أمير الشعراء وطموح الرواية العربية

أمير الشعراء وطموح الرواية العربية

المجلد الضخم الذي صدر في أكثر من تسعمائة صفحة، عن المجلس الأعلى للثقافة بعنوان «أحمد شوقي الأعمال النثرية»، في الذكرى الخامسة والسبعين لرحيل أمير الشعراء يثير كثيرا من التساؤلات حول الطموحات الأدبية، والروائية منها على نحو خاص، لدى أحمد شوقي، وحول جذور هذه الطموحات في ثقافته العربية والفرنسية، ومدى قدرته على تجسيد بعضها في أعماله النثرية السبع، التي تجمعت للمرة الأولى في هذا المجلد، وإن كانت قد صدرت متفرقة في طبعات سابقة أو على أعمدة الصحف، كما يثير تساؤلات حول مدى تأثر أحمد شوقي في رواياته الفرعونية على نحو خاص بكتابات الشاعر والروائي الفرنسي «تيوفيل جوتييه» الذي لم ترد عنه أي إشارة عند شوقي مع تعدد إشاراته إلى من قرأ لهم أو تأثر بهم في الأدب الفرنسي الحديث أو المعاصر له.

لقد ضم هذا المجلد سبعة أعمال نثرية صنفت في أربعة محاور هي:

1- رباعية استلهام التراث الفرعوني وتضمن أربعة أعمال قصصية أطلق شوقي على ثلاث منها مصطلح رواية وهي:

أ - رواية عذراء الهند أو تمدن الفراعنة 1897.

ب - رواية لادياس 1898.

جـ - رواية دل وتيمان أو أخر الفراعنة 1899.

د - شيطان بنتاؤور أو لبد لقمان وهدهد سليمان 1901.

2 - استلهام التراث العربي ويضم عملا واحدا وهو «ورقة الآس» وقد أطلق عليه شوقي مصطلح «قصة تاريخية» 1902.

3 - تأملات الشاعر الناثر، وقد جاءت تحته خواطره الشهيرة التي تحمل عنوان «أسواق الذهب» 1932.

المسرح النثري: وقد أدرجت في هذا المحور مسرحيته النثرية الوحيدة «أميرة الأندلس» 1931.

ونحن من خلال هذا الرصد الكمي وحده، نجد أنفسنا أمام واحد من كبار كتاب النثر، منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى نهاية الثلث الأول من القرن العشرين، فضلا عن كونه في طليعة كبار الشعراء في عصره، وهي المكانة التي أكدها الشعراء أنفسهم عندما اختاروه أميراً لهم في العام 1927.

لقد كان لدى شوقي إحساس مبكر بأهمية العنصر القصصي والروائي لدى قارئ الأدب، حتى وهو يقرأ الشعر، وقد عبر عن هذا الإحساس خلال مقدمته لديوانه في العام 1898، وهو يستعرض مالفت نظره لدى كبار الشعراء العرب وما منح شعرهم سمات الخلود، وجعل ميزة أبي فراس الحمداني تكمن في حسن الحكاية، الذي يقترب بالقصيدة من الرواية، حيث قال: «ونظمه أبو فراس فخرا عاليا ونسبا غاليا وحكما باهرة وأمثالا سائرة، لكنه لم يقله فوضى، ولا قرب في نظمه الخلط، فإن قصيدته الشهيرة.

أراك عصي الدمع شيمتك الصبر
أما للهوى نهي عليك ولا أمر

ليست إلا عقدا توحد سلكه وتشابهت جواهره، ودق نظامه، تعاونت فيه ملكة العربي وسليقة الشاعر، على حسن الحكاية، فّإذا فرغت من قراءتها فكأنك قرأت أحسن رواية».

لكن شوقي في المقدمة نفسها، وهو يؤكد على أهمية العنصر القصصي والروائي للقارئ يسارع فيدفع هذا الوهم الذي استقر في بعض نفوس قراء الأدب العربي ونقاده، من أن هناك حاجزا يصد الشاعر بالضرورة عن أن يشارك في مجالات كتابة النثر، ويبدع فيها أدبا روائيا، وهو يأخذ هذه المرة، حجته من قراءته في التراث الفرنسي، مستشهدا بأسماء أدباء كبار، حققوا النبوغ في وقت واحد في مجالي الشعر والنثر، من أمثال فكتور هيجو، الذي لا تقل رائعته النثرية «البؤساء» شهرة عن روائع قصائده، ومثل ألفريد دي موسيه الذي أشتهر كتابه «اعترافات فتى العصر» بدرجة شهرة ديوانه «الليالي» نفسها، وكان شوقي بهذا التأكيد، يمهد لنفسه لدى القراء والنقاد، في إمكان استقباله والاعتراف به روائيا رائدا، كما استقبلوه شاعرا مجددا.

ويبدو أن شوقي كان لديه وعي ناضج بدخول عصر يتسع فيه مفهوم القراء، أمام الكاتب العربي، فلم يعد القراء فقط هم كبار الشيوخ، ولا طلاب الأدب المتخصصون وحدهم، وإنما اتسع المجال ليشمل شريحتين جديدتين، لم تكونا بين شرائح من يتوجه إليهم الشعراء والكتاب من قبل، بإبداعاتهم وهما: شريحتا «الطفل» و«المرأة»، وقد تنبه شوقي إلى الشريحة الأولى عندما كتب قصائده الرائعة للأطفال على ألسنة الحيوانات، وكان كما يقول يختبر أثرها بنفسه عندما يقرؤها على الأطفال، في أسر أهله وأصدقائه وهو يتنبه للشريحة الجديدة من شرائح القراء، التي بدأت في الظهور أواخر القرن التاسع عشر، مع بدء انتشار الصحافة ودخولها إلى البيوت، وإقبال بعض ربات البيوت على قراءاتها، وتمسك بعضهن بهذا الحق تمسكاً شديداً، وهو تسيير إلى ذلك في مقدمة ديوانه 1898 حين يقول: «على أني لا أستصعب في مصر اليوم صعبا بعد أن علمت أن كثيرا من المخدرات (ربات الخدور) في العاصمة أصبحن يرقبن ساعة ظهور الجرائد بصبر نافد، وأن إحداهن طردت خادما لها أرسلته يشتري نسخة من جريدة فأبطأ».

شوقي في الصحافة

ولعل الاستجابة لحاجات هذه الشريحة الجديدة من شرائح القراء، كانت وراء لجوء شوقي إلى الصحافة في عصره، لنشر بواكير كتاباته الروائية في شكل حلقات مسلسلة، تتضمن العناصر النثرية والقصصية والتشويقية التي تناسب شريحة القراء وقناة التوصيل، وما يتطلبه ذلك من التحول بلغة الكتابة النثرية ذاتها على درجات من البساطة والسرعة تلائم العصر، وقد تحقق جانب من هذا كله على صفحات جريدة «الموسوعات» عبر نشر روايات شوقي الأولى على صفحاتها.

بدأ شوقي في أعماله الروائية بمجموعات روايات فرعونية، تستلهم الحياة في مصر القديمة أيام كانت الإمبراطورية المصرية متسعة الأطراف، وكانت جيوشها وأساطيرها تتحرك بقدرة وحرية حتى مشارف الهند، وكان ضباطها الوطنيون موضع إعجاب أبناء الشعب من فتيانه وفتياته، وكانوا في الغالب يمثلون الصورة الوطنية المقابلة لصورة الحكام المستبدين، والذين يعتمدون في تعسفهم على بعض الأجانب الذين يعينونهم على قهر طموحات أبناء وطنهم. وتلك في مجملها صورة لا يمكن أن تبني عالما روائيا إلا من خلال اعتمادها على شخصيات تاريخية، وأخرى متخيلة واسترجاعها لتصورات مكانية تشكل الإطار العام للأحداث، ودخولها في تفصيلات كثيرة لأنماط حية، أصبحت في طي التاريخ، ولا تتوافر كثير من المراجع في ذلك العصر عن مقوماتها ودقائقها وعاداتها وتقاليدها، كما يتطلب صراعا مع نمط لغوي مازال منتميا إلى القرن التاسع عشر بتقاليده في الصياغة والمحسنات، وثقل حركة الجملة الذي يتجاوب مع بطء حركة العصر. وإذا كانت المحاولة في مثل هذا المجال تتم على غير مثال سابق ونموذج يحتذى، فهي تستحق بالتأكيد أن تأخذ صفة الريادة وأن تناقش جوانب السلب والإيجاب فيها على نحو متأن.

على أن نقاد عصر شوقي لم يستقبلوا عمله بهذه الروح ولعل هذا هو ما ترك بعض الإحباط على همة شوقي الروائية وجعل قوة اندفاعه التي بدت واضحة في أعماله الأربعة الأولى تخف حدتها في السنوات والعقود التالية.

لقد كتب إبراهيم اليازجي في مجلة البيان 1898 يعلق على رواية لادياس يقول: «نشهد الله أنا كنا نود للمؤلف لو لم يجد بهذا التأليف فإن الرجل معروف بالشعر من الطبقة العالية، ومشهود له فيه بأنه من الطراز الأول وحقيق بمن بلغ في أمر من هذه الأمور منزلة يكون فيها من رؤساء أربابه ألا يتعدى للدخول في فئة ينزل فيها عن رتبته ويعد بينهم آخر فإن إهمال بعض الأمر لا عيب فيه. ولكن العيب على من انتحل أمراً وقعد فيه».

وحتى النقاد الذين اشتهروا بحبهم لشوقي وتعاطفهم معه، مثل شكيب أرسلان لم يتمكنوا من الإفلات من المقارنة بين نثر شوقي وشعره. يقول أرسلان: «إن شعر شوقي قتل نثره، فبينما هو في الشعر، الفذ الذي يجري ولا يجري معه، إذا هو في النثر أحد جماعة يجري معه الناس مثنى وثلاث ورباع، في حين نرى له نثرا رائعا، وترسلا دافقا وفصولا شائقة، كانت تخلد في عالم الأدب لو لم تفتك بها قصائده».

ولعل خليل مطران كان أكثر من تنبهوا إلى المغزى العميق من رواياته والذي تمثل في خلع إحباط الحاضر على أمجاد الماضي، حين قال في تقديمه لمحاورات بنتاؤور. «إن شوقي يؤاخذ غضاضة مصر الآن، برفعتها فيما تقدم من الزمان، معاقبا بالرفق معاتبا بالصدق، يريد تحريك وتر جمد في فؤاد الأمة، وإحياء عاطفة في النفوس جفت لعدم تعهدها من بدء الأزل». ولعل شوقي من خلال إشارة مطران، كان يلجأ إلى القناع الروائي لتمجيد نموذج الضابط الوطني في أعماله الروائية، بعد أن اضطر إلى هجاته في أعماله الشعرية مثلا في هجاء «أحمد عرابي» الذي كان ثائرا على الخديو توفيق، وهو من كان شوقي شاعر بلاطه وربيب نعمته.

وإذا كان شوقي قد أعلن أنه تأثر بفكرة إمكان الجمع بين النبوغ الشعري والنبوغ الروائي لدى شخص واحد، من خلال رصده لنموذج فيكتور هيجو والفريد دي موسيه من الكتاب الفرنسيين، وهما من النماذج التي تأثر بها شوقي في بعض جوانب إنتاجه الشعري، كما هو الشأن في تأثره في قصيدته التاريخية المطولة «كبار الحوادث في وادي النيل» بقصيدة فيكتور هيجو التاريخية المطولة «أساطير القرون». إذا كان شوقي قد أعلن عن مصادره في هذه الفكرة، فإنه لم يشر أدنى إشارة إلى شخصية شاعر وروائي فرنسي يحتمل أن يكون شوقي قد تأثر به في كتاباته الروائية وهو تيوفيل جوتييه (1811 1872) الذي تبدو تجربة شوقي في مجال الرواية التاريخية على نحو خاص شديدة القرب من تجربته، وشديدة احتمال التأثر بها في ضوء ولع شوقي بالثقافة الفرنسية وولع جوتييه بمصر في تراثها الفرعوني البعيد، وفي حاضرها الذي كان يلامس بداية حياة شوقي، حيث حضر جوتييه احتفالات افتتاح قناة السويس في طفولة شوقي المبكرة وكانت روايته عن مصر الفرعونية ملء السمع والبصر، في الفترة التي عاشها شوقي في فرنسا كان جوتييه قد عكس في كتاباته الأدبية جانبا من ظاهرة الولع الفرنسي بمصر التي اجتاحت أدباء وعلماء ورحالة فرنسيين خلال القرن التاسع عشر، وكان يكتب في رسائله لأصدقائه : «نحن لا ننتمي إلى البلد الذي نولد فيه، وإنما إلى البلد الذي نجد أنفسنا فيه، ولقد وجدت نفسي في مصر، فأنا مصري» مع أنه لم يكن قد أتيح له أن يزور مصر الحاضر، حتى كتابته لهذا الاعتراف، ولكنه لدى أدباء عصره، كان يعد ابرز من حاول أن يرسم الحياة في مصر الفرعونية من خلال سلسلة أعمال روائية وشعرية، وفي هذا الإطار أصدر مجموعة من الأعمال الفرعونية الأدبية المتميزة مثل رواية «ليلة من ليالي كليوباترا 1838» Une nuit de Cleopatre ومثل رواية «قدم المومياء» Le Pied de Momie 1840، منطلقا من تجربة واقعية طريقة يحكيها عالم الآثار الفرنسي فيفون دى نان الذي اكتشف في إحدى المقابر بوادي الملوك قدم مومياء صغيرة، فأعجب بها كثيرا، وحملها معه إلى فرنسا، ونشر عنها عشرات الصور، وعلق عليها وعلى دقة جمالها قائلا: «إن الإبهام المرفوع والأصبع الأولى الممدة، والأصبع الصغيرة المتجهة إلى أعلى، والانحناءة الأنيقة لعنق القدم، واستقامة أظفارها يدل على أن من كانت له هذه القدم هي إنسانة راقية لم ترهق قدميها أبدأ بالسير لمسافات طويلة ولم تهنها داخل حذاء» وقد التقط تيوفيل جوتييه هذا الخيط، وصنع منه رواية متكاملة حول صاحبة هذه القدم، وكانت تلك من أوائل الروايات النثرية التي تتخذ من العصر الفرعوني مسرحاً لها، وفي نفس المناخ الفرعوني، أصدر جوتييه 1851 ديوانه الذي أطلق عليه «حنين المسلات» Nostalgie d'obelisques وكتب فيه قصيدة طويلة عن حنين المسلة المصرية في ميدان الكونكورد بباريس إلى أختها التي فارقتها في الأقصر وإلى شمس مصر الصافية مقارنة بشمس باريس الملبدة بالغيوم وإلى نهر النيل المقدس الذي كان يقبل أقدامها عند الفيضان، مقارنا بنهر السين الذي تصب فيه بالوعات الشوارع، والذي يلوث قدميها.

ثم كتب جوتية بعد ذلك رواية فرعونية أخرى أطلق عليها «حكاية المومياء» Le Roman de la Momie، وأطال فيها الوقوف أمام سحر المكان والزمان في مصر الفرعونية، أمام الممرات التي تحدها تماثيل أبو الهول المتربعة والطرق المملوءة بالمسلات وتماثيلها المقدسة الهائلة ذات رءوس الحيوانات، ومعابدها التي تمتلئ بلوحات ذات نقوش هيروغليفية وأعمدة ضخمة كالأبراج وكهنة يطوفون يرتدون الشعور المستعارة الملكية ويحملون على أكتافهم الأدوات التي يؤدون بها الطقوس الكهنوتية الجنائزية المعقدة.

إن أمثال هذه الأعمال الروائية عن مصر الفرعونية لشاعر وكاتب فرنسي، عاش على مشارف عصر شوقي، وزار مصر سنة مولده في حفل افتتاح قناة السويس، واشتهرت، أعماله في باريس في الفترة التي عاش فيها أحمد شوقي في أواخر القرن التاسع عشر ليكمل دراساته في الحقوق والترجمة، ومحاولات شوقي كتابة روايات تاريخية فرعونية على غير مثال سابق في الأدب العربي، ولكنها تقترب من الإطار الذي رسمه جوتييه، كل هذا لا ينقص من قيمة شوقي ولكنه يفتح في الوقت ذاته مجالا واسعاً لدراسات طريفة ومفيدة في فرع الأدب المقارن.

---------------------------------------

أيُّ فتى ً للعظيمِ نندبهُ
شَاطَ عَلَى أَنْصُلِ الرِّمَاحِ دَمُهْ
أسلمهُ صحبهُ ، وَ ما علموا
أَنَّ سَوْفَ يَمْحُو وُجُودَهُمْ عَدَمُهْ
زالَ الألى حاذوا مصارعهمْ
وَلمْ تَزُلْ عَنْ مَكَانِهَا قَدَمُهْ
طَاحَ بِجُثْمَانِهِ الرَّدَى ، وَرَقَا
إلى سمواتِ ربهِ نسمهْ
نِعْمَ فَتَى الْحَرْبِ فِي الْهِيَاجِ إِذ
شبَّ لظى البأاءِ، وَاعتلى ضرمهْ
قدْ ألفتْ صحبة َ القنا يدهُ
وَاعْتَادَ «لَبَّيكَ» فِي السَّمَاحِ فَمُهْ

محمود سامي البارودي

 

 

أحمد درويش 





 





تمثال أمير الشعراء في حديقة فيلا بورجيزي بالعاصمة الإيطالية روما بعدسة أشرف أبو اليزيد