قصص على الهواء

قصص على الهواء

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص؟
---------------------------------------

بريد إلكتروني: إسلام أبو شكير اللافت في هذه القصة قدرة كاتبها على التحكُّم في جملته السرديّة، وصياغتها لتكون مناسبة تماماً لمسألتين: الأُولى، تسلسلها التشويقي واستطراداتها، مما يجعل من القصة عملاً متصاعداً، من دون مبالغة أو ترهُّل، باتجاه «الإضاءة» المُنيرة في السطور الثلاثة الأخيرة. والثانية، تطويعه للّغة بحيث ناسَبَت لغة المخاطبة العاديّة الخالية من الصنعة، والتكلّف، والأدبيّة المغالية في إظهار ثقافتها من دون مبرر. كما نجحت القصة في المحافظة على «تقليديّة» جنسها الكتابي المألوف، لكنها بدت حديثة الرؤية في كيفيّة معالجتها للمفارقة التي نظمت النصَّ وأبقتهُ حاضراً في الذهن، بعد الانتهاء من قراءته، وباعثاً على توليد الأسئلة.

زيتونة: جمال صالح سعيد بين الافتتان بجمال الطبيعة وتقدير مفرداتها بالمحافظة عليها «شجرة الزيتون العتيقة الحيّة»، والرغبة الشاذة في امتلاكها وحيازتها دون الآخرين، تدور أحداث هذه القصة التي عملت على ترجمة هذين البُعدين لدى الإنسان عبر جُملة من المسلكيات اليوميّة. والجميل في ذلك هو انتقاء القاص لأكثر من مسلكٍ، يدلل على الاحتفاء بالحياة، وارتباط سيرورة الزمن بتقلّب زوايا النظر إلى الشجرة. كما ينبغي الإشارة إلى ذكاء الكاتب، حين ربط رغبة الحيازة الأنانيّة بالشخصيّة العسكريّة، دون الشخصيات الأخرى، مما يفتح المجال واسعاً لتعدد القراءات.

سروال حريري: محمود حسن فرغلي نجحت القصة، عبر شريطها السردي القصير والمكثّف، في حشد مجموعة شخصيات متباينة في ملامحها المرسومة على نحوٍ واضح، والتي يجمعها المكان الواحد، وتفرقها الهموم المختلفة. وتكمنُ جماليّة القصة في بناء المشاهد المتتاليّة والسريعة، باختصار ولكن بغير نقصان، مما أضفى عليها سلاسةً آخذةً بالقارئ، نحو نهايتها الطريفة بعيداً عن التصنع أو المبالغة.

الزبيبة: صلاح معاطي إضافةً إلى البساطة غير المسطحة في الكتابة، لغةً وبناءً وصعوداً إلى الخاتمة، تتحلّى هذه القصة بمنطوقٍ جريء وواضح يشير إلى زيف علامة الإيمان «الزبيبة وسط جبين الرجال دلالة على السجود والتعبّد» لدى كثرة من الناس، واعتبارها ستاراً تُخَبأ وراءه مجموعة مخالفات أخلاقيّة، وخطايا تخالف جوهر الدين، ونفاق اجتماعي باتَ مستفحلاً في حياتنا اليوميّة. القصة تدين المظاهر الكاذبة، وتؤكد على أنَّ حقيقة الإنسان إنما تستقر في باطنه، وأنَّ ما نراه مجرد أكاذيب وتلفيقات ينبغي ألاّ ننخدع بها.

---------------------------------------

بريد إلكتروني
إسلام أبو شكير (سورية)

عزيزي السيّد «س1»:

أعلم أنّ رسالتي هذه ستجعلك بكلّ بساطة تتّهمني بأنّني أبله، أو متطفّل، أو ما إلى ذلك من الأوصاف. لا بأس. فأنا لست بصدد الدفاع عن نفسي، في الملفّ المرفق ستجد صورةً لي. وقد تتساءل عمّا يمكن أن تصنع بها. وقد يخطر لك ألاّ تنظر فيها أصلاً. هنا عند هذه النقطة، أجد نفسي مضطرّاً إلى أن أتوسّل إليك ألاّ تحرم نفسك الفرصة للوقوع على حقيقةٍ أعتقد أنّها ذات معنى بالنسبة لك، لا أرسل إليك، صورتي لتتعرّف إليّ، بل لغرضٍ آخر مختلف. قليلاً من الصبر فقط، وستعرف.

دعني، قبل أن أحدّثك عن صورتي، أن أتوقّف عند صورتك أنت. تلك التي نشرت بجانب قصيدتك الأخيرة في مجلّة «المعرفة». سأختصر، منذ وقعت عيناي على صورتك، شعرت بما يشبه الخضّة في روحي. شيءٌ ما كان منسيّاً، أو مهملاً، وجاءت صورتك لتوقظه على نحوٍ عنيف، كاد يفقدني صوابي. ليست صورتك أنت هي التي أحدثت كلّ هذا في روحي. ماذا أقول؟!. ما أعنيه بالضبط أنّ شيئاً معيّناً في الصورة هو الذي أودّ التحدّث عنه. باختصار: نظرتك. وإلى حدّ ما ابتسامتك. لا أدري. هذه النظرة ليس لها سوى تفسير واحد.

هنا قبل أن أكمل؛ اسمح لي أن أطلب إليك أن تتأمّل صورتي أنا. أرجوك أن تتمعّن في نظرتي. نظرتي على وجه الخصوص. وفي ابتسامتي أيضاً. هل لاحظت؟.. ألستُ محقّاً فيما أريد قوله؟.. طبعاً أنا لم أقل شيئاً بعد. لا بأس. سأحاول.

نظرتك هذه لا يمكن أن تكون على هذا النحو ما لم تكن مصوّبةً نحو شخصٍ بعينه. لست مجنوناً. التماعة العينين. هذا القدر بالذات من التوهّج الذي يحيط بالحدقتين. انكماش الجلد على نفسه في منطقة الجبين. رائحة الصابون الدسمة التي تنبعث من مكانٍ ما. كلّ ذلك لا يمكن أن يحدث ما لم تكن «ع» موجودة. لا تقل لي إنّك لاتعرفها. «ع» هي التي التقطت لك هذه الصورة. كانت أمامك. أستطيع أن أراها.. بل لا أشك في أنّها كانت ترتدي فستاناً أبيض، بكمّين قصيرين، وفتحة صدر مدوّرة. هذه النظرة ليست هي ذاتها التي يمكن أن تصدر عن رجلٍ يقف أمام «ع» وهي ترتدي فستاناً أحمر مثلاً، أو بنطال جينز. مستحيل. ولعلّي لاأبالغ إذا أخبرتك أنّها كانت دون مكياج على الإطلاق. أي بكامل طراوتها وصفائها.

عد إلى صورتي أرجوك. هل انتبهت إلى أنّ نظرتي وابتسامتي لاتختلفان عن نظرتك وابتسامتك؟.. هل انتبهت؟.. السرّ بسيط جداً. ذلك أنّ «ع» هي التي التقطت لي هذه الصورة. وكانت حينها بفستانٍ أبيض ذي كمّين قصيرين، وفتحة صدرٍ مدوّرةٍ أيضاً. كانت قد خرجت لتوّها من الحمّام، ولم يتح لها أن تضع مكياجاً على وجهها.

لا أريد أن أتطفّل فأطلب إليك أن تخبرني بنوع علاقتك بها. أنا لست بحاجةٍ إلى ذلك، لأنّني ببساطة أعرف، نظرتك وابتسامتك تكشفان كلّ شيء. بوسعي أيضاً أن أؤكّد أنّك كنت قبل لحظات تقبّلها. ابتسامتك تشي بذلك. أعرفها هذه الابتسامة. الانفراجة الصغيرة بين الشفتين تشير إلى أنّ ثمّة كلمة «أحبّكِ» على وشك الانطلاق. أكاد أسمع رفيف أجنحتها. «أحبّكِ» هذه التي كنت تتهيّأ للنطق بها، ما إن تنتهي عمليّة التقاط الصورة هي أشدّ ما استوقفني. استوقفتني درجة حرارتها المرتفعة. الريش الناعم الملوّن الذي يكسوها..

لا يهمّني كيف تعرّفت إلى «ع».. يكفيني أنّها سعيدةٌ معك.. طبعاً.. لو لم تكن سعيدة بالفعل لما كانت نظرتك وابتسامتك على هذا النحو. هذه نظرة رجل إلى امرأة سعيدة به.

والآن ستسألني ماذا أريد بعد؟. لاشيء في الحقيقة. أو لنقل إنّه شيء واحد. أنت تعلم. فعيد ميلادها قريب. أرجو أن تنقل إليها تهنئتي. وإذا كنت قد فهمتني جيّداً، وتريد أن تكون كريماً معي، يمكنك أن تزوّدني بإيميلها لأرسل إليها بنفسي بطاقة تهنئة.

المخلص
«س2»
«ع» حياتي:

وصلتني رسالةٌ هذا اليوم من شخصٍ لا أعرفه. نصّ الرسالة وصورة الشخص تجدينهما في الملفّين المرفقين. كان من الضروريّ أن أطلعك على الأمر أوّلاً. في البداية ظننت أنّ الرجل يهزأ بي. لكنّك ستقرئين الرسالة، وسترين الصورة، وستكتشفين أنّ الرجل لم يكن يكذب. كيف لي أن أفسّر ذلك؟.. لن أرهق نفسي كثيراً في هذا الموضوع. على أيّة حال فاتني أن أسألك عن أحوالك. أن أشكرك أيضاً على باقة الورد التي أهديتِني إيّاها في لقائنا الأخير. يبدو أنّ لديكم أشياء كثيرة لا نعرفها هنا. نوعٌ من الورد لم أر مثله من قبل. هل تصدّقين؟! إنّه يتكاثر من تلقاء نفسه. في زيارتك المقبلة سترين كيف غطّى جدران منزلي وأجزاء من السقف. حتّى المطبخ. أمس اكتشفت أنّه بدأ ينمو قرب حوض الجلي. لا تتأخّري عنّي. يجب أن أراك الليلة. لا. لن أفتح معك سيرة الرجل صاحب الرسالة. صدقاً. الموضوع لا يهمّني. كنت أتساءل فقط عمّا إذا كنت تفضّلين أن أزوّده بإيميلك كما طلب. هنالك أمر آخر. لا أدري هل أخبره بالحقيقة؟ أأقول له: «توفّيتْ منذ عامين. لكن اطمئن. إيميلها مازال شغّالاً. تستقبل الرسائل عليه. أنا شخصيّاً أراسلها دائماً عبره. في كلّ يوم تقريباً. وأحياناً عدّة مرّاتٍ في اليوم الواحد. المشكلة فقط أنّها لا تستطيع أن ترسل منه شيئاً. والسبب كما ترى واضح؟»... أم تريدين أن تتولّي الأمر بنفسك، وعلى طريقتك؟.. أن تقومي بزيارةٍ له في أحد أحلامه كما تفعلين معي دائماً..؟

بانتظارك.
قبلاتي.

زيتونة
جمال صالح سعيد (سورية)

- قريتكم رائعة يا سيدي النقيب؛ فيها زيتونة من عهد نوح! أهلك يسلمون عليك كثيراً. السيدة والدتك قالت إنك لا تنسى شيئاً، وقال الوالد إنه سيضع السرير الذي بعثته له تحت الزيتونة..

كانا يجلسان في ظل الزيتونة التي رأيتها في عز الظهيرة، بقيا يشربان تحتها حتى فجر اليوم التالي. يومها سألني أبي إن كان مكتوباً في كتبي المدرسية حقيقة أن هابيل هو الذي زرع هذه الشجرة أم لا. وقبل أن أقول شيئاً، قال الأستاذ أسعد، أبو فينيقيا، إن أميرة فينيقية أكلت حبة زيتون، ورمت بذرتها هنا، فنبتت تلك الزيتونة! إن روعة هذه الشجرة، وطيب هوائها قائمان على أن بذرتها مرت على شفتي الأميرة الفينيقية! وإذا لم تذكر الكتب ذلك، فلقصور فيها وفي عقول مؤلفيها! الغريب يا رقيب طارق أن هذه الزيتونة ليست لأحد، وقد سأل عابر في قريتنا يوماً علي الفاضل: «لمن هذه الشجرة؟» فقال له: «هذه شجرة حرة، لا يملكها أحد.» فقال العابر: «إذاً، هي ملك الجميع.» فرد عليه علي الفاضل: «بل هي تملك الجميع.»

في تلك الأمسية، ظل أبو عروة يتحدث عن تلك الزيتونة بلا توقف:

«ظلها لا كالظلال. في الهواء القريب تطير أحاديثنا، فتغفو على حضنها. وحين تفيق، يذروها ويلملم أشلاءها هواء لذيذ لا كالهواء! في الهواء القريب، تختبئ أحاديثنا، ويحرص ذاك الهواء عليها ككنز. نتنفس تاريخنا، وتاريخ أجدادنا؛ فالهواء هناك يشبه نبض القلوب الطري، ويشبه نبض القلوب القوي، ويشبه أرواحنا».

أصلح أبو عروة وضع نظارته. وأصلح وضع ابتسامته. وقال: «من يعرف تل الهوى، يعرف تلك الزيتونة. فكل دروب العيون تؤدي إليها! لكل البيوت نوافذ، وكل النوافذ ترنو إليها. أليفة كالسماء. وكالبحر في المدن الساحلية. تذهل أهل البوادي... بدا حديث أبو عروة، المتكئ على فصاحة وبلاغة تخصانه، مملاً. فحاول سيادة العقيد تحويل دفة الحديث، وسأل أبو عروة: «هل تتذكر أبو فينيقيا؟»

ـ مَن مِن تل الهوى يستطيع نسيانه؟ كان رحمه الله يجلس مع والدك تحت تلك الزيتونة، وكان يجهد نفسه في شرح أفكار فلاسفة وشعراء ومؤرخين. عندما قال له والدك: «اسمع يا أستاذ أسعد، إن ارتجاجة نهد تساوي كل أفكار الأرض! وحدود العالم لاتتعدى بالنسبة لي كثيراً حدود تل الهوى. أما عاصمة الدنيا، فهي هذه الزيتونة.

بقي الأستاذ أسعد حتى مات، وهو يحاول أن يقنع أهل تل الهوى وزيتونتها وحجارتها وكل ما يجري فوق أرضها، بأفكاره. لم يتزوج الأستاذ أسعد. وكان أبو أحمد المرابع هو من لقّبه أبو فينيقيا لكثرة ما تحدث عن الفينيقيين. أعجبه اللقب، والتصق به، حتى نسي الكثيرون أن اسمه هو أسعد.

مات أبو فينيقيا تحت تلك الزيتونة. هكذا فجأة.. مات! بعد ثلاثة أيام من وفاته، سكب أبو موسى على قبره ما تبقى من ألفية بدأ بشربها قبل يوم واحد من الوفاة.

***

دمعت عينا أبو موسى وهو يسمع حفيده مازن يقول لأمه:

«ما أكبر جثتها يا أمي!»

استاءت أمه من كلمة «جثة». تابع الصبي وهو يخلع قميصه الأزرق المتسخ: «لقد حلقوا شعرها، فأصبحت جثة صلعاء!» رمى الولد قميصه فوق كرسي بلاستيكي أخضر. كانت أمه تبكي من جديد. بكت عندما رأت الشجرة تهوي. تابعت تقشير الباذنجان المشوي. كانت تحاول، وتفشل، في ألا تنظر إلى المكان الذي كانت تنتصب فيه شجرة الزيتون.

ـ لماذا تبكين يا أمي؟

نظرت إلى وجه ابنها، تذكرت قسوته وهو يصف الشجرة المقتلعة. نظرت إلى الزغب الذي بدأ يسودّ فوق شفته العليا. تجاهلت سؤاله، وقالت موبخة: «أما زلت صغيراً لكي توسخ قميصك؟ أهنا يضعون القميص؟». دمعت عينا أبو موسى مرة أخرى، وهو ينظر إلى جذع الزيتونة المقتلع. علّق نعوتها على جدران ذاكرته، وعلى جدران كأسه، ومشى مطرقاً في جنازة الزيتونة، وصار الهواء فوق رأسه تابوتاً. في ذلك المساء، قال لأم موسى:

ـ ماتت! إنها الصاحب الأخير.

ـ وأنا؟ ألا أعني لك شيئاً؟

رد مبتسماً بأسى:

ـ أنت الحب الأول والأخير.

وحين علم أن لابنه موسى يداً في اقتلاع الزيتونة، سافر إليه ليقول له: «لو بُلتك فوق كوم أحجار، لكان أفضل من أن أنجبك! أأنت من يقطع الزيتونة؟! وأية زيتونة؟!» ولكنه عندما وصل، اكتفى بالتعبير عن أساه قائلاً: «يا حيف! لقد قُتلت أجمل زيتونة في العالم».

سروال حريري
محمد حسن فرغلي (مصر)

خرج زعيزع من ملابسه، لم يبق إلا على سرواله الحريري الجديد، كان قد اشتراه من سوق العرباوي بالفسحة القبلية بعد أن لعن وسبّ آباء سنيه زوجته وأمهاتها حتى سابع جد، فهي لاتكف عن الطلبات، من لبن بودره للصغيرة وحفاظات وأدوية وأطباء، وغير ذلك من احتياجات المنزل. أمسك زعيزع بالخرطوم الطويل ووضع بدايته في فم الصنبور، وحمل طرف النهاية التي تعلو عشرين لفة من البلاستيك.. يخطو زعيزع خطوتين فتنفك الدائرة الأولى متحولة إلى خط مستقيم، وتتواصل الدوائر منفكة حتى يبعد الرجل عن باب المنزل خمسة عشر مترا، ثم يعود ثانية إلى الصنبور ليفتحه. تتدفق المياه فيهرول الرجل ليسبقها ويمسك بنهاية الخرطوم، يرسم على أرض الشارع خطوطا من الماء، لعلها تخفف الحرارة عن المنازل التي احتمى ببرودة قلوبها السكان، وأغلقوا كل النوافذ بعد أن صارت السنة فصلا واحدا من الصيف في صحراواتهم الواسعة، يصب الماء على وجه الأرض وعلى جسده العاري أيضا ليطفىء لهيبه. كأنه يرسم بالماء ملامح المنطقة السكنية لأبناء الواحة بخرطوم مياهه الضعيف.

تفتح روميه النافذة الخلفية لمنزلها، تطل على شارع زعيزع الذي سمي باسمه لانه أول من سكن به، حتى يتمكن هو من القفز إلى الداخل.. أسرع زعيزع إلى روميه، ترك خرطومه يرسم ترعة صغيرة وسط رمال الشارع. أغلقت روميه النافذة خلفه بسرعة حتى لايلفت نظر أى عابر سبيل.

أخذت سنيه تنادي على زوجها فلايجيب، سمعت صراخ ابنتها سماح الصغيرة من شدة الجوع بعد أن فرغ اللبن البودرة، كان لبنها قد جف، في الشهر الثالث، عقب وضعها لسماح، بسبب عفريت من الجن، قابلها أثناء زيارتها لقبر أمها. أسرعت سنيه بالخروج حتى لتخبر زوجها، وجدت الخرطوم الملقى على الارض، استغربت من اختفاء زوجها، أخذت تنادي عليه بأعلى صوتها، ولامن مجيب، لملمت المرأة الخرطوم وأغلقت الصنبور وحملت صغيرتها إلى بيت أبيها، قبلت يديه حتى يرق قلبه على حفيدته الصغيرة فيمنحها القليل من أمواله التي يجنيها من تجارته في الإبل.

دق عدلي ريمان باب منزله، قفز زعيزع من النافذة الخلفية، عاريا حتى من سرواله الجديد، جرى الى باب بيته فوجده موصدا، واصل الدق دون جدوى، فتحت كل نساء الشارع نوافذهن من شدة الطرق، شاهدن زعيزع عاريا، سارعت إحداهن الى طلب الشرطة، وحملته سيارة مستشفى الأمراض النفسية، قبل أن تعود زوجته.

تغادر سنيه حاملة ابنتها لتبدأ رحلة بحثها عن الزوج فتخبرها النساء عن مكانه.. تسرع الى المستشفى، يرفض الأطباء طلب مقابلتها لزوجها نظراً لسوء حالته، تعود من حيث جاءت، وتهرول إلى أخوته الخمسة الذين يفشلون بدورهم في انتزاعه من بين الحالات المستعصيه.

يسأل عدلي ريمان روميه زوجته عن السروال الحريري الأبيض الجديد الذي يعكس كل حرارة الشمس الحارقة ويشعر الجسم بالبرودة فتخبره بشرائها له من سوق العرباوي بالفسحة القبلية فيرتديه لأسابيع طويلة.

الزبيبة
صلاح معاطي (مصر)

سوداء، مستديرة، ليست كاملة الاستدارة تتخللها نتوءات وخطوط أشبه بحروف قدسية، تتوسط الجبهة، تنمو عليها منذ أن كان صبيا يسعى خلف أبيه تجاه المسجد.. بدأت كغلالة خفيفة أعلى الجبهة أخذت تتكثف وتتركز وتشتد.. حتى صنعت على جبهته تاريخا مجيدا يعرفه كل من يراه، فيكسبه وقارا وتقديرا بين الناس. صار وجودها مصدرا لأمنه واطمئنانه، يصافحها مع كل آذان ويغسلها بماء طهور عند الوضوء.. اعتاد كل صباح أن يرنو إليها في المرآة فيتأملها بعينيه، ويتحسسها بأنامله، ويتمتم ببعض الأهازيج والأدعية، فيقر قلبه وتهدأ نفسه ويصفو باله.. حتى عرف بها.. أبو النور.

ذات صباح استيقظ أبو النور من نومه ضائق النفس، مكروش الصدر مهموما على غير عادته، لا يدري سر هذا الشعور الغريب الذي تغلغل داخله، فجعله عصبي المزاج لا يطيق أحدا، حك قدميه بالأرض في طريقه إلى الحمام وهو يرغي ويزبد.. دخل رافعا رأسه بحركة لا إرادية إلى المرآة ليستقبل قريرته العزيزة الساكنة على صفحة جبهته، انتفض وهو يبحلق في المرآة غير مصدق. صرخ بصوت خنقته الحسرة:

- أين الزبيبة؟

لم ير في المرآة سوى جبهة فارغة منطفئة، خامدة، مظلمة. خفق قلبه وراح يدق بعنف وهو يفتش في ثنايا وجهه عن زبيبته. أسرع إلى زوجته وراح يهزها بعنف ويصيح وهو يشير إلى رأسه:

- بهيجة.. أين ذهبت؟

انتفضت كمن لدغها عقرب: هل دخل لص علينا? المجوهرات?!

دفعها ثم عاد إلى الحمام وهو يترنح ويصيح: أي مجوهرات أيتها المخبولة. لقد ذهبت زبيبتي؟

امتلأت عيناه بالدموع.. لا يتذكر أنه فعل شيئا يستوجب فقدان خاتم الطهر والنقاء، فهو لا يكف عن التسبيح والشهادة، لم ينقطع عن المسجد ليلا أو نهارا، يصوم رمضان وستا من شوال، بالإضافة إلى الاثنين والخميس، يؤدي الزكاة بسخاء فضلا عن الصدقات التي يمنحها للفقراء كلما تيسر، حج البيت خمس مرات، ويعتمر في كل عام مرتين أو ثلاثا.

يسكت قليلا كمن تذكر شيئا عارضا لم يزن له وزنا.. سوى تلك النظرة الساربة التي تسللت رغما عنه نحو حسناء كانت تتمخطر.. لكنه سرعان ما غض بصره والتزم جانب الطريق، غير أنه لا يتذكر ما إذا كان نظر خلفه ليتابعها بعينيه أم لا.

أيكون السبب هو الحديث الذي دار بينه وبين إسماعيل زميله في العمل حول زميلهما سعيد.. فقد خاض في عرضه وحياته وانتقد شحه وتقتيره وتغامز عليه مرات أمام الزملاء، أو ربما المبلغ الذي تقاضاه من أحد العملاء نظير إنجازه مصلحة له، أو الشهادة التي أدلى بها في المحكمة قبل شهر ليخلص أحد معارفه كان متهما بالاختلاس ويوقع بريئا مكانه.

بدأ ورعه يخور وتقاه يتداعى وينهار أمام صحيفة سوابقه التي تفتقت عن زبيبة ضائعة.. أيمان كاذبة، وشهادة زور، وجور ظالم، وتزلف مغرض، وقطيعة رحم.. شعر لوهلة أنه يحمل آثام البشرية بأسرها منذ بدء الخليقة وهو الذي كان يظن أنه في منأى عن الذنوب والخطايا.

لم يجد بدا من رسم زبيبة بالوشم مشابهة تماما لزبيبته الهاربة، وفي مكانها نفسه. شعر بالاطمئنان قليلا بالرغم من أنه يدرك أنها زبيبة صناعية، لكنه أنس لوجودها على جبهته، ولكن لم تمض سوى ساعات قلائل واكتشف أبو النور ضياع الزبيبة الثانية.. ذاب الوشم واختفى تاركا مكانه علامة قميئة ناتئة تدل على فعله الأثيم. جن جنونه، أمسك بقضيب حار توهج طرفه في النار حتى احمر وأحرق مكان الزبيبة، لم تظهر الزبيبة بل ظهر مكانها أثر مشوه لحرق ينذر صاحبه بنار مستعرة، أسقط في يده راح يدك جبهته في الحائط بعنف، لكن الزبيبة تستعصي عليه، ظهر مكانها جرح دام راح ينزف بغزارة، بينما انطلق أبو النور يجهش بقوة في جزع ويأس.

لم يستطع الخروج من البيت ولا اللحاق بصلاة الجماعة في المسجد كما اعتاد،. لم تكن زبيبته فقط هي التي اختفت، فقد اختفت أيضا زبيبة صديقه إسماعيل المزدوجة حتى أنهم أطلقوا عليه أبو النورين وزبيبة سعيد أبو الأنوار الثلاثية.

ما إن تلاقت عيونهم حتى أجهشوا بالبكاء كمن فقدوا عزيزا غاليا. وانضم إليهم آخرون فقدوا زبيباتهم، اقترح أحدهم أن يبادروا بالصلاة راجين الله أن يرفع عنهم البلاء. لم يعد الأمر يتعلق بفقد زبيبة.. علامة في الوجه، بل الأمر أخطر من ذلك بكثير. فجأة اختفى أبو النور.. كان يجلس هنا في المسجد بينهم يقلب يديه حائرا لا يدري ماذا يفعل، يدعو الله أن يعيد إليهم نورهم المفقود.. لكنه كفص ملح وذاب، لم يعد له أثر، مثله مثل زبيباتهم التي أفلت عن وجوههم، فاحتواهم ظلام كئيب طمس معه كل نور.

ذات يوم اقترب من المسجد رجل وصاح:

- أتعرفون هذا الرجل؟

كان الرجل يشير إلى جثة مغطاة أمام المسجد.. كشفوا عن وجهه ليجدوه أبا النور.. رحمة الله عليك يا أبا النور. كنت نورا بيننا دون أن ندري.. وقفوا ينظرون إلى وجهه الذي استعاد نضارته وارتسمت على شفتيه ابتسامة وضاءة تشي بأن صاحبها بات قرير النفس مستقر القلب راضي البال، غير أن علامة سوداء برزت أعلى جبهته، لسوادها نور وبهاء، ليس كمثله نور على وجه الأرض.

وظل سؤال حائر يتردد بينهم لم يجدوا له إجابة.. ما الذي فعله أبوالنور لكي يستعيد زبيبته؟.

 

 

إلياس فركوح