزني»، وغيرهم.

سيكولوجية ومهارات تعلم القراءة / الكتابة

اكتساب مهارتي القراءة والكتابة شكلت محورا مهماً من اهتمامات علم النفس المعرفي والتربوي. وثمة تأكيد متواتر على العلاقة الإيجابية بين التطور السليم للوعي النغمي والمعالجة النغمية لمعطيات كلامية، وبين اكتساب المهارات اللغويه الأكاديمية كالقراءة والكتابة.

فاللغة المنطوقة (الكلام) مهارة يتقنها الأطفال في بواكير أعمارهم (من عمر 2 - 3 سنوات)، فيمكنهم التحدث وفهم الجمل، فالدماغ لديه قدرة على تفسير وفهم اللغة المنطوقة. أما بالنسبة للقراءة والكتابة، فهما مهارتان أكثر تعقيدا في الكيفية التي تعالجان بهما.

فأدمغة عسيري القراءة تعتمد مناطق دماغية مختلفة في عملية القراءة عن تلك التي تعتمدها أدمغة القراء العاديون. فبينما يعتمد العاديون على الجهاز المسمىParietal - Temporo، والذي يحتوي على الالتفاف الزاوي (Angular Gyrus)، والجهاز التزامني العلوي (Superior temporal system) بالإضافة إلى المنطقه المسماة بـOccipito Temporal، وتضم أجزاء من القسم البصري التزامني، ومسئولة عن التعرف على الكلمات بعد الانكشاف عليها لمدة طويلة.

وهذه المناطق التي يعتمد عليها القراء العاديون هي غير متطورة بالشكل السليم لدى عسيري القراءة. فأدمغة الأخيرين تعتمد على منطقة الالتفاف المتدني الأمامي (Inferior frontal gyrus)، ومنها منطقة الاستخراج اللفظي بروكا (Broca). فعسيرو القراءة يعتمدون على المناطق الأمامية (Anterior region) من الجزء الأيسر من أدمغتهم، بسبب عدم نجاعة المناطق الخلفية (Posterior region) في هذا النصف.

إذاً فمشكلة عسر القراءة هي صعوبة تعلم نمائية تتعلق بالسبل التي يستقبل بها المخ المعلومات وينظمها ويرتبها ويخزنها ويتذكرها ويستعيدها، وهي غير ناتجة عن إعاقات نمائية عامة أو حسية. وغالباً ما يقرأ المعسرون قرائياً ببطء شديد و/أو تكون لديهم صعوبات كثيرة في التهجئة. وهو خلل محدد ذو أصل تركيبي يتميز بصعوبة تفكيك رموز الكلمة المنفردة، مما يعكس عدم كفاية في المعالجة الصوتية، وتحويل الكلمات المكتوبة إلى أصوات.

فعندما ينظر المرء إلى كتاب ويرى كلمة «سيارة»، فتنقل العين حروفها إلى الدماغ, ومن ثم يطابق الدماغ الحروف بالأصوات التي تمثلها. ثم يجمع الدماغ مختلف الأصوات المنفصلة إلى صوت واحد. ومن خلال استخدام الذاكرة طويلة المدى، يقوم بوضع صورة ذهنية لتلك الكلمة حتى تأتي شكل كلمة «سيارة». ويجد المتضررون من عسر القراءة صعوبة بالغة في هذه العملية.

فالعلاقة وثيقة بين القدرة على القراءة والإدراك الصوتي، ودقة قراءة المصابين بالديسلكسيا متوقفة على نوعية النظام الكتابي العربي المستخدم (مضبوطاً/ أو غير مضبوط بالشكل). وتشير البحوث في هذه الحالات إلى أنها لمصلحة غير المضبوط بالشكل في قراءة القطع، ولمصلحة المضبوط بالشكل في قراءة الكلمة المفردة.

ولاشك أن علاقة طردية قائمة بين اكتساب القراءة، وإتقان الكتابة والتهجئة الإملائية. وأن صعوبات الأولى ستنعكس حتماً على الثانية. فالتذكر المرموز (Implicit Memory) وصعوبة استخراج الشكل الصوري الملائم لكلمة ما هو نتيجة للفشل في مرحلة تذويت شكلها (Decoding) عندما قـُرأت أول مرة.

ثلاث مهارات

هناك ثلاث مهارات تحدد مدى القدرة على تعلم / عسر القراءة عند الأطفال وهي:

- التعرف على الحروف والوعي الصوتي بها خصوصاً عند استخدام الاختبارات التي تعالج جميع أو معظم مهارات تحليل الكلمة المنطوقة .Phonological Awareness

- التسمية السريعة Rapid Naming لمصفوفات من الحروف أو الأرقام أو الألوان أو الأشكال للتعرف على القدرة الحالية والتنبؤ بالقدرة المستقبلية عبر استخدام اختبارات سهلة تقوم على قياس سرعة المعالجة الذهنية Processing Speed في استرجاع مكونات لغوية.

- المفردات التعبيرية Expressive Vocabulary ويطلب من الطفل تسمية رسومات أو صور منفردة لأشياء متعددة.

أسباب تؤدي إلى عُسر القراءة

الأسباب المحددة التي تقف خلف هذه المشكلة مازالت قيد النقاش والجدل. لكن، عموماً، عُسر القراءة يُنْسَبُ إلى أسباب حيويِة (عائلية، وراثية، جينية)، وأخرى عصبية ونفسية (ضعف إدراكي غير ملحوظ ضمن مجال اللغة نتيجة لاختلاف خلقي في المخ عنه في الشخص العادي).

أما من ناحية الوراثة فهناك «عسر قراءة / ديسلكسيا وراثية» فالأطفال الذين لديهم أقارب من الدرجة الأولى مصابون بالديسلكسيا، أو اضطرابات مشابهة على مدى تاريخ العائلة معرضون أكثر من غيرهم للإصابة كذلك. وهناك «العامل العضوي»، حيث تلك المناطق من أدمغة الأطفال المصابين تتطور بصورة أبطأ عن الأطفال العاديين. ويتيح مشروع الجينوم (الأطلس الوراثي) البشري تحديد الكروموسومات المسئولة عن عسر القراءة. ويقول بعض الباحثين: إن العسر القرائي متصل باضطرابات نفسية، لكن تلك المشكلات في الغالب تنتج بسبب عسر القراءة لا العكس، لكن وطأتها ستضاعف أي مشكلة في التعلم.

ثمة عامل لغوي تربوي مؤثر تندرج تحته خصائص اللغة المنطوقة، ونظام الكتابة (قواعد الإملاء)، وطرق تعليم القراءة والكتابة. فالطريقة الصحيحة لتعليم القراءة هي تعليم الأطفال أسماء وأصوات الحروف أولاً لتكوين الأساس لقراءة أفضل. وبذلك سيكون الطفل قادراً على تعلم الكلمات الجديدة والتعرف على غير المألوفة، وعلى أداء أفضل في الإملاء.

وأخيرا هناك «عسر قراءة / ديسلكسيا مكتسبة» نتيجة تعرض الدماغ لإصابة أو أذى.

كيف يتم التعرف علي مظاهر عسر القراءة؟

قد تظهر أعراض الديسلكسيا في مرحلة الطفولة الباكرة، عندما يبدأ الطفل في خلط الكلمات، وينسى أسماء الأشياء المعروفة ويواجه مشكلات في التقفية أو بطئاً في تعلم الكلام. وهؤلاء الأطفال لا يعانون هذه الصعوبات لأن لديهم مشكلات بصرية أو سمعية، أو لأنهم أغبياء.

أعراض المرض حسب عمر الطفل:

- ما قبل دخول المدرسة: ومن خلال الدراسات على اللغات الأجنبية (كالإنجليزية)، لوحظ أن هناك أعراضا تظهر على الطفل مثل تأخر أو عدم الكلام بوضوح أو خلط الكلمات أو الجمل، صعوبة في تنفيذ بعض الأعمال مثل ارتداء الملابس بصورة طبيعية كربطة العنق وربط الحذاء واستعمال الأزرار، وطريقة استعمال الأدوات (كأن تقع من يده الأغراض أو عندما يحمل كوب الماء يهتز الكوب ويتناثر ما فيه)، وصعوبة التنسيق فيما يقوم به من إمساك الكرة أو رميها، صعوبة التركيز عند الاستماع للقصص.

- طفل المدرسة - سن التاسعة: صعوبة غير متوقعة في التحصيل المدرسي مع تحليهم بنفس قدرات الطلاب العاديين، فأحياناً لديهم بطء تحصيلي مقابل أوقات أخرى يظهرون فيها بحالة لا بأس بها. ومن أهم هذه الصعوبات الفشل في تعلم القراءة والكتابة والتهجئة، وتكرار واستمرار التبديل في الأرقام مثل 12 لرقم 21 أو (ف) بحرف (ق)، صعوبة تحديد الاتجاه يميناً أو شمالاً، صعوبة تعلم حروف الهجاء، وجداول الضرب وتذكر الأشياء المتتالية مثل أيام الأسبوع والأشهر وأرقام الهواتف. مع استمرار صعوبة ربط الأحذية ومسك الكرة أو رميها، صعوبة التركيز والمتابعة، صعوبة تنفيذ ومتابعة التعليمات سواء كتابة أو قراءة، وإما التذمر المؤدي إلى مشكلات سلوكية عدوانية أو الانطواء نتيجة الإحساس بالنقص.

- من سن التاسعة إلى الثانية عشرة: استمرار الأخطاء في القراءة، أخطاء إملائية غريبة كنسيان حروف من كلمات أو وضع الحروف في غير مكانها، واستغراق وقت أكثر من المتوسط في الكتابة والقراءة، والافتقار للنظام في المدرسة والبيت، وصعوبة نقل وكتابة المعلومات من السبورة في الفصل أو من الكتاب بصورة دقيقة، صعوبة في تذكر أو تحليل التعليمات الشفهية وفهمها، وازدياد ضعف الثقة بالنفس المؤدي إلى زيادة الحركة والفوضى أو الانطواء.

- بعد سن الثانية عشرة: تستمر هذه الأعراض فلاتزال القراءة غير دقيقة، والأخطاء الإملائية متكررة، وهناك صعوبة في التخطيط وكتابة المواضيع، وتخبط ملحوظ في تلقي التعليمات الشفوية أو الأرقام الهاتفية، وصعوبة شديدة في تعلم اللغة، وزيادة في قلة المثابرة وضعف الثقة بالنفس.

بينما تشير الدراسات العربية إلى أن مشكلة الديسلكسيا، إجمالاً، توجد عندما يظهر واحد او اكثر من الأعراض الآتية:

- صعوبة في معرفة أصوات الأحرف داخل الكلمات أو حذفها أو إضافتها (مثال: يقول قطتي دون «ق»).

- خلط الحروف أو الكلمات عند القراءة، أو الكتابة، فمثلا يقرأ/ يكتب كلمة (هل) بدلا من (له).

- صعوبة في معرفة تشابه نهايات أصوات الكلمات (السجع مثل: قطتي صغيرة، اسمها سميرة)، أو تشابه بدايات أصوات الكلمات (الجناس الاستهلالي مثل: نادي، نائم).

- عدم القدرة على التفريق بين الأصوات المتشابهة في النطق (مثل: «ث» و «ذ» أو «س» و «ز»).

- صعوبة في معرفة قواعد التهجئة وتذكرها.

- صعوبة في فهم أو تذكر أو تكرار ما يقرأه أو ما قيل له.

- صعوبة في معرفة الاتجاهات مكتوبة أو منطوقة، ومعرفة اتجاه اليمين واليسار.

- صعوبة في طرح أفكاره على الورق.

- سوء الخط وعدم القدرة على رسم الخطوط، وعدم القدرة على الرسم عموماً.

- قلة الاهتمام بالأنشطة الأساسية الخاصة بالقراءة والتهجئة والكتابة.

إن العديد من هذه المظاهر تظهر بدرجات متفاوته ومختلفة، وتتدرج من البسيطة إلى المتوسطة والشديدة، أو تكون الأعراض خطيرة ولكنها تظهر وتختفي. وتُحدد درجة الصعوبة بعد عملية التشخيص، ومن التوصيات المساعدة اللازمة.

وعادة ما تشخص الديسلكسيا على مرحلتين: الأولى بفحص مبسط، فيُسأل الطفل مجموعة من الأسئلة أو يعرض إلى اختبارات مختلفة. والثانية عن طريق التقويم عبر سلسلة اختبارات أكثر تعقيدا تهدف لتأكيد التشخيص، وتقويم نقاط القوة والضعف في مقدرة الطفل على التعلم ومستوى ذكائه.

الديسليكسيا: ما الحل؟

هناك عدة طرق تساعد الطفل على التغلب على صعوبات القراءة والكتابة. ويتوقف الأمر على شدة الحالة ووقت تشخيصها. فالتشخيص المبكر وتوفير برامج مسح لطلاب المرحلة التمهيدية (ماقبل المدرسة) وإعطاء الخدمات المساندة (سواء في المنزل أو المدرسة أو المركز) يساعد على اكتساب مهارات للتغلب على تلك الصعوبات.

- توفير مساندة عاطفية من قبل جميع أفراد الأسرة، وعدم مقارنة الطفل بأقرانه في محيط العائلة، وتفهم حالته ورفع ثقته بنفسه. وكذلك توفير اختصاصي علم نفس في مدارس الأطفال يهتم بمقاربة الضغوط والإحساس بالفشل والإحباط التي يمر بها هؤلاء الأطفال جراء عسر القراءة والكتابة لديهم.

- لذا ينبغي التوجه إلى المراكز المختصة حيث الخبراء في مجالات صعوبات التعلم، ولديهم استراتيجيات طرق التدريس اللازمة. فهناك العديد من المناهج التعليمية، وطرق تدريس لذوي عسر القراءة/الكتابة وتهدف هذه الإستراتيجيات إلى: «تعليم الطفل استعمال جميع حواسه»، و«التعلم المنظم، وإعطاء المعلومات بجرعات صغيرة»، و«التعلم التراكمي وبناء المهارات تدريجيا»، و«التعلم الشامل حيث المراجعة المتكررة، والتمكن من استخدام الحروف والأصوات الصحيحة والقواعد تلقائيا»، و«التعلم النشيط وعرض الدرس بأنشطة قصيرة ومتنوعة وشائقة»، و«التعليم بالصوتيات، حيث يتم التركيز على الأصوات التي تمثل الحروف بدلا عن الحروف ذاتها».

- معظم الأطفال المعسرين قرائياً يستفيدون من التدريس الذي من سماته أنه:

  • يؤكد على العلاقة بين أصوات الكلام وقواعده، وحروف الكتابة تأكيداً صريحاً.
  • يسمح بالمراجعة والوقت الكافي للممارسة العملية ومساعدة الأطفال على نطق الكلمات وقراءتها قراءة دقيقة، وإتمام المهام الخاصة بالتهجئة والكتابة.
  • يعتمد على تجزئة المهام المطالب بها الطفل إلى أجزاء صغيرة ومرتبة يسهل فهمها وحفظها والتعامل معها.
  • يستخدم الوسائط التي تعتمد على الحواس المتعددة مثل: الحواس البصرية والسمعية، والحركية، واللمسية، لتعزيز المعلومة.
  • يساعد هؤلاء الطلاب على تهيئة المكان المناسب للدراسة حيث إنهم يتحلون بذكاء عادي أو ما فوق العادي (لديهم قدرة من التفوق في مجالات معينة)، ولكنهم لا يستطيعون مواكبة التواصل الدراسي في المدارس العادية، وليسوا من فئة الطلاب الذين لديهم تخلف عقلي.
  • يتكيف مع وضعهم، ويوفر لهم كتباً ووسائط تعليمية شائقة تتدرج مستوياتها حسب أعمارهم، ومراحلهم الدراسية.

-------------------------------------------
هنا، عند مُنْحَدَرات التلال، أمام الغروب وفُوَّهَة الوقت،
قُرْبَ بساتينَ مقطوعةِ الظلِ،
نفعلُ ما يفعلُ السجناءُ،
وما يفعل العاطلون عن العمل:
نُرَبِّي الأملْ.

محمود درويش

 

 

ناصر أحمد سنة