جمال العربية

جمال العربية

في الذكرى الستين لرحيله:
رائد التجديد شاعر القطرين خليل مطران

عن سبعة وسبعين عاماً، وفي عام 1949 رحل شاعر القطرين خليل مطران، الذي اكتسب لقبه من انتمائه إلى وطنه الأول: الشام وانتمائه إلى وطنه الثاني الذي عاش فيه الجزء الأكبر من حياته: مصر. وبين لبنان ومصر كانت سنوات قضاها الشاعر في فرنسا، ينهل من الثقافة الفرنسية والأدب الفرنسي: شعره ونثره، ويعود محملاً ببذور التجديد وتكويناته في عقله وقلبه. لكنه كان تجديداً هادئاً على طريقة مطران، ليس فيه تطرف أو غُلوّ، أو رغبة في الخروج الجامح على القيم والتقاليد الأدبية.

وفي مقال له عنوانه: «أريد للشعر العربي» يقول خليل مطران: «أردت التجديد في الشعر، وبذلت فيه ما بذلت من جهد عن عقيدة راسخة في نفسي، وهي أنه في الشعر كما في النثر شروط لبقاء اللغة حية نامية.

على أنني اضطررت، مراعاة للأحوال التي حفّت بها نشأتي، ألا أفاجئ الناس بكل ما كان يجيش بخاطري، خصوصًا ألا أفاجئهم بالصورة التي كنت أوثرها للتعبير لو كنت طليقاً، فجاريت العتيق في الصورة بقدر ما وسعه جهدي، وتضلعي من الأصول واطلاعي على مخلفات الفصحاء، وتحررت منه، وأنا في الظاهر أتابعه بنوع خاص في الوصف والتصوير ومتابعة العرض. وبهذه الطريقة مهدت للجديد قبولاً في دوائر كانت ضيقة، ثم أخذت تتسع إلى ما وراء ظني. وستستمر في الاتساع بحكم العصر وحاجاته، والعلم ومقتضياته، والفن ومستحدثاته».

ثم يقول مطران: «والآن وبعد أن علت سنّي، وطال مدى اختباري أريد التجديد أكثر مما أردته في كل آن. أريده ولا أكفيه، ولكنني أشيم له بوارق تدل على ملامحه الكبرى من وراء مجهودات طائفة تتكاثر يوماً بعد يوم، وطائفة من النابهين الجارين على آثارهم في مصر وفي سائر الوطن العربي».

وفي تقديمه للجزء الثاني من ديوانه يعود مطران مرة ثانية إلى بيان حقيقة دعوته إلى التجديد، واتكائه على أصول اللغة واستيحاء الفطرة الصحيحة مؤكداً أن هدفه الأساسيّ هو إحياء اللغة وإنماؤها، قائلاً: «أتابع السابقين في الاحتفاظ بأصول اللغة، وعدم التفريط فيها، واستيحاء الفطرة الصحيحة، وأتوسع في مذاهب البيان مجاراة لما اقتضاه العصر، كما فعل العرب من قبلي، أما الأمنية الكبرى التي كانت تجيش بي، فهي أن أدخل كل جديد في شعرنا العربي بحيث لا ينكر، وأن أستطيع أن أقنع الجامدين بأن لغتنا أم اللغات إذا خُدمت حقَّ خدمتها، ففيها ضروب الكفاية لتجاري كل لغة قديمة وحديثة في التعبير عن الدقائق والجلائل من أغراض الفنون».

وهو موقف نتأمل صداه عمليّاً في كثير من قصائد شاعر القطرين، وبخاصة في قصيدته: «الشاعر يوقع على وتره الأخير لحن الرضى وسكينة النفس»، وهو يقول:

ماذا يريد الشعر مني؟
أخنى عليه عُلوُّ سنٍّي!
هل كان ما ذهبت به الأيا
مُ، من أدبي وفـنّي؟
أحسنْتُ ظني، والليـا
لي لم توافق حسن ظنّي
ورجعت من سوق عرضْـ
تُ بضاعـتي فيها بغبْنِ
أفكـان ذلك ذَنْبَهـا
أم كان ذنبي؟ لا تسلْني!
خمدت بيَ النـارُ التي
رفعت بعين العصر شأني
هي شعلة كانت تثيـ
رُ قريحتي وتُنير ذهني
أيامَ لي طربٌ وقَلـْ
ـبي موقع السّهم المُرنِّ
لا تندبنّي للعظـا
ئم بعدها، لا تندبنِّي!
يا من يُحمّلني تكـا
ليف الشبابِ ارفقْ بوهْني
زمني تولّـى والألـى
عمروه من صحْبي، فدعني
ولَّى الربيع وجفَّ عـو
دي، وانقضى عهد التغنّي
وعدِمتُ لذّاتِ الرؤى
وعدمتُ لذات التمني
إني ختمتُ العيش في
وادي المخيلة، أو كأني
فإذا بدت لك همة
من دائبٍ يشْقى ويبني
فعذيرهُ خوف التشبـّ
ـه بالرحى من غير طِحْن
ويكـدّ كـدَّّ النَّحـْ
ـل وهي لغيرها تسعى وتجني
أرضى بأن تُقضـى مُنـًى
للآخـرين وإن عدتْني
أُخلي مكاني للذي
يسمو إليه بغير حزْنِ
ولقد أهشُّ لمن يطا
ولني، وإن يك تحت ضِبْني
إنْ الحقيقة، حين نبـْ
ـلغُها، لَتكفينا وتُغْني
فيها الحلالُ بكلِّ معْنا
هُ، وفيها كلُّ حُسْنِ
تتشابهُ التركاتُ في
أنّا نُعدُّ لها ونَقْني
فإذا تولّيْنا فهلْ
أسماؤنا منّا ستُغْني؟
إنْ نبْقَ والأرواحُ قد
ذهبت، فما الأسماءُ تعْني؟
لو لم يكن في ذُكرةِ الـ
أحبابِ نفع لم يشُقْني
أما الجزاءُ فإنِّيَ اسـْْ
ـتوفيتُ منه فوق وزني
في الحاضر استسلفت ما
سيقولهُ التالون عنِّي

في مواجهة شعر البارودي وشوقي وحافظ إبراهيم وغيرهم، يُمثل شعر خليل مطران ريادة للمدرسة الجديدة في الشعر العربي المعاصر، وهي مدرسة تمتدّ كما يقول الدكتور محمد مندور في جماعة أبولو من خلال أحمد زكي أبو شادي وإبراهيم ناجي وعلي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل ومن سار على دربهم من الشعراء الشباب في مصر والعالم العربي.

من هنا فقد اعتبره كثير من الدارسين شاعراً رومانتيكيّاً أو رومانسيّاً، في شعره احتفال عظيم بالصياغة الشعرية. هذا النفس الرومانسي أو الرومانتيكي نجده في قصيدة لمطران عنوانها «في تشييع جنازة» يقول في تقديمها: خرجت صباحاً من منزلي بمصر، وإذا نعش مكسوٌّ بالبياض مُحلّى بالزهر يتبعه رهط من الفتيان الإفرنج، فسألت أحدهم عن ذلك الفقيد فأجابني أنه شاب انتحر غراماً فخرجوا يشيعونه فشيعتُه معهم على غير معرفة به وطفقت أرثيه بهذه الأبيات:

قرَّبتْهُ فما ارتوى
وَجَفَتْهُ فما ارعوى
غادةً من سعى إلى
غايةٍ عندها غوى
جُنَّ فيها وقبله
جُنَّ قيسٌ من الهوى
وقضى خالد النّوى
يتداوى من النّوى
فدفنّاه، برّد الغيْـ
ـثُ، قبراً به ثوى
من قضى هكذا شهيـ
ـداً فمن أهلنا هُوَا
كلُّ ناجٍ إلى مدىً
لاحق بالذي ثوى
فالشجاع الذي مضى
قبلنا يحملُ الِّلوا
والجريءُ الذي اقتفى
والبطيءُ الذي نَوى

ويعلق الدكتور محمد مندور على هذه القصيدة بقوله: «فأىُّ رومانتيكية أعمق من هذه التي تتلمّس السبيل للتغنّي بآلام البشر ومحنهم والعطف عليهم والمشاركة في بلواهم، بل وتبرير ما يسوق إليه الغرام المبرح الفاشل من جنون الانتحار. وكأنّ في هذه القصيدة نَفساً من آلام فرتر وما يشبهها من مآسي الغرام. والشاعر هنا لا يرثي صديقاً عرفه أو معنىً سياسيّاً أو اجتماعيّاً لمسه في فقيد، وإنما هي قصة استجاب الشاعر إلى روحها التي تتجاوب مع روحه الفياضة بمعاني الرومانتيكية». وهي الروح نفسها التي نلمسها في قصيدة أخرى عنوانها «الأسد الباكي» قالها مطران بعد أن حلّت به نكبة مالية عنيفة، جعلته يعتزل الناس والمجتمع، ويعتكف في بيته بعد أن هجر القاهرة إلى ضاحية عين شمس، وهو يقول:

دعوتك أستشفي إليك فوافني
على غير علمٍ منك أنك لي آسي
فإن ترني والحزن ملء جوانحي
أداريه فليغررك بِشري وإيناسي
وكم في فؤادي من جراحٍ ثخينةٍِ
يُحجّبها بُردايَ عن أعين الناسِ
إلى «عين شمسٍ» قد لجأتُ وحاجتي
طلاقة جوٍّ لم يُدنَّس بأرجاسِ
أُسرّي همومي بانفراديَ آمناً
مكائد واشٍ أو نمائم دسّاسِ
يخالون أني في متاعٍ حيالها
وأيّ متاعٍ في جوارٍ لديماسِ
أرى روضة لكنها روضة الرّدى
وأصغي وما في مسمعي غير وسواسِ
وأنظر من حولي مُشاةً ورُكّباً
على مُزجياتٍ من دخانٍ وأفراسِ
كأنيَ في رؤيا يزفُّ الأسى بها
طوائف جِنٍّ في مواكب أعراسِ

ولا يمكن ترْك فضاء العالم الشعري لخليل مطران قبل أن نتوقف أمام مقطوعتين متوهجتين بحسّه النضالي والثوري المفعم بروح وطنية وقومية عارمة. الأولى أبدعها عندما أحسّ بعنف اضطهاد الأحرار وتسلط قانون المطبوعات على الأفكار، فجاءت في صيغة التحدي وهو يقول:

شرّدوا أخيارها بحرًا وبَرًّا
واقتلوا أحرارها حُرّاً فحُرّاً
إنما الصالح يبقى صالحًا
آخر الدهر ويبقى الشرُّ شرًّا
كسِّروا الأقلام هل تكسيرُها
يمنع الأيديَ أن تنقش صخرا؟
قطّعوا الأيديَ.. هل تقطيعها
يمنعُ الأعينَ أن تنظر شذْرا؟
أطفئوا الأعين هل إطفاؤها
يمنع الأنفاسَ أن تصعد زفْرا؟
أخمدوا الأنفاسَ، هذا جهدُكم
وبه منجاتُنا منكم، فشكرا!

وعندما هُدّد خليل مطران بالنفي خارج مصر نتيجة لمقطوعة كتبها عنوانها «مقاطعة» كان ردّه على التهديد بالنفي حاسماً غير هياب وهو يقول:

أنا لا أخافُ ولا أُرجّي
فرسي مُؤهَّبة وسرْجي
فإذا نبا بيَ متْنُ بَـرٍّ
فالمطيةُ بطنُ لُجِّ
لا قول غير الحقّ لي
قول وهذا النهجُ نهجي
الوعد والإبعادُ ما
كانا لديَّ طريق فلْجِ

ونختم اللقاء مع جمال العربية وروعة بيانها في شعر خليل مطران، بقصيدته التي أبدعها في الحنين إلى موطن نشأته وصباه في «حيفا» حين زارها عام 1927 بعد غياب طويل:

يا بلادي إليك يهفو فؤادي
كلَّ آنٍ شوقاً، ويلتاعُ وجْدا
كلّما اشتدت الصروف بأهليـ
ـكِ، نما ذلك الهوى واستبدّا
كيف لا توهب الحياة فدي شعْـ
ـبٍ، كهذا الشعب العزيز المُفدّى؟
وطني الباكيَ الحزين، الذي نشـْ
ـربُ فيه أسًى ونَشْرَقُ سُهدا
إن تُجزّأ من وحدةٍ، لم يكن حدُّ
كَ في القلب غير ما كان حدَّا
كيف يبني ذاك المُفرّقُ حِسًّا
في بني الأم، بين روحيْن سدَّا؟
من ذُرا «كرملٍ» إلى «حلبٍ» ألفيْـ
ـتُ قُرباً ما كان يُحسبُ بُعدا
وطني! لو ببعُدنا عنك يوماً
بيع خلدُ النعيم، لم نَشْرِ خلُدا

وهذا البيت الأخير يذكرنا بيت شوقي المشهور في سينيته الأندلسية، التي تسبق قصيدة مطران بسنوات عدة، عندما قال:

وطني لو شُغلتُ بالخلد عنه
نازعتْني إليه في الخلد نفسي!

ثم يقول مطران:

إنما البؤس عنك أقصى، فكلٌّ
آدم إن بَكَى وآلمُ فقْدا
كان كلٌّ في الدين يُوهي أخاهُ
فوَهىَ الشعبُ والعدوُّ استبدَّا!

 

 

فاروق شوشة