«دروز بلجراد» لربيع جابر.. نص مؤلم يعيد للبوكر بريقها المفقود

 «دروز بلجراد» لربيع جابر.. نص مؤلم يعيد للبوكر بريقها المفقود
        

          في روايته الجديدة «دروز بلجراد» التي حازت جائزة البوكر في نسختها العربية بدورتها الأخيرة، والصادرة عن دار الآداب، ينتقل بنا الكاتب اللبناني ربيع جابر في الزمن، عائداً إلى ما يزيد على قرن وعدة عقود في الحقبة العثمانية، تحديداً للعام 1872، لينقل لنا لوحة من تاريخ الصراع بين طائفتي الدروز والمارونيين في لبنان. أو هكذا يبدو الأمر في البداية. لكن سرعان ما تتجلى وقائع الرواية عن مشروع إنساني يتجاوز تاريخ هذا الصراع إلى الكلفة النفسية والمعنوية لمثل هذه الصراعات ذات الطابع الطائفي، ليس على النمط التقليدي الذي تناولته العديد من الروايات اللبنانية وسواها عبر بحث ورصد تفاصيل الصراع الطائفي والاقتتالات الأهلية، وإنما عبر تتبع مسار رحلة مجموعة من الدروز بينهم خمسة أشقاء، من ميناء بيروت إلى منفاهم في البلقان، حيث تتحول حياتهم، أو ما تبقى منها إلى جحيم حقيقي، بما يجعل السؤال عن قيمة ما ارتكبوه من مذابح قتل في حق طائفة أخرى هل تستحق؟ هل قدمت شيئاً لعدالة قضيتهم؟ مقابل ما سوف يواجهونه من مآس عقابا على جريمتهم؟

          وقد تكون المصيبة أكبر حين يوقع سوء الحظ، وبصدفة محضة، أحد المسيحيين الذين مروا بالميناء يوم ترحيل المنفيين، بينهم، وتسبغ عليه هوية دينية لا علاقة له بها يصبح بمقتضاها درزيا ويتغير اسمه من حنا يعقوب إلى سليمان، وهو اسم أحد الأشقاء الذين أعفى عنهم السلطان بعد وساطة. حيث يفاجأ في ساحة التحميل بالميناء بمئات الدروز المزمع نفيهم، ويتم ضمه إليهم سداً لنقص، بعد إفراج إسماعيل باشا عن سليمان عز الدين مقابل جرّتين من الليرات الذهبية، فيما أبقى على إخوته الأربعة رهن الاعتقال والنفي. فقد تحول واحد من ضحايا الاقتتال الطائفي إلى ضحية لأفعال لم يرتكبها أيضا، فكأنه كتب عليه أن يكون ضحية العنف والكراهية من طائفة غير طائفته من جهة، ثم يصبح ضحية يشارك كارهيه أو أعداءه الافتراضيين مصيرهم حين يتحولون بدورهم إلى ضحايا السجن والنفي والتنكيل من جهة أخرى.

          منذ اللحظة التي وقعت فيها تلك الصدفة العبثية تتحول حياة حنا يعقوب إلى جحيم حقيقي، وتتحول حياته من مسارها الطبيعي من بائع بيض متجول يعيش حياة عادية مع زوجته باربارة وابنته هيلينا، إلى سجين، بلا ذنب اقترفه، سيعاني أبشع ألوان السجن والمرض والتعسف، وسيفقد الوعي من شدة الجوع والعطش والبرد القاتل، وتتهشم أسنانه أكثر من مرة، وتمتهن كرامته الإنسانية مرات، متنقلا من قبو باخرة لا يرى فيه أحدا من شدة الضرب الذي تعرض له، وصولا لأقبية زنازين الهرسك وسراييفو وبلجراد، ونزوحا منها إلى سواها من مناطق البلقان العثمانية التي تجول فيها هو ومن معه من المسجونين الدروز.

          في صفحات التاريخ نجد أن الصراع الدرزي الماروني بدأت شرارته منذ عام 1840 واستمر حتى 1845. و يرجح المؤرخون أنه نشب على خلفية خلاف بين صبيين من الطائفتين اختلفا على لعبة، فامتد الخلاف إلى العائلتين ومن ثم إلى الطائفتين، والذي أخمد لفترة بسيطة لكنه بعث أكثر دموية وقوة في عام 1860 وهو العام الذي شهد ارتكاب مجازر وحشية بين الطائفتين. ومثّل صراع الطائفتين بؤرة أدت إلى التدخل الخارجي لتغذية الصراع كل بحسب مصالحه حين استغلت أوربا الفرصة للتدخل في شئون الإمبراطورية العثمانية. فبينما اعترضت فرنسا بشدة على مقتل الآلاف من الموارنة، كانت بريطانيا تلعب دورا آخر في دعم الدروز وتسليحهم. وحاولت روسيا أن تلعب دورا ما وتتدخل عن طريق دعمها للطائفة الأرثوذكسية. بدورها فرنسا قامت في ذلك الوقت بنشر قوة مؤلفة من 6000 مقاتل تحت مسمى حفظ الأمن.

          لكن الرواية لا تلقي الضوء على شيء من هذا، بل تتتبع مصير المنفيين، كاشفة عن طباع الدروز من قوة الشخصية واحتمال الأذى، والتعاطف والتعاضد فيما بينهم، على عكس حنا يعقوب الذي بدا أكثر ضعفا وقدرة على التحمل، إضافة إلى احتمال الفكرة المضمرة لدى رفاق المنفى الدروز من أن كونه من طائفة مختلفة هو نذير الشؤم الذي يزيد من سوء رحلتهم تلك من يوم لآخر.

          مع ذلك، ومع تطور الأحداث، وتتابع اليوميات الدامية التي تعرضوا لها جميعًا فإن تفاصيل حياة هؤلاء الدروز تصبح بالنسبة لحنا يعقوب أكثر ألفة، خصوصا أن أحدهم يتولى دائما رعايته والعناية به في اللحظات التي إما فقد فيها وعيه وإما تعرض للبطش، مما كون علاقة روحية وثيقة بينهما. هذه الألفة الروحية التي ستمتد لتشمل الأغلبية العظمى منهم، إذ توحد قسوة السجن والألم والامتهان بين المسجونين، أيا كانت الطائفة التي ينتمون إليها، في إشارة رمزية دالة من المؤلف على المعنى الحقيقي للإنسانية، ومشتركاتها الحقيقية، بعيدا عن الفروق والاختلافات المصنوعة باسم الحدود أو الطوائف أو الأديان.

          وفي مشهد متأخر من الرواية بعد أكثر من سبع سنوات من النفي والتنقل من السجون إلى أراضي البلقان للبناء أو الزراعة، وبعد العفو عن السجناء الذي بدا خديعة، حيث قتل من تبقى منهم في مذبحة مروعة بالجبل الأسود لم ينج منها سوى حنا يعقوب، بينما وجهه ملطخ بدماء رفاقه خصوصا قاسم الذي دافع عنه في كل الأوقات. تبدو حياة حنا يعقوب من دونهم خاوية من أي معنى، ويموج عقله بهلاوس بصرية يرى فيها رفاقه الدروز يتحدثون إليه أو يتحركون أمامه. يظهر كل منهم، في مشاهد لا يعرف حنا إذا ما كانت هلوسات واقع لوعي محموم، أم أحلامًا. يسمع صوت قاسم، ابن الشيخ غفار، شقيق الدروز الذي حمل حنا اسم واحد منهم وتلقى بدلا عنه عقوبته. لكنه سرعان ما يدرك أن ما يسمعه ليس سوى سراب، في مرحلة اختلط فيها الواقع بالوهم، والحياة بالموت، حيث صار يسمع صوتا في أعماقه يؤكد له بين الفينة والأخرى أنه سيموت هنا، وأحيانا كان يختلط عليه الأمر ولا يعرف إذا ما كان حيا فعلا أو ميتا، فليس فيما رأى ما يمكن أن يعقله الأحياء!

          يستخدم ربيع جابر في الرواية لغة مقتضبة، خالية من الإسهاب، تحتفي بالفعل دون الكثير من أسماء الإشارة، بما يتنافى مع الشائع في النصوص ذات الطابع التاريخي.

          لكن بالرغم من محاولة الكاتب أن يبدو النص محاولة للتأريخ الشعبي، فنيا بطبيعة الحال، وهو النص الغائب في التأريخ العربي إجمالا، أي رواية التاريخ من وجهة النظر الشعبية لا من وجهة نظر السلطة، لكن بدا الوصف في أغلب الأحيان خارجيا، وليس باطنيا، فقد رسم السرد بورتريهات للأشقاء الخمسة ولبعض نماذج المنفيين، لكن النص لا يشير لأحلام أي منهم ولا الماضي الشخصي لكل منهم. ولا ينجو من هذا المصير إلا حنا يعقوب، ومع ذلك يظل تاريخه البعيد ما قبل الزواج من هيلانة، لا يحمل الكثير من التفاصيل المعمقة.

          ولعل فضيلة النص هي الجانب البحثي الذي يتجلى في وصف كل تلك المناطق في البلقان، من الهرسك إلى سراييفو ثم بلجراد، ومن الجبل الأسود ومونتينجرو إلى الأناضول والبوسفور، وفي الشخصيات التاريخية والوقائع. لكنه يبدو وقد أخضع النص في النهاية لعملية مونتاج سينمائية جعلت منه مكثفا ومختزلا.

          إنه نص مؤلم، يكشف في النهاية بؤس الفكرة الطائفية وجنون الاقتتال من أجل الدين أو الطائفة أو القبيلة، ويكشف أن وحدة المصير الإنساني هي في كيفية التعاطي مع الحياة وفهمها وللبحث عن المشتركات الإنسانية لا عن مكامن الاختلاف وتحويلها إلى شرارات الاقتتال والضغينة المتوارثة. وهو أيضا نص فني يعد إضافة للسرد المعاصر، وبحصوله على جائزة البوكر في دورته الفائتة يثبت أن الجائزة أخيرا بدأت تعرف الطريق إلى فن الرواية العربي بعيدا عن حسابات الإقليم والمجاملات والوصفات الغربية المعدة سلفا والمتوارثة عن المستشرقين عن الشرق وفنونه وآدابه.

ربيع جابر

          ربيع جابر كاتب  وصحفي لبناني ولد في بيروت عام 1972. وله شهادة في الفيزياء من الجامعة الأمريكية في بيروت. كما أنه محرر الملحق الفكري والأدبي الأسبوعي «آفاق» في جريدة «الحياة» الصادرة في لندن.

          تضمن كتاب «بيروت39» إحدى كتابات ربيع جابر، وصدر الكتاب بمناسبة بيروت، العاصمة العالمية للكتاب عام 2009. والكتاب يتضمن إبداعات الأدب وشعراء تحت سن التاسعة والثلاثين في العالم العربي. وفي عام 2010 رشح جابر لنيل الجائزة العالمية للرواية العربية على كتابه «أمريكا» الذي اقتبس منه فيلم بذات الاسم.

          نال ربيع جابر الجائزة العالمية للرواية العربية لدورة عام 2012 عن روايته «دروز بلجراد»، وأعلن ذلك في أبوظبي يوم 27 مارس 2012.

قالوا عن ربيع جابر:

  • إبراهيم العريس (كاتب لبناني):

          إن هذا الفوز إنما يأتي اعترافًا عامًّا بما كان قد بات بديهيًا منذ أكثر من عشر سنوات: ربيع جابر قامة كبيرة في الرواية العربية المعاصرة. كاتب روائي مميزّ في عالم ما بعد نجيب محفوظ، إذ على مدى سنوات قليلة العدد نسبيًا تمكن هذا المبدع الشاب من أن يفرض لنفسه حضورًا استثنائيًا في نوع أدبيّ ينعى ألف مرة ويؤبن ألف مرة في اليوم. وتمكن بالتالي من أن يكوّن لرواياته جمهور قارئ موزع في المدن والمناطق العربية، ويبدو أحيانًا أشبه بالجماعات السرية والطوائف المؤلفة من أفراد يتخاطفون كل جديد لربيع جابر ما أن يعلن عن صدور هذا الجديد. أمثال ربيع جابر من الصعب أن يفوزوا في مباريات الزمن العربي الراهن. ورواية مثل «دروز بلجراد» ما كان يمكن أن تحقق تفوقًا في هذا الزمن نفسه اللهم إلا حين تكون ثمة لجنة تحكيم برئاسة مفكر وناقد مثل جورج طرابيشي. في مثل هذه الحال فقط نفهم فوز ربيع جابر ونصفق له، مصفقين في طريقنا، ولمرة استثنائية، لجائزة حققت هي نفسها انتصارين في لحظة واحدة: مرة حين حكّمت جورج طرابيشي ومرة ثانية حين توّجت «دروز بلجراد».

  • عباس بيضون (شاعر وكاتب لبناني):

          لا يسعنا أن نعرف شيئًا عن ربيع جابر سوى عمله الروائي فهذا الكاتب لا يخرج من مؤلفه ولا يغادره، لا يقبل الأحاديث الصحفية ولا يخوض سجالات نقدية، ولا يتحدث عن نفسه ولا يعمم حتى صوره الفوتوغرافية، وإذا وجدت هذه فهي لا توجد بإذنه. الصورة التي يريد ربيع جابر أن تكون له لا تتصل، من قريب أو بعيد، بسيرته الخاصة أو خياراته الشخصية، أو مزاجه، بل هي لا تتصل حتى بملامحه الجسدية. الصورة التي يعممها ربيع جابر عن نفسه هي صورة مؤلف ورقي،  ربيع جابر لا يختار فحسب أن يكون روائيا وإنما يبقى طموحه وشاغله ومقاصده روائية، بل إنه بهذا الطموح جعل من رواياته الواحدة تلو الأخرى تجارب روائية. ففي كل رواية من روايات ربيع جابر نتذكر نمطا عالميا، كأن الروائي في تجاربه الروائية يحول الرواية إلى مباراة يقتحمها ويخوضها شوطا بعد شوط.. ربيع جابر الذي صدر عن رواية ثقافية بالأساس وتجريب روائي متعدد الحلقات، قد استطاع أن يضيف إلى هذه الرواية بُعدًا شعبيًا أو أن يفتحها على بُعد شعبي، عمله من هذه الناحية أصيل وفريد، وإذا كان هذا وحده سببًا فإنه يكفي لجائزة بوكر. وربيع جابر بالتأكيد يستحقها.

  • حيثيات لجنة تحكيم جائزة البوكر العربية:

          وقالت لجنة التحكيم في بيان، عن حيثيات منحها الجائزة إنها منحتها لرواية «دروز بلجراد» للروائي اللبناني ربيع جابر لقدرتها على تصوير هشاشة الوضع الإنساني من خلال إعادة خلق فترة تاريخية ماضية في لغة عالية الحساسية.

من مؤلفات ربيع جابر

  • 1992: سيّد العتمة
  • 1995: شيء أسود
  • 1996: البيت الأخير
  • 1996: الفراشة الزرقاء
  • 1997: رلف رزق الله في المرآة
  • 1997: كنْتُ أميرًا
  • 1998: نظرة أخيرة على كين ساي
  • 1999: يوسق الإنجليزي
  • 2003: بيروت مدينة العالم
  • 2005: بيروت مدينة العالم 2
  • 2005: رحلة الغرناطي (ترجمة لكتابه بالألمانية Granadianens resa)
  • 2006: تقرير مهليس
  • 2007: بيروت مدينة العالم 3
  • 2009: بيروت مدينة تحت الأرض (وأيضا صادر بالفرنسية)
  • 2009: أمريكا- رشحت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية 2010.
  • 2011: دروز بلجراد.

 

إبراهيم فرغلي