إرهاب الدولة ومواجهته في أمريكا اللاتينية... مجتمعات الخوف

إرهاب الدولة ومواجهته في أمريكا اللاتينية... مجتمعات الخوف

المؤلفون: جوان إي كورادي
باتريشيا وايزفادجن
مانويل أنطونيو جاريتون

تألف هذا الكتاب من مساهمات مشتركة بين متخصصين في علوم الاجتماع والسياسة والنفس والدراسات الأدبية والإعلامية وحقوق الإنسان، نستهدف تأسيس نظرية ديمقراطية في العلوم السياسية تصلح لدراسة المجتمع المدني والحياة السياسية "لثقافة الخوف" التي نمت في عدد من دول أمريكا الجنوبية في السبعينيات.

فعلما الاجتماع والسياسة في أمريكا وغرب أوربا لا يعترفان حتى الآن بوجود خوف اجتماعي، ولا يعرفان الخوف إلا كانفعال أو إحساس فردي، وظاهرة تدخل في إطار علم النفس ولا تدخل في الإطار المعروف لعلم الاجتماع، وذلك لأن الديمقراطيات الغربية لديها الكثير من التجارب في لا مركزية السلطة والحكم المحلي والنشاط المدني والتحرر الديني والطائفي وحرية الانتقال الجغرافي وسرعة الحراك الاجتماعي، واستقرار أداء المؤسسات النيابية، وقدر من احترام حقوق الإنسان.

كل ذلك لا ينتج بالطبع ظاهرة الخوف على المستوى الاجتماعي، ومع ذلك، فإن هذه الظاهرة موجودة في مناطق كثيرة من العلم حيث سيطرت الديكتاتوريات من كل نوع على مقدرات شعوب عديدة منذ الحرب العالمية الثانية، وعاشت الكثير من الشعوب عديدة منذ الحرب العالمية الثانية، وعاشت الكثير من الشعوب هذفا للعنف والوحشية والاستبداد وانتهاك القيم والحقوق الاجتماعية، وما نجم عن ذلك من عدم اليقين وانعدام الأمن والثقة بالنفس، وفي هذا المناخ يكون الخوف أبرز سمات السلوك الاجتماعي.

إدراك الخوف

وفي هذا الإطار، يدور الكتاب الذي يشكل مساهمة في فهم الإدراك الاجتماعي والسياسي للخوف في واحدة من أكثر مناطق العالم أهمية، وهي المخروط الجنوبي لأمريكا الجنوبية في السبعينيات، حيث حكمت الأنظمة العسكرية كلاً من الأرجنتين والبرازيل وشيلي والأورجواي، وبين الستينيات والثمانينيات أعادت الأنظمة العسكرية الحاكمة في هذه البلدان تشكيل البنيان الاجتماعي، تغلغل إرهاب الدولة في المجتمع، وقضى على المؤسسات المدنية، وانعدم الأمن.

ويركز الكتاب جهداً طويل المدى، بدأ عام 1980 تحت رعاية مجلس أبحاث علم الاجتماع في نيويورك، وموضوعه الرئيسي "الخوف السياسي"، ينطلق من نتائج بحث في الأرجنتين ثم عام 1979، حيث سادت عمليات الاختطاف والتعذيب والاختفاء، والإعدام العشوائي والجماعي، وقام بهذا البحث العالم السياسي الأرجنتيني "جوليرمو أو دونيل" وعالمه النفس البرازيلية "سيسيليا جاللي"، التقوا خلاله أعدادا واسعة من المنتمين للطبقة الوسطى الأرجنتينية، لمتابعة الدوافع المحركة لثقافة الخوف.

ثم فيما بين عامي 1982 و 1984، قام باحثو أمريكا وأمريكا اللاتينية وقادة حركات حقوق الإنسان من خلال مجلس أبحاث علم الاجتماع، بمناقشة طبيعة القوى المحركة لإرهاب الدولة، والخوف السياسي، والجهود المبذولة من المجتمع المدني لمواجهة تأثيرات الإرهاب والخوف.

وفي هذا الإطار، وبينما الوضع السياسي في المخروط الجنوبي يتكشف إلى حد ما، شرع الدارسون في تلك البلدان بدراسات عملية ونظرية في الموضوع نفسه، وهكذا نما اهتمام إقليمي باكتشاف أثر الحكم المتسلط على المجتمع المدني، دفع مجلس أبحاث علم الاجتماع لعقد مؤتمر دولي في "بيونس أيريس" عن ثقافة الخوف خلال يونيو 1985.

وتشكل فصول هذا الكتاب المنتج النهائي لهذه العمليات الطويلة التي قاموا خلالها باستكشاف الماضي والحاضر، وفهم القوى المحركة للخوف من خلال فحص ضحاياه، وكذلك استشكاف بواعثة السياسة والاجتماعية والموروثات الثقافية، وتولده من خلال إرهاب الدولة، الوسائل التي يواجه بها الشعوب للتغلب على الخوف في حياتهم اليومية.

وبرغم بشاعة الموضوع، فإنه أثمر نتائج تحليلية مهمة، فتحت الآفاق أمام الباحثين من تقريب الفجوة بين النظريات الاجتماعية وبين التفاعلات الاجتماعية في الحياة اليومية.

ويستهدف هذا البحث الجماعي الذي يتضمنه الكتاب إدراك تجربة الخوف بأبعادها المختلفة ولإطاره المؤسس ودوره في تولد الخوف وسيادته في المجتمع، وسيكولوجيا الخوف والآثار الناجمة عن سواء على ضحاياه أو مرتكبيه.

أهداف أربعة

وهناك أربعة أهداف كبرى تغلبت على أبحاث الكتاب: أولاً: تحديد ماهية ثقافة الخوف، ثانيا: دراسة أوجه الاختلاف والشبه في عمليات القمع في الكيانات السياسية المختلفة التي يمكن القول بأن ثقافة الخوف قائمة بها، ثالثا: تحليل أوجه الشبه والاختلاف في تجليات الخوف ومراحل تطوره، والأهم من ذلك ظروف تراجعة والقضاء عليه، وأخيراً تحديد الميراث السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسيكولوجي الذي خلفه الخوف لدى مرتكبيه والقائمين عليه وأيضاً لدى ضحاياه ورعايا الدولة. ويتكون الكتاب من ثلاثة أجزاء، الجزء الأول، يحاول فيه الخبير السياسي "مانويل أنطونيو جاريتون"، وعالم الاجتماع "نوربرت ليتشنر" تحديد علاقة الخوف بالسمات الخاصة المميزة للديكتاتوريات العسكرية التي تسيدت المخروط الجنوبي في السبعينيات والثمانينيات، فيفتتح "جاريتون" الكتاب بفصل يطرح فيه دراسة طبيعة الخوف وبزوغه وتطوره في المخروط الجنوبي، ويميز بين الأطوار المختلفة لتطور الخوف، من الطور القمعي السائد، وحتى الشيخوخة والعجز والإنهيار، وفي كل حالة يدرس الأشكال المسيطرة للخوف وأيضاً أشكال مواجهته كما يناقش "جاريتون" ميراث الخوف والخطوات التي اتخذت للتغلب على هذا الإرث.

وتأسيسا على المخطط التحليلي في الجزء الأول، يمضي الجزء الثاني لدراسة الوسائل الخاصة بغرس الخوف في أي نظام فاشي، وأثره سواء على ضحاياه أو على صانعيه.

ويفتتح هذا الجزء "باتريشيا وايز فادجن" بدراسة عن أجهزة القمع في البلدان الأربعة "موضوع الدراسة"، ومبررات العسكر للاستيلاء على الحكم، وخلصت إلى أن القمع يزداد قسوة كلما ضعفت المعارضة المسلحة، كما تحلل أيديولوجيات وممارسات الحرب الداخلية التي شنتها الأنظمة العسكرية في البلدان الأربعة، والتحول في مؤسسات تلك الدول، وقمع المجتمع المدني، هذا بينما تتعامل كل فصول الجزء الثاني من الكتاب مع الثمن الإنساني لتجارة الخوف، فيكشف المؤلفون الأبعاد الثقافية والنفسية للخوف الناجم عن القمع السياسي. وتتوقف "صوفيا وإليزابيت ويوجينيا" في فصلهن عند خيرات إحدى المنظمات التي عملت مع المنفييين وضحايا التعذيب في شيلي، والخوف إزاء الاعتقال والتعذيب والنفي، وقد من العديد من الحالات التي لحقت بها أضرار نفسية مستديمة نتيجة للقمع.

تعزيز الخوف

وفي فصل آخر من الجزء الثاني يدرس "جوان ريال" ثلاثة موضوعات:

قابلية المجتمع في الأورجواي للسقوط وحيل السلطة الفاشية، والعوامل التي تولد ثقافة الخوف، وأيضاً العوامل التي تقضي عليها، حيث تميزات الأورجواي بندرة عمليات الاغتيال، والسجن لسنوات طيلة بهدف تدمير المسجونين، وتعزز الخوف بقوة أيضاً خارج السجون، حيث نجح النظام في خلق ما عرف بالمجتمع الصامت والمجزأ وساد الإحساس بعدم الأمن واللاجدوى.

هذا بينما حاولت "جين فرانكو" وضع أسس نظرية للخوف والقمع في دول المخروط الجنوبي. ويتميز الجزء الثالث من الكتاب بالشمولية، لأنه يتعامل مع أكثر القضايا جذباً "من هو المحصن من الخوف؟ وما العمليات التي تؤدي بالبعض للتغلب على الخوف؟ وما هي أشكال تطور المقاومة ضد مجتمع الخوف؟

وفيه ركز "جوان دازين" و "بيترايز ساولو" الأضواء على الأهمية الخاصة للإنتاج الأدبي كمؤشر للتغيرات التي تحدث فمن يعيشون للتغيرات التي تحدث فمن يعيشون في ظل الخوف، وبالتالي فإن الأدب مصدر مهم في دراسة ثقافة الخوف. فيدرسان التغيرات التي جرت في المذاهب الأدبية والفنية، والعلاقة بين النصوص الأدبية والأحاديث الرسمية والمعارضة والتغيرات في الأوضاع الاجتماعية للكتاب، والعلاقة بين الكتاب والقراء، وأثر الرقابة الرسمية ومدى أهمية الرقابة الذاتية، والمقارنة بين الإنتاج الأدبي في الداخل والإنتاج الأدبي لمن هم في المنفى الخارجي، وانعكاس الأوضاع المتوترة والخطرة على حجم وكثافة إنتاج المثقفين والأدباء والكتاب. ويتضمن الجزء الثالث من الكتاب دراسات أخرى تهتم أساسا باكتشاف القوى الحيوية التي تولد الإرادة في النفوس للتغلب على الخوف، فيقدم "جافير مارتينيز" دراسة عن حركة الاحتجاج في تشيلي، وسوف يلاحظ القارئ أن البحث الإمبريقي لمارتينيز يتفق تماما في تناوله مع الإطار النظري المقدم من "جوان كورادي" في الفصل الأخير.

من الديكتاتورية للدميقراطية

كما يدرس "إميليو ميجنون" الدوافع الإنسانية التي أسفرت عن الاندفاع لقلب الأوضاع القائمة في ظل الديكتاتورية في الأرجنتين واستعادة الديمقراطية، وقبل ذلك الظروف التي أدت إلى استئناف القوى الديمقراطية لنشاطها وفاعليتها.

وفي بحثه، يشرح "هوجو فرو هلينج" خبرة منظمات حقوق الإنسان في شيلي في مواجهة نظام "بينوشيه" الاستبدادي، ويؤكد أهمية تلك المنظمات وقدرتها على كسر احتكار الدولة للإعلام ولتقديم المساعدات المادية والقانونية لدعم جهود سكان الريف خاصة في المقاومة، وأسفر نشاطهم عن تقويض شرعية النظام وإعادة بناء نشاط سياسي منظم.

وعلى الدرب نفسه تسير دارسة "ساوبر ناردو" و"ديادما" و"ماريا موريرا ألفيس" عن تجربة النقابات المهنية في مواجهة النظام العسكري ي البرازيل، بينما تحلل "كارينا بريللي" عمليات تراجع الخوف، وتطور المقاومة المنظمة في الأورجواي، كشفت فيها عن قدرة طلاب المرحلة الثانوية على كسر هيبة النظام العسكري بأساليب مبتكرة لم تعتدها النقابات المهنية أو المنظمات السياسية الأخرى.

وفي النهاية يخلص الكتاب إلى أن الأنظمة القمعية التي تفرض على المدنيين نموذجا محددا للحياة، نجحت فقط في تدمير المجتمع الحي وبنيته الأخلاقية دون خلق بدائل قابلة للحياة والنمو، وقد أسفر فشلهم عن خروجهم من السلطة، ثم ينتهي الكتاب بإطار فكري ونظري عن عومل إخفاق الأنظمة الاستبدادية وكيفية مواجهتها.

 

خالد الفيشاوي

 
  




غلاف الكتاب