شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ

مريم وسالم.. وأول نصر للكويت

وقف مبعوث سليمان باشا والي بغداد، منتفخ الأوداج متطاولا بقامته، وراح يبلغ رسالة سيده إلى شيخ الكويت عبدالله بن صباح:

ـ الباشا يطلب أن تسلمه مصطفى أغا متسلم البصرة وثويني شيخ قبيلة المنتفق ورفاقهما الذين خرجوا على طاعته والتجأوا إليك فأجرتهم وحميتهم في ديارك. وهو يقول لك أنك إذا لم تستجب لمطلبه وتسلم الهاربين فسينفذ قراره بالقوة.

وفي هدوء رد عليه الشيخ:

ـ قل لسيدك إن من عاداتنا كعرب أن نحمي من يستجير بنا ولا يمكن أن نسلمه لأعدائه مهما يكونون فذلك غدر وعار لا يمكن أن نقبله. ونحن نقبل في سبيل حمايتنا للجار كل ما ينجم من أخطار. أما إذا أرادها الباشا حربا فإننا على استعداد لمقاتلته في سبيل حماية ضيوفنا مهما أصابنا من البغي والعدوان.

غدر بني كعب

كان الشيخ عبدالله يدري أن والي بغداد ـ بعد أن طرد متسلم البصرة ـ يرغب في أن يمد نفوذه إلى القرين. ولكنه لم يتوقع أن هناك من المتربصين المساندين لوالي بغداد، من يبغي ضرب مدينته ويغار من ثرائها ونشاطها التجاري بين مسقط والبصرة، وحمايتها لسفن التجار وما يملكون من تجارة وأموال.

فقد كان هناك بنو كعب أمراء القسم الجنوبي من عربستان الممتدة بين فارس والعراق، والذين يملكون أسطولا كبيراً مكنهم من نشر سلطانهم على جميع الموانئ الممتدة من عبدان إلى قرب مدينة بوشهر. وكانت سفن بني كعب لا تنقطع عن التردد على الكويت وجباية الرسوم من أهلها. ولعل كل ذلك قد دفع الكويت قدما في ميدان التسلح حتى أصبح لها قوة بحرية جيدة إلى جانب سفنها التجارية. وحين قويت شوكة الكويتيين وأحسوا في نفوسهم ثقل ما فرضته عليهم بنو كعب من الرسوم بدأوا يتمردون على دفعها. وقابل بنو كعب ذلك التمرد بالهدوء أول الأمر ثم بالغدر والخديعة. وحين بلغهم ما حدث من صدام بين الشيخ عبدالله ووالي بغداد، أسرعوا لمساندة الباشا لعلهم يحققون غرضهم في وضع يدهم على الكويت والاستيلاء على ثرواتها. وبكل المكر فكر بركات أمير بني كعب أن يحاول السيطرة على الكويت عن طريق القرابة والمصاهرة إلى شيخها.

وذات يوم جاء إلى الشيخ عبدالله مبعوث من قبل أمير بني كعب يبلغ رسالته:

ـ يبغي الأمير أن يناسبكم ويتقدم إليكم بخطة ابنتكم مريم إلى ولده.

واستغرب عبدالله بن صباح للطلب ونظر إلى المحيطين وهو يقول متعجباً:

ـ شيخ بني كعب يريد أن يناسبنا؟!.

قال المبعوث متمما رسالته:

ـ ويريد الأمير أن تتم الخطبة بوقتها عن قريب. وأن أستمع إلى رأيها بنفسي!.

واتجه الشيخ إلى ابنته مريم يعرض عليها الأمر.. فارتفع صوتها في استهجان كبير:

ـ خسئ اللعين. كيف يجرؤ أن يخطبني؟

ـ قال لها الشيخ: أعرف ردك يا ابنتي. ولكن رأيت أن أسألك.

قالت مريم: وتقتنع برأيي يا أبي؟ إن هذه الرسالة فيها شيء غريب. وفي قلبي شيء يحذر منها ومما وراءها. إنما يبغي الكعبي أن ننشغل عنه وعن لعبة يدبرها!.

وتكلم رجال الشيخ: الصدق تقوم مريم. إذا كانوا يدرون أن طلبهم لا يجاب فلماذا يطلبون؟ فلترفض الخطبة.. فليس من آل صباح من يزوج بناته لغريب..!.

مريم وسالم ومعركة الرقة

مضت أيام. وذات صباح باكر، نادى المنادي من فوق سور الكويت:

ـ يا طويل العمر. أرى في البحر من ناحية آل الكعوب ضجة وقعقعة سلاح. في الخليج عسكر وسفن ومدافع ورجال جاهزة للقتال.

وهمس قائل للشيخ: إن أمير بني كعب ينفذ إنذاره بالهجوم علي الكويت إذا رفضت رد الأموال التي اقتطعتها من الرسوم. وليس بقدرتنا رد الهجوم.

واكتفى الشيخ بأن قال: ليجربن هؤلاء حظهم..!.

وانطلقت مريم إلى آل صباح وأهالي الكويت وقد امتشقت السلاح هاتفة:

ـ ألم أقل لكم إن في الرسالة شيئا غريبا؟ هبوا يا رجال. انهضوا استعدادا للقتال.

إن الحر لا يقبل المذلة، والكريم لا يرضى الضيم ولا يهاب الموت أو يخشى الردى..

وامتطت مريم صهوة فرسها رافعة سيفها مسلحة بغدارتها ورمحها. ولعل الشيخ عبدالله وقد شهد ضخامة أسطول العدو قد أراد أن يخفف عن شعبه هول الحرب. فنادى ابن عمه سالم بن محمد الصباح، وطلب منه أن ينطلق إلى الرجال لوقف اندفاعهم مع مريم حتى لا يكون الشر والوبال. ولكن سالم رفض أن يبلغ الرسالة، ورفع فوق رأسه الراية السوداء، وانطلق يهيب بالرجال ينادي:
ـ يقول لكم الشيخ عبدالله.. سود الله وجوهكم إن أنتم لم تناجزوا العدو. فالإنسان لا يموت قبل يومه. ولا تعودوا إلا بنصر أكيد. ومن يمت فهو في الجنة شهيد.

وحركت صرخة سالم وانطلاقة مريم ساكنا في النفوس. واجتمع الاثنان بالرجال قبل أن يستقلوا سفنهم الصغيرة حيث اتفقوا على مخطط مرسوم بحري تنفيذه في سكون، يستغل شمول الظلمة وإنشغال الكعبيين استعدادا لهجوم يشنونه عند الفجر عندما يكون مد البحر.

قالت مريم: الآن وأنتم تتخفون في ثياب الصيادين، تتسللون فجأة وتنقضون على سفن القيادة، نريدها بعد قليل بلا ضباط ولا قادة.

وقال سالم: بعد سقوط سفن القيادة قوموا بالهجوم على باقي السفن. ستجدون الرجال وقد ضعفت مقاومتهم بعد قتل قياداتهم. وستكون مراكبهم الضخمة مستلقية في الطين على قاع الخليج مع الجزر، عاجزة عن الحركة والمقاومة، أما قواربكم الصغيرة الخفيفة ذات المجاديف فتسيرون بها على سطح الماء تنقضون منها على الأعداء تقتلون وتأسرون دون أن يتمكنوا من اللحاق بكم ومقاتلتكم.

وأضافت مريم: إذا فعلتم فسيكون لكم أن تغنموا كل ما في السفن من المؤن والسلاح والعتاد..!.

ويحكي التاريخ أنه بهذه الخطة البارعة وبالحماس الذي ابتعثته مريم في نفوس الأبطال، انهارت مقاومة سفن الأسطول الكعبي. وتنقلت السفن الخفيفة تغرب من مكان إلى مكان. وبعد أن تساقطت القيادات لم تجد سفن بني كعب إلا انتظار مد البحر للإسراع بالهرب والفرار.. بعد ما حدث لهم في واقعة الرقة، غير بعيد من جزيرة فيلكا وبالقرب من جزيرة بوبيان حيث سجل التاريخ الواقعة في شهر جمادي الثاني عام 1197 هـ / 1783م، ولله در الشاعر الذي قال:

 

حاولوا أخذها اغتصابا لهذا

 

خطبة القوم أسفرت عن خطوب

 

سليمان مظهر