رواياتي الأولى

رواياتي الأولى

عندما أسترجع الكتب التي كنت أقوم بتأجيرها أو شرائها من باعة الكتب، أجد أن أغلب الكتب التي كنت أشتريها كانت روايات، كأني كنت أتنبأ على نحو غير مباشر، ودون أن أنتبه، أن الزمن القادم هو زمن الرواية.

صحيح أنني كنت أعثر بين حين وآخر على ديوان شعر، فقد عرفت الطبعات الأولى من ديوان شوقي، وبعده ديوان حافظ إبراهيم، وبعده الرومانسيون من أمثال أبي القاسم الشابي وعلي طه وإبراهيم ناجي، قبل أن أعرف جيل صلاح عبدالصبور، سواء من عربات اليد التي كانت تتيح لنا الحصول على مثل هذه الدواوين، أو من المكتبات التي كنا نقرأ فيها، أو نستعير منها هذه الكتب وغيرها. ولكن الرواية كانت تجذبني أكثر من غيرها،ربما بسبب اكتشاف سحر القص الذي وجدته في ألف ليلة وليلة، وربما لأن أي رواية تقوم على سرد، يحمل القارئ على أجنحة الخيال، محلقاً به ليرى تفاصيل الواقع الذي يشبه واقعه من منظور جديد، فيزداد خبرة وثراء في تجاربه الإنسانية، ذلك لأن كل عمل روائي هو، في واقع الأمر، تجربة إنسانية لفرد أو أفراد، تواجههم أحداث الحياة، أو يواجهونها، متيحين للقارئ تجارب لم يكن يملكها من قبل، فيزداد هذا القارئ غنى، خصوصاً حين يضيف إلى تجاربه المحدودة تجارب البشر غير المحدودة فتتسع دائرة خبرته بالحياة.

زينب.. البداية

وبالطبع، كان لابد أن نعثر على روايات جيل الروّاد الذين عاصروا ثورة 1919، وكان إبداعهم من غرسها، وكانت البداية، إن لم تخني الذاكرة، لكن بما يؤكده التاريخ رواية «زينب» التي كتبها محمد حسين هيكل، وأصبحت فيلما ناطقاً، بعد أن كانت فيلماً صامتاً. وأذكر أن الفيلم هو الذي دفعني إلى البحث عن الرواية، فقد كانت تقوم بدور زينب راقية إبراهيم، وكان الحبيب الذي حرمها الفقر منه هو يحيى شاهين. وكان جمال زينب فاتنا في الفيلم، كما في الرواية، وأحسب أن الذي وصلني بها، كما وصلها بأبناء جيلي، هو هذا الجانب الرومانسي الذي جعل الرواية نسخة أخرى من «غادة الكاميليا» التي كان عليها أن تضحي بحبها في سبيل الحبيب الذي كان أحب إليها من الحياة نفسها. وكانت «زينب» المصرية نسخة ريفية من «غادة الكاميليا» الفرنسية، ولم أكن وصلت إلى درجة الوعي النقدي الكافي للمقارنة والنقد التحليلي، لكن فكرة الحب، والتضحية بالحياة التي لا تغدو لها قيمة بعد موت الحبيب كانت تيمة رومانسية لابد أن تجتذب الذين بلغوا مرحلة المراهقة من أمثالي، ولذلك كانت رواية «دعاء الكروان» أقرب إلى وجدان مراهقتي من «الحب الضائع» و«أحلام شهرزاد»، بل و«شجرة البؤس» التي أنسانا جمالها اللغوي مأساة أبطالها التي جعلها الكاتب عبرة للذين يجدون ما لا ينفقون والذين لا يجدون ما ينفقون. ولكن درة طه حسين الفريدة التي غطت على «أحلام شهرزاد» و«شجرة البؤس» التي تعاطفت مع فقر أبطالها وأجيالها التي تتوارث البؤس، كما لو كان قدرا مقدرواًهي «الأيام» التي لم يدن منها عمل روائي، أو سيرة ذاتية، في عقلي وقلبي، فقد كانت كشفا عن سر معجزة حيّرتني طويلا، وإجابة عن سؤال لم أجد إجابته المضمرة إلا في «الأيام» التي كانت، ولاتزال، مفتاح السر الذي قادني إلى اكتشاف أسباب «المعجزة» التي أصبح عليها طه حسين، ذلك الكائن الاستثنائي الذي أصابه الجهل بالعمى، والفقر بعذاب المحرومين من الفقراء، ويالسحر المشهد الذي ينساه فيه أهله، وينزلون دون أن ينتبهوا إليه في القطار، كأنه إحدى قطع الأثاث المهجورة التي لم ينتبه أحد إلى حضورها، في هرولة النزول من القطار كما لو كان حضورها وغيابها يستويان.

وقد مسّتني «الأيام» وسحرتني إلى درجة قلبت مجرى حياتي رأسا على عقب، فقد علّمتني أنه لاشيء مستحيلاً مع الإرادة، ما ظل الإصرار موجوداً، والقدرة على مغالبة الدنيا قائمة، فذلك هو الذي أحال فقر طه حسين إلى غنى، وعماه إلى بصيرة ترى ما لا يراه المبصرون، وجهله إلى معرفة لم يختزنها لنفسه، بل سعى إلى مشاركة الآخرين فيها، فما إن جاءه منصب وزير المعارف العمومية، في وزارة النحاس، وأظنها الأخيرة، حتى أصرّ على أن يكون التعليم كالماء والهواء، حقاً لكل مواطن. والمؤكد أنه لولا هذا القرار ما دخلت الشرائح الدنيا، من أبناء الطبقة الوسطى التي أنتمي إليها، مجال التعليم وتفوقت، نموذجها الأول طه حسين الذي أوصله العلم إلي كل ما كان يفوق سقف أحلامنا، فأصبح وزيراً وعميداً للأدب العربي ورائد مدرسة حديثة في النقد الأدبي والدرس التاريخي، وكان هذا كافياً لمن كان مثلي، في ذلك الزمن البعيد، لكي أجعل من طه حسين مثالاً أحتذيه، وقطباً أتعلم من كتبه، وأسعى إلى أن أكون مثله دارسا للأدب العربي بمنهج جديد، ومثقفاً يصل معنى الجامعة بعملية تطوير المجتمع وتحديثه، مؤكدا الدور الحيوي للأستاذ الجامعي الذي لا يغلق على نفسه أسوار الجامعة، بل يصلها بالمجتمع خارجها، ويجاوز برسالته حدود الجامعة الضيقة مهما اتسعت إلى حدود المجتمع الأوسع، ولولا ذلك ما كان إنجاز طه حسين على مستوى المنهجية الجامعية، ولا إنجازه على مستوى الحياة الثقافية العامة التي حقق فيها الكثير، واصلاً بين الخاص والعام.

سارة ونائب الأرياف

وبالتأكيد فإن هذا كله، وغيره، هو ما جعلني أقترب من «الأيام» التي لاأزال أعاود قراءتها بلا ملل، ذلك في الوقت الذي نفرت فيه من «سارة» العقاد، فلم أستطع إكمالها، ولا التعاطف مع بطلها همام الذي خانته حبيبته، وربما كانت على حق، فمن تلك التي تحتمل ثقل ظل هذا الحبيب الذي لا يكف عن فلسفة الأشياء، ويكتب عن حبه بطريقة جافة، لا نضارة فيها، إلى أن ينتهي الحب، وتتركه الحبيبة إلى غيره، متجاهلة مكان هذا الحبيب، وتصوّره عن نفسه، ولقد أجبرتني كثرة الكتابة عن «سارة» الرواية على قراءتها حتى النهاية، فقلت لنفسي خيراً فعل العقاد عندما لم يكتب غير هذه الرواية، ولم آبه كثيراً بما أبداه من ازدراء لفن الرواية على صفحات كتابه «في بيتي» وما أسخف قوله: إن الرواية ينطبق عليها القول عن الخرنوب: قنطار خشب ودرهم حلاوة، فهذا القول كان ينطبق على الكثير من كتابه في وعي الفتى الذي كنته، وبقدر ما كرهت «سارة» أحببت «عودة الروح» و«يوميات نائب في الأرياف» و«عصفور من الشرق» فقد كان أسلوب الحكيم سلساً بسيطاً، ودرجة الحوارية عالية، ولغة المنظور غالبة، بحيث جعلتني الرواية أشعر كأني إزاء مسرحة للأحداث، أو - على الأقل - أقرأ رواية متأثرة ببنية المسرح، سواء في محدودية الأماكن، أو اعتماد الرواية على الحوار، أو اللغة التي تجعلنا نشاهد ما يجري في سياقات السرد كأننا نراه، فضلاً عن خفة ظل الكاتب التي تظهر في بنائه للأحداث، ولا أنسى مشهد الطبيب الذي يدخل الغرفة الكبيرة بأسرّتها العديدة التي نام عليها كل أفراد الأسرة، مصابين بالبرد، كأنهم جسد واحد، يصيب الكل فيه ما يصيب البعض، والعكس صحيح، ولا غرابة في أنهم يقعون جميعاً في حب فتاة واحدة، سنية. وهي فتاة مهزارة، فهمت - فيما بعد - أن الحكيم أرادها رمزاً لمصر، كما جعل روح الجماعة والحركة الجماعية المتحدة، في الرواية، موازيا سرديا للأسطورة الفرعونية عن نهوض أوزيريس بعد أن جمعت إيزيس (مصر) أشلاءه المتناثرة، ويأتي ولده حوريس ليطالبه بالنهوض، تماما كما نهضت مصر في ثورة 1919. وأعترف أن خفة ظل كتابة توفيق الحكيم، وقدرته على السخرية الباسمة هي التي جعلتني أبحث عن بقية أعماله، فأقرأ «يوميات نائب في الأرياف» وأهيم مع الموال الذي كان ينشده المجذوب الشيخ عصفور، إن لم أنس الاسم، وهو يغني: «ورمش عين الحبيب يفرش على فدان». وتشغلني الجريمة الغامضة التي شغلت وكيل النيابة في الرواية، ولكني لم أهتم كثيرا بالبحث لها عن حل، فقد تركت ذلك لوكيل النيابة، وغرقت في تخيّل جمال الفتاة البريئة، وكان اسمها ريم، تلك التي كانت صورة أخرى من جمال زينب هيكل، مع فارق أنها لم تمت، واختفت من الرواية كندى الصبح البهيج الذي يتبدد مع وقدة الشمس. وقد رأيت فيلما، بعد أن كبرت، وقام بدور وكيل النيابة الممثل أحمد زكي الذي تحول إلى الإخراج فيما بعد، وكان صديقي توفيق صالح - مدّ الله في عمره - هو مخرج الفيلم الذي سيظل علامة في تاريخ السينما المصرية، وأذكر أنني ذهبت لمناقشة الفيلم في برنامج من إعداد الصديقة سلمى الشماع، وكان سؤالي الأول لتوفيق صالح: من أين حصلت على هذه الفتاة ساحرة العيون التي يصف الموال رمش عينيها الذي يفرش على فدان، فأخبرني أنها كانت المرة الأولى والأخيرة لها في مجال التمثيل الذي سرعان ما تركته بعد انتهاء الفيلم.

وأحسب أن سلاسة أسلوب توفيق الحكيم وخفة ظله، في حوار الشخصيات، وقلة اعتماده على الوصف لم تجعلني أقترب اقترابا حميما من روايات إبراهيم عبدالقادر المازني الذي خرجت من روايته «إبراهيم الكاتب» بشعور محايد، فلم أكره الرواية، ولكني لم أحبها حبي للسيرة الذاتية «الأيام». لكن إبراهيم الكاتب - على الأقل - كان أخف وطأة من همام، ذلك العاشق الغليظ، وأقرب إلى خفة ظل أبطال توفيق الحكيم، لكن أكثر جدية، والمؤكد أني لم أعرف، إلا بعد سنوات وسنوات، ماذا تعنيه رواية «السيرة الذاتية» وأن سارة وإبراهيم الكاتب وإبراهيم الثاني و«عصفور من الشرق» تدور كلها وغيرها. حول شخصية كاتبيها، وذلك على نحو يمكن فيه إيقاع نوع من التطابق بين أحداث الرواية وأحداث حياة كتابها. «فيوميات نائب في الأرياف» لا تختلف عن «عصفور من الشرق» أو عن «عودة الروح» في صلتها بمراحل مختلفة من حياة توفيق الحكيم. وقد لفتني المازني إلى هذه الخاصية عندما أطلق على روايتيه اسم «إبراهيم الكاتب» و«إبراهيم الثاني» كما لو كان يلفت انتباهنا إلى أوجه الصلة بالكاتب الأصلي والقناع الروائي الذي يرتديه. وينطبق الأمر نفسه على «سارة» التي قيل إنها قصة حب حقيقية مرّ بها العقاد في علاقة بممثلة معروفة، لاتزال حية ترزق إلى اليوم مدّ الله عمرها.

البحث عن الرومانسية

والآن عندما أسترجع هذه الروايات التي قرأتها في زمن بعيد، اكتشف أنها جميعاً لا تخلو من عنصر رومانسي غالباً، وأن هذا العنصر هو الذي جعلني أقترب منها، وأتعاطف مع أبطالها وبطلاتها، وهذا أمر طبيعي على أي حال، فالمرء في سنوات المراهقة والحلم يميل إلى هذا النوع من الروايات، فإذا تركته النفس انتقلت إلى الفضاء الأقرب للرومانسية، وأحسب أن هذا هو السبب الذي دفعني إلى قراءة روايات يوسف السباعي الذي كان ملء السمع والبصر في الخمسينيات، خصوصا أنه كان ينتمي إلى الجيل الأحدث بالقياس إلى جيل هيكل وطه حسين والعقاد الذين فرغوا من نشر أعمالهم الأساسية مع اقتراب الحرب العالمية الثانية في الأغلب الأعم. أما الجيل الأحدث الذي ينتسب إليه أمثال يوسف السباعي وإحسان عبدالقدوس ومحمد عبدالحليم عبدالله، فقد بدأ الكتابة، على نحو متزامن، وبدأ النشر في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية في نوع من التتابع الزمني، تجاور في محمد عبدالحليم عبدالله الذي نشر روايته الأولى «لقيطة» سنة 1947، بينما أصدر السباعي روايته الأولى أحمس: بطل الاستقلال سنة 1943. شأنه في ذلك شأن علي الجارم الذي بدأ رواياته التاريخية برواية «شاعر ملك» سنة 1943. ويشبهه في تاريخ النشر ونهج الكتابة التاريخية محمد سعيد العريان الذي نشر روايته الأولى «قطر الندى» سنة 1945. ويمكن أن نضيف إلى هؤلاء من حيث الزمن لا مذهب الكتابة، يحيى حقي الذي أصدر «قنديل أم هاشم» سنة 1944، وأصدر بعدها بعشر سنوات «صح النوم» سنة 1955. وقد تأخر إحسان عبدالقدوس في نشر كتابه الأول «أنا حرة» إلى سنة 1954 التي أصدر فيها عبدالرحمن الشرقاوي روايته «الأرض» كما أصدر محمد كامل حسين «قرية ظالمة» وثروت أباظة «ابن عمار» سنة 1954.

ولم يكن محمد عبدالحليم عبدالله بعيدا عن السباعي في منحاه الرومانسي الذي كان يثير تعاطفنا مع الأبطال الفقراء الذين يجاهدون في الحياة، دون سلاح سوى الرغبة في العلم، ويقودهم الإخلاص، والطيبة التي تنطوي عليها قلوبهم، إلى العبور إلى بر الأمان. وكالعادة، كانت قصة الحب ذات الأبعاد الرومانسية هي أصل الحبكة، في تتابع الروايات التي تبدأ بلقيطة أو ليلة غرام، وتمضي عبر «بعد الغروب» و«شجرة اللبلاب» و«الوشاح الأبيض» و«شمس الخريف» و«غصن الزيتون» وليس انتهاء بروايات مثل «من أجل ولدي» و«سكون العاصفة» و«الجنة العذراء» التي أظنها آخر روايات محمد عبدالحليم عبدالله.

متعة التاريخ

ولن أنسى، في هذا الاسترجاع، الدور الرائد الذي قامت به روايات جرجى زيدان في اهتمامي بالرواية التاريخية التي لاتزال لها متعتها الخاصة في تذوّقي للرواية، وقد كان لهذا الرائد الذي سبق أجيال رواد الرواية بسنوات عدة فضل صياغة تاريخ التمدن الإسلامي صياغة روائية شائقة، فقد كان يحرص على رواية الأحداث التاريخية كما هي واردة في كتب التاريخ، ولكن يجمع بينها قصة حب، تنطوي على العديد من التوابل التي تجعل لرواياته مذاقا خاصا وجاذبية آسرة للقراء الصغار من أمثالي. وبالطبع، لم ألتفت، أثناء قراءتي الباكرة لهذه الروايات إلى حرص جرجي زيدان على اختيار لحظات زمنية دالة، وأنه أراد لرواياته أن تكون تاريخا روائيا لتعاقب التمدن الإسلامي، لا التاريخ المجرد، أعني أنه كان حريصا على تجسيد قيم التسامح الديني، والتسوية بين البشر على أساس مدني يجاوز الدين، أو لا يتحول فيه الدين إلى عائق للتمدن، ولذلك كان التركيز على دور المثقف الذي تتجسد في حضوره مبادئ التسامح واحترام الاختلاف، وحرية الفكر تركيزا له دلالته التي ترتبط بوعيه بأهمية الدولة المدنية التي لا تمايز بين مواطنيها على أساس من دين أو عقيدة أو عرق، وأظنه نجح في تسريب هذه القيم إلى وعيي دون أن أنتبه، فقد كان بارعا في تذويب أفكاره عن الدولة المدنية التي هي مرادفة للتمدن في سياقات السرد والشخصيات.

ويبدو أن الذين مضوا في الكتابة الروائية التاريخية قد تعلموا من جرجي، وخرجوا من عباءته خصوصا علي الجارم الذي حرص على إبراز اللحظات المضيئة في شعره، فمزج ما كان يسميه المرحوم عبدالمحسن طه بدر «الرواية التعليمية» بأمشاج الرواية الفنية، وقدم ما بين 1943 - 1949 ما لا يقل عن ثماني روايات، منها «شاعر ملك» (1943) و«مرح الوليد» (1943) و«غادة رشيد» (1945) و«فارس بني حمدان» (1945) و«خاتمة المطاف» (1947) و«الشاعر الطموح» (1947) و«هاتف من الأندلس». وكان الجارم شاعراً ينتمي إلى مدرسة الإحياء على طريقة أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، ولذلك حرص على أن يكتب رواياته بلغة صقيلة، لا تفارق عقلانية الوعي الذي يفرض نفسه على عواطف الشخصيات وطموحاتهم. ولكن على نحو يمتّع القارئ لهذه القصص كما يمتّعها شعره المتاح في الأعمال الكاملة لدواوينه التي يهتم بنشرها ابنه الوفي لذكرى والده.

ولا يختلف اتجاه علي الجارم عن اتجاه محمد فريد أبو حديد، وكلاهما من كبار رجال التعليم، فكانت الرواية الأولى للثاني بعنوان «ابنة المملوك» التي أصدرها سنة 1928، وأشرفت على إعادة طبعها في المجلس الأعلى للثقافة، حين احتفلنا بذكراه، فطبعنا الرواية التي سبقت «جحا في جانبولاد» (1944) و«الملك الضليل: امرؤ القيس» و«المهلهل سيد ربيعة» (1944) و«أبو الفوارس عنترة» (1947). وقد أصدر بعد هذه الروايات التي حددت مكانته في روايات التاريخ العربي رواية «آلام جحا» (1948) و«أزهار الشوك» و«الوعاء المرمري». وختم حياته الروائية برواية «أنا الشعب». وهي عمل بعيد عن مدى الرواية التاريخية وأقرب إلى الرواية الواقعية التي لا تخلو من عرق رومانسي، يتجلى في شخصية البطل المكافح الذي يعي فرديته، ولا يتوقف عن تحدي الظروف، فيتحقق له ما أراد في موازاة ما حققه الشعب الذي ثار للحصول على حقوقه.

واقعية نجيب محفوظ

ولكن نجيب محفوظ هجر النزعة الرومانسية إلى نزعة مغايرة أقرب إلى الواقعية النقدية التي كتب بتأثيرها «خان الخليلي» (1945) ثم «القاهرة الجديدة» (1946) و«زقاق المدق» (1947) و«السراب» (1948) و«بداية ونهاية». وهي أنضج روايات مرحلة النقد الاجتماعي، السابقة على الثلاثية التي اكتمل نشرها سنة 1957. وكانت أصوات الدعوة إلى الواقعية قد أصبحت أكثر ارتفاعا، خصوصا مع دعاة الواقعية الاشتراكية الذين وجدوا نموذجها المثالي في رواية «الأرض» لعبدالرحمن الشرقاوي التي لم تكن، في حقيقة الأمر، سوى رواية تنتسب إلى الواقعية النقدية، على النقيض مما ذهب إليه محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس «في الثقافة المصرية» وهو الكتاب الذي كان الموازي المصري لكتابات حسين مروة في لبنان، وبالطبع لم أكن أفهم هذه الفروق عندما قرأت روايات نجيب محفوظ، ابتداء من خان الخليلي إلى الثلاثية وانتهاء برواية الأرض. كانت هناك اختلافات يسهل ملاحظتها، مثل أن روايات نجيب محفوظ تدور في القاهرة وأبطالها أفندية، بينما رواية الأرض تدور في القرية وأبطالها فلاحون، لكن مع تتابع سنوات العمر، وتراكم الخبرة، عرفت أن أبطال نجيب محفوظ أقرب، طبقيا، إلى شخصيات البرجوازية الصغيرة، الممزقة بين خوفها من الهبوط إلى الأدنى ولهفتها في الصعود إلى الأعلى، وأن هؤلاء الأبطال ممزقون، فكريا، بين نقيضين أقصى اليمين وأقصى اليسار، وأن الفشل يصيب الحديين منهم، بينما لا ينجو سوى أبطال الوسط الذين يجمعون بين الدين والعلم، ويؤمنون بأن الاشتراكية لا تتعارض مع العلم على نحو ما رأيت في شخصية حسنين في «بداية ونهاية». وكان التحليل النقدي لهذه الرواية هو البحث الذي كلفني به أستاذي المرحوم عبدالمحسن طه بدر في السنة الأخيرة من الدراسة بقسم اللغة العربية، وذلك قبل أن أتخرج، وأتخصص في دراسة الشعر، وأفرغ له سنوات دون الرواية التي كانت مدخلي إلى دراسة الأدب العربي الحديث كله.

لكن الذي لم أتنبه إليه إلا فيما بعد أن روايات نجيب محفوظ الواقعية النقدية هي التي قطعت ما بيني وبين الروايات الرومانسية، بما فيها الروايات البوليسية، وأنها مثل مجموعات يوسف إدريس، أنضجت وعيي الأدبي، وفصلت ما كان يربطني بيوسف السباعي أو إحسان عبدالقدوس أو السحار أو محمد عبدالحليم عبدالله، فأصبح نجيب محفوظ هو كاتب الواقعية الأول الذي يشدني إلى الواقع، كي أغوص فيه فهما، فأخرج أكثر خبرة ونضجا، وأكثر إدراكاً لمحدودية الرواية الرومانسية التي أزاحتها أعمال نجيب محفوظ، مع قصص يوسف إدريس ورواياته القصيرة. وعندما وصلت إلى هذه الدرجة من الوعي أدركت أن مراحل المراهقة قد ولّت كالأحلام التي لابد أن نفيق منها على الواقع الذي يشدنا، ويدفعنا إلى اتخاذ موقف من الصراع الاجتماعي الدائر فيه. ولكن ماضي القراءات الرومانسية ظل باقيا كالذكرى البعيدة التي تثير الحنان إلى ماض مغرق في الضباب، لكن لا يمكن عودته، وما أكثر ما شعرت باختلاف الأجيال عندما قرأت لنجيب محفوظ، ذات مرة، أنه من جيل قرأ كثيراً وبكى كثيراً، وأن المنفلوطي كان يبكيه بقصصه، فضحكت في سري على الهوّة بين الأجيال، والاختلافات الجذرية بينها، فأنا لم أستطع إكمال المنفلوطي بأسلوبه التقليدي الذي يتناقض مع مضمون الهشاشة العاطفية، الذي لم يكن يفارق أبطاله، وما أكثر ما ضحكت عندما حاولت أن أقرأ «العبرات» ولم أكمل قراءة قصصه الغارق في الدموع، فقد كنت ابن جيل مختلف، لا يحتمل ذوقي هذه الزخارف اللغوية ولا كل هذا الكم من الدموع التي تنهمر من أعين الأبطال والبطلات لأهون الأسباب.

 

 

جابر عصفور