شاعر العدد.. محمود سامي البارودي.. رب السيف والقلم

شاعر العدد.. محمود سامي البارودي.. رب السيف والقلم

عندما ظهر في أفق الأدب العربي في منتصف القرن التاسع عشر شاعر اسمه محمود سامي البارودي كان ذلك الأدب يعاني في راهنه وهناً على وهن، فقد كانت الصنعة أثقلته بمحسناتها البديعية، وطباقاتها المفتعلة وجناساتها المكشوفة.

لم تكن القصيدة العربية تقوى على النهوض، من تلك الزخرفات المملوكية، التي بالغ فيها شعراء ذلك الزمان، مما جعل البيان العربي يعاني المرارات كلها على يد اللغويين المحتالين، وشعراء الصنعة والبهرجة والافتعال المتهافت نحو حضيض البلاغة الشعرية.

وعلى الرغم من الحيوية التي دبت في أرجاء الأمة المصرية تحديداً، مع مجيء محمد علي باشا، واجتهاده في بث شيء من روح العصر في المجتمع المصري على مختلف الصعد، فإن القصيدة كانت أضعف من مسايرة تلك الروح الوثابة.

لكن محمود سامي البارودي بمحض موهبته، وسلامة ذوقه، وموسوعية ثقافته، استطاع أن ينهض بالقصيدة، بما يتواءم والقيم الثقافية للعصر الجديد، الذي كان أحد أهم رموزه الفكرية والسياسية أيضا.

وهكذا ولدت قصيدته في إطار فتح شعري رائد وجميل، كرس صورته كشاعر متفرد في زمنه، وثائر على قيود ذلك الزمن الشعرية، حتى وهو يصيغ قصيدته وفقاً لاشتراطات القصيدة العربية في عصورها القديمة، وخصوصاً العصر العباسي، والذي اتخذ من شعرائه نموذجاً يحتذى في الشكل، لكنه اختط لنفسه خطاً جديداً يتواءم وخطه الوطني العصري على صعيد المضمون.

ولد محمود سامي البارودي في 6 أكتوبر عام 1839 في حي باب الخلق بالقاهرة لأسرة ثرية شركسية الأصل عربية الثقافة مصرية الانتماء. وبعد أن أتم دراسته الابتدائية التحق بالمدرسة الحربية لدراسة فنون الحرب بالإضافة الى علوم الدين واللغة العربية وآدابها ونحوها، وشيء من الحساب والجبر، لكنه لم يستطع استكمال دراسته العليا - كما كان يرغب - بل التحق بالجيش السلطاني للدولة العثمانية، ولم يلبث أن غادر إلى الآستانة للعمل في وزارة الخارجية التركية مستعينا بمعرفته التامة للغات الثلاث العربية والتركية والفارسية. وعلى الرغم من أن العمل في الآستانة كان قد وافق هواه وجعله يتفرغ لمطالعة آداب ما يجيد من اللغات من مصادرها، ، فيتعالى شغفه بالشعر والنثر ، وتكتمل موهبته في القول أبياتا حاول فيها أن يقلد شعراءه المفضلين.. إلا أن القاهرة قد ندهته بسحرها المعتق فعاد إليها عاملاً في مكاتبات الدواوين التي أثقلت روحه المشبعة بالشعر والفروسية، وإذا كان الشعر قد وجد نافذته في قصائد الشاعر التي أخذت تترى قوافي مغمسة بالحنين والوصف والغزل والوفاء، فإن الفروسية قادته للجيش الذي استعد لتصاريف العمل فيه منذ بداياته في المدرسة الحربية. وكان للشاعر الفارس ما أراد، فقد ضم جناحي روحه التواقة للحرية على قافيته الجديدة ، وبسطهما محلقاً في سماء الأدب العربي دون أن يفقده ذلك التوق الحر انضباطه العسكري المبكر، الذي أهّله لأن ينتقل للعمل في الجيش برتبة «البكباشي» العسكرية وأُلحقَ بالحرس الخديوي قائداً لكتيبتين من فرسانه.

اشترك الفارس الشاعر في إخماد ثورة جزيرة كريت عام 1865 واستمر في تلك المهمة لمدة عامين، أثبت فيهما أن حبه للعسكرية لم يكن حباً مجرداً من معناه العملي، فقد كان أحد أبطال تلك المهمة، ومنها اكتسب الكثير من المهارات التي استغلها للعمل في صفوف ثورة عام 1881 الشهيرة ضد الخديو توفيق بقيادة الزعيم أحمد عرابي. واعترافاً من تلك الثورة بتميز محمود سامي البارودي في أداء دوره الوطني أسندت إليه رئاسة الوزارة الوطنية في فبراير عام 1882. بعد سلسلة من أعمال الكفاح والنضال، ضد فساد الحكم وضد الاحتلال الإنجليزي لمصر, عام 1882 قررت السلطات الحاكمة نفيه مع زعماء الثورة العرابية في ديسمبر عام 1882 إلى جزيرة سريلانكا والتي كانت تسمى سرنديب آنذاك, وفي سرنديب وجد الشاعر نفسه مع قصيدته بعيدا عن الوطن فكانت تلك القصيدة داؤه ودواؤه، وكانت سره وسروره ، وعلى مدى سبعة عشر عاما قضاها في المنفى غريب الوجه واليد واللسان وفقا لتعبير أحد شعرائه المفضلين وهو المتنبي، كتب البارودي الكثير من الشعر في ظلال الوحدة والغربة والحنين، وعلى هامش من الأمراض التي تقاوت على جسده المتعب والأوجاع التي تكاثرت على روحه المثقلة بالأسى.

لكن البارودي لم يركن لآلام الروح وأوجاع الجسد، بل تسامى على كل معاناته وحوّل غربته شديدة الوطأة إلى عمل مستمر من أجل دينه الإسلامي ولغته العربية. فقد انصرف أثناء إقامته في تلك الجزيرة، التي يدين أهلها بدين الإسلام إلى تعليمهم الكثير مما كانوا يجهلونه من تعاليم دينهم وثقافته، بالإضافة إلى تعليم مَن يرغب منهم اللغة العربية وآدابها، في حين تعلم هو اللغة الإنجليزية، وسرعان ما ترجم منها بعض المؤلفات إلى لغته الأم. لكن هذا كله لم يستطع أن يعالج حنينه إلى الوطن تحت وطأة المرض الذي اشتد حتى أثّر على بصره المضمحل شيئاً فشيئاً. وكان أهله وأصدقاؤه في مصر على علم بما يمر به البارودي فسعوا لدى السلطات المصرية كي تسمح له بالعودة لوطنه بحجة العلاج على الأقل. وهكذا عاد بعد أن تجاوز الستين من عمره عام 1899 محملا بالكثير من الذكريات والأوجاع والأحزان والتي كانت قد تخلدت في قصائد الشاعر الملهم.

توفي البارودي، الذي لقب برب السيف والقلم، في 12 ديسمبر عام 1904 بعد أن ترك وراءه ثروة شعرية ضخمة ضمها ديوان شعر في جزأين بالاضافة إلى مجموعات شعرية سُميّت مختارات البارودي، جمع فيها قصائد منتخبة لثلاثين شاعراً من العصر العبّاسي، كما ترك أيضاً مختارات من النثر تُسمّى قيد الأوابد، ومطولة شعرية في مدح الرسول - عليه الصلاة والسلام - تقع في أربعمائة وسبعة وأربعين بيتاً، جارى فيها قصيدة بردة البوصيري الشهيرة، وسماها، كشف الغمّة في مدح سيّد الأمة.

 

 

سعدية مفرح