ضحية 1964 (قصة قصيرة)

ضحية 1964 (قصة قصيرة)
        

ريشة: طارق الطيب*

في عام 1964 كنت بين الرابعة والخامسة أذهب للكُتّاب القريب،
لأتعلم الكتابة والقراءة وحفظ آيات القرآن.
بعد أسبوع كنت أُسمِّع لأبي جزءًا من سورة الصافات:

          «وَفــَدَيْنَـــاهُ بِـــسِِــبْحٍ عَظـــِيــمٍ».

          يـصـحــح لــي والــدي: «بِذِبْحـِن!».

          فأعيـد: «وَفَدَيْنَـاهُ بِزِِبْــحٍ عَـظِـيـمٍ».

          يصحح لـي والــدي: «بِذِبْحِــن! بِذِبْحِــن!».

          لم أفهم ما تعني الآية.

          في مغرب يوم ساحر، جاء أبي ساحبا جديا بنيا رائعا. قال: «هذا جدي العيد»!

          فرحت به وبقرنيه المحدبين، معتقدًا أن حدثا فريدا سيُجَمِّل العيد. لعبت مع الجدي البني 70 يوما، أعود من الكتاب جريا؛ لأقرأ عليه بعض الآيات التي حفظتها. يصمت مستمتعا كأنه يفهم، ثم ينفر نفرة ترش رذاذها الدافئ على وجهي.

          كنت أطعمه البرسيم، وأتأمل حركة فكيه الدائرية. أطعمه أكثر لأدرس الحركة العجيبة، ثم أضع له الذرة العويجة التي كان يسفها، ليجرشها ويطحنها بصوت مضحك كالرحاية.

سميته كولا

          الكوكاكولا كان يرضعها كطفل جائع، ثم ينط بعدها مثل كنغر في نطات مضحكة، فيما بعد تقاسمت معه كل زجاجة كوكاكولا، بل كنت أشتري له كل حين زجاجة له وحده.

          انتظرت العيد سبعين يوما، وصار الجدي أهم حدث وصديق في حياتي.

          قالت أمي لأبي: «الولد يلاعب الجدي كأنه كلب»!

          والدي كان يضحك، ويفرح حين يراني أعلفه.

          تعيد أمي لأبي:

          «الولد يلاعب الجدي كأنه كلب»!

          لم يتنبه والدي لمكررة أمي.

          جاءت «الوقفة» فلم أنم.

          في فجر العيد قمت  أول واحد في العائلة. خرجت إلى حوش البيت، جلست مع الجدي متخيلا أنهم سيزينونه للعيد، أو أن مفاجأة أجمل مـــنها آتية، لكــنه بــــدا حزيـــــنا كـــــسولا، لا يأكل، ولا يشرب حتى الكوكاكولا أو «سيدَر» أو «سباتِس» التي أعشقها.

          خرجت أمي على الضوضاء، سمعتني أقول له:

          «اليوم عيد وهناك مفاجأة لك»!

          بعد وقت قصير، عاد أبي من الصلاة ومعه رجل، تفوح من ملابسه روائح غريبة. يحمل جوالا من الخيش ترن فيه أصوات معدنية كلما تقدم.

          وجه أمي تغير لم يعُد وجه عيد.

          لم أفهم.

          قالت لأبي: «قلت لك الجدي أصبح كلبا».

          أوقف أبي تقدم الرجل الغريب بجواله الأغرب.

          لم أفهم.

          همس له أبي كلاما لم أسمعه.

          فجأة، رفع الرجل جواله من على الأرض وانصرف من الحوش.

          أشرقت الشمس.

          كان أبي واقفًا وفي وجهه ابتسامة حائرة لم أفهمها، بينما عاد لأمي وجه العيد.

          ربتت على رأسي وقالت: «كل سنة وانت طيب يا حبيبي»!

          كان الجدي الحزين يتحرك تجاهنا وينط نطاته العجيبة، دون كوكاكولا أو سيدر أو سباتس.

          قال والــدي وهو يضحك بصوت عالٍ:

          «ده جدي بجد ابن كلب»!.
-------------------------------------
* كاتب عربي مقيم في النمسا.

 

 

طارق الطيب