اللغة حياة

اللغة حياة

التوهّم اللغويّ خطأ أو شذوذ

أدرج أحد كبار اللغويّين المجمعيّين، في حاشية كتاب له في النحو، قاعدة العطف على التوهّم، قائلاً بصحّة هذا العطف، حاضّاً، مع ذلك، على تحاشيه «لما فيه من الخلط» والالتواء. وقد حصر كلامه بجرّ الاسم المعطوف على خبر ليس وما هو بمعناها، مثل «ما الحجازيّة»، ولو كان ذلك الخبر منصوباً؛ وذلك لتوهّم المستعمِل دخول الباء الزائدة على ذلك الخبر، نحو: ليس الجوُّ غائماً ولا ممطرٍ، وما الشِعرُ تصريحاً ولا إبهامٍ.

والحقيقة أنّ هذا التوهّم خطأ اخترعه النحاة، ولا يجوز اعتباره قاعدة. والتوهّم المقصود هنا ليس ذاك الذي يعني، في مصطلح النحاة، التقدير أو تصوّر التشابه أو التمثيلَ، ولا معاملة الحرف الزائد أو المتحوّل معاملة الأصليّ، وهو ما أقرّه مجمع اللغة العربيّة بالقاهرة، بل الظنّ المجافي للواقع. لقد بنى سيبويه قاعدة جرّ المعطوف لتوهّم وجود الباء في المعطوف عليه، على ثلاثة أبيات، أحدها لزهير، وهو:

بدا ليَ أنّي لستُ مُدْرِكَ ما مضى
ولا سابِقاً شَيْئاً وإنْ كانَ جائيا

وقد استعمل سيبويه هذا البيت مرّات متعدّدة: في المرّة الأولى جعل كلمة «سابق» منصوبة، وذلك حين تحدّث عن جريان اسم الفاعل مجرى الفعل المضارع في المعنى - وهذا النصب هو الوجه القياسيّ -؛ لكنّه، عند تناوله العطف بالواو، اعتمد رواية أخرى للبيت هي «ولا سابقٍ» بجرّ المعطوف، زاعماً أنّ الكلام محمول على توهّم وجود الباء في «مدرك»، ثم مضى يقيس على هذه الرواية في سائر المواضع، وإن أكّد أنّ الجرّ وجه بعيد. وقد نفى البغداديّ في «الخزانة» جواز القياس على ذلك. علماً أنّ في ديوان زهير روايتين هما: «ولا مُدْرِكي شيءٌ إذا كانَ جائيا»، و: «ولا فاتَني شيءٌ»؛ وكلاهما أصحّ معنىً من رواية سيبويه.

وثاني الأبيات هو ما تنازعه الفَرَزْدَق والأَخْوَص (بالخاء) الرياحيّ، وهو:

مَشائيمُ ليسوا مُصلحينَ عَشِيرةً
ولا ناعِباً إلاّ بِبَيْنٍ غُرابُها

وقد رواه سيبويه بنصب «ناعباً»، في الموضع نفسه الذي روى فيه «سابقاً» بالنصب؛ ثمّ عاد فرواه بالجرّ في موضعين جرّ فيهما كلمة «سابق» أيضاً. لكن المُبرِّد خالفه الرأي ولم يجز إلاّ النصب؛ لأنّ حرف الجرّ لا يُضمَر.

وثالثها للفَرَزْدَق، وهو:

وما زُرْتُ سَلمى أنْ تكونَ حَبيبةً
إليَّ ولا دَيْنٍ بِها أنا طالِبُهْ

حيث جُرّت كلمة «دَيْن» على توهّم لام الجرّ قبل «أنْ»؛ وهو أمر يُستبعد وقوع الفرَزْدَق فيه؛ لأنّ الرفع والنصب صحيحان ولا يحوجان إلى توهّم.

وهكذا نجد أنّ سيبويه روى البيتين الأوّلين بالنصب، ابتداء، ثمّ رواهما بالجرّ عندما احتاج إلى شاهد على توهّم الباء؛ كما أنّ روايتي الديوان لبيت زهير الأوّل أصحّ معنى، وتستبعدان احتمال التوهّم. أما البيت الثالث فلا ضرورة فيه لركوب مركب التوهّم، وهو لا يجوز على مثل الفَرَزْدَق. زدْ على ذلك أنّ سيبويه أكّد في الجزء الرابع من كتابه أنّ الجرّ في بيت الفرزدق الأوّل غلط.

وممّا أدخله سيبويه في ذلك توهّم «أنْ» مضمرة بعد كاد، والنصب بها، مستشهداً بيتاً لعامر بن جُوَيْن الطائيّ، وقد رواه هو وسائر النحاة بصورة سقيمة، ورواه الأصفهانيّ في «الأغاني» منسوباً إلى امرئ القيس، على هذه الصورة المقبولة:

أردتُ بِها فَتْكاً فلمْ أَرْتَمِضْ لَهُ
وَنَهْنَهْتُ نَفْسي بعدما كدتُ أَفْعَلَهْ

يعني: كدتُ أنْ أفعلَه. وهو بيت يرد في قصة امرئ القيس عند سعيه للثأر بأبيه؛ وشعر القصص محلّ شكّ، وقصة امرئ القيس مشكوك فيها وفي الشعر المرويّ في أثنائها أصلاً؛ وممّا يزيد هذا الشكّ نسبةُ البيت نفسه لامرئ القيس ولخصمه عامر الذي لم يُروَ له إلاّ نزر يسير التبس بشعر الخنساء. ومن التوهّم الذي ذكره سيبويه عطف الفعل المرفوع على المجزوم في قول الأَعْشى:

إنْ تَرْكَبوا فرُكوبُ الخيلِ عادتُنا
أوْ تَنْـزِلونَ فإنّا مَعْشَرٌ نُزُلُ

حيث عُطف «تنـزلون» على «تركبوا»، على توهّم الاستفهام «أتركبون؟»؛ لكن رواية الشطر الأول في الديوان مختلفة، وتقول: « قالوا الرُكوبُ، فَقُلْنا تلك عادتُنا» وهي لا تحوج إلى افتراض التوهّم.

وممّا جعله توهّماً الجزم في قول الآية الكريمة: «لَوْلا أَخَّرْتَني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَقَ وأَكُنْ مِنَ الصالِحِينَ»، حيث افترض أنّ ثمّة توهّماً بكون فعل «أصَّدّق» مجرّداً من الفاء، مجزوماً بجواب الطلب، وأنّ «أَكُنْ» معطوف عليه. ولعلّ سيبويه يعني أنّ القرّاء هم المتوهّمون هنا، بقرينة وجود قراءة أخرى برفع «أَكُون»، هي قراءة أبي عَمْرو بن العَلاء وابن مُحَيْصِن السَهْميّ ومُجاهِد المَخْزوميّ، وهي أدعى للاطمئنان.

ومن أعقد الكلام على التوهّم توجيه ابن جنيّ لقول طَرَفة: «وَسَدِيفٍ حِينَ هاجَ الصِنَّبِرْ»؛ فعنده أنّ أصل «صِنَّبِر»، أي بَرْد، هو «صِنَّبْرُ»، لكنّ الشاعر أضاف الظرف «حين» إلى الفعل، وقدّر مكان ذلك الفعل مصدره، ثم توهّم أنّ الصنبر مضاف إلى ذلك المصدر، فنقل كسرة الراء إلى الباء قبلها لاحتياجه إلى تلك الحركة! والحقيقة أنّ تبديل الحركات جاء لضرورة القافية والوزن ليس إلاّ، وإن كان ذلك التوجيه لا يروق ابن جنيّ.

وممّا ذكره ابن جني في التوهّم رأي أبي علي الفارسيّ في نصب «يوم» في الآية الكريمة: «أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْروفاً عَنْهُمْ» إذ علّق الظرف بالوهْم، أي بفعل مُتوهَّم، لعلّه يريد فعلاً مقدّراً يفسّره الظاهر.

وفي الصرف لا نجد للتوهّم إلاّ معنى التخيّل لكلمة افتراضية لا تُستعمل، أو لدلالة صوتيّة لكلمة ما، أو إشباع الكسرة وجعلها ياء، أو افتراض وجود حركة فوق حرف العلّة أو قبله، أو عدم ردّ حرف العلّة في الجمع إلى أصله، أو الجمع على غير قياس بحيث يأتي المفرد والجمع بلفظ واحد كما في فُلك، أو الخلط بين الصفة واسم الذات. ومن التوهّم الذي عدّه ابن جني خطأ، اشتقاق فعل ضَفَن يضفِن من الاسم المزيد ضَيْفَنٌ (زيدت النون)، ومعناه الضيف المصاحِب لضيف آخر. ونعتقد أنّ هذا الاسم والفعل المشتقّ منه من الألفاظ المماتة.

والخلاصة أنّ التوهّم في النحو غلط، وغير قياسي، ووجه بعيد، وقاعدته مؤسّسة على أبيات مصحّفة أو منحولة، على الأرجح، لا تحوج أصولها إلى تأويل؛ وفي بعض مزاعم التوهّم تمحّل. ولذلك لا يُسمح باعتبار التوهّم قاعدة، إلاّ إذا كان يعني التقدير أو ما أشبهه. أمّا في الصرف فالتوهّم لا يؤثّر في قواعد الاشتقاق إلاّ نادراً، أو بطريقة مغلوطة لا يقاس عليها.

 

 

مصطفى الجوزو