نقل التكنولوجيا

نقل التكنولوجيا

دخلت الدول المتقدمة ثورة جديدة في مجال العلم والتكنولوجيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، في حين أن الدول المتخلفة لم تقترب بعد من ثورتها الأولى، بل وتعاني الأمرّين التخلف العلمي والتكنولوجي.

تكتفي الدول المتخلفة الآن بجمع ما توفره مائدة الدول المتقدمة من فتات العلم والتكنولوجيا، ولو بأعلى الأثمان، ودون أن يكون ذلك بالضرورة ملائماً مع بناها الاجتماعية والاقتصادية والبشرية. وقد عجزت هذه الدول - بما فيها - بالطبع - الدول العربية - حتى الآن عن رسم سياسة وطنية عقلانية وواضحة المعالم بالنسبة لما يجب وما يمكن الحصول عليه من علم وتكنولوجيا من الخارج، وما لا يجب ولا يمكن الحصول عليه عن طريق الاستيراد.

وتتصف التكنولوجيا السائدة في الدول النامية بصفتي البدائية والازدواجية. فالتكنولوجيا تكون بدائية عندما نجد أن المعدات والأساليب الإنتاجية والتنظيمية المستخدمة لم يطرأ عليها تغير أو تحسن يذكر منذ زمن بعيد، بل يتوارثها الناس جيلا بعد جيل. وهذا هو الحال في الدول النامية بالنسبة لجزء من القطاع الزراعي الموجّه لإنتاج السلع التي تلبي الطلب المحلي. أما في القطاع الأولي الموجه للتصدير، فنجد تكنولوجيا حديثة أدخلها المستثمر الغربي منذ أيام الاستعمار القديم في مجالات التعدين واستخراج النفط «وتكريره في حالات معينة كما في عبدان» وإنتاج المطاط الطبيعي والبن والشاي والكاكاو وما شابه ذلك، ونلاحظ في يومنا هذا أن الشركات الأجنبية، إما أنها لاتزال مسيطرة على بعض هذه النشاطات، أو أن حكومات الدول النامية قد أخذتها على عاتقها، وفي الحالتين نلاحظ أن التكنولوجيا المتسخدمة تكون في الغالب تكنولوجيا مستوردة.

وبالإضافة إلى القطاع الأولي الموجه للتصدير، فإن القطاع الصناعي الحديث العهد الذي حاول الكثير من الدول النامية إقامته في العقود الثلاثة الأخيرة، يستخدم أيضاً تكنولوجيا كثيفة، وهي تكنولوجيا رأس المال المستوردة من الخارج. وعليه فإن التكنولوجيا في الدول النامية، إما أنها بدائية، وإما أنها حديثة مستوردة في الغالب من الدول الغربية المتقدمة. ووجود تكنولوجيا بدائية وحديثة في الوقت نفسه، وفي البلد نفسه، وفي القطاع نفسه أحياناً «القطاع الأولي»، هو ما يعرف عادة بخاصة «ازدواجية التكنولوجيا» في الدول النامية.

ويمكن للتكنولوجيا أن تكون مجسدة Embodied أو خشنة Hardware, يمكن أن تكون غير مجسدة Disembodied أو ناعمة Software.

فالتكنولوجيا المجسدة تتجسد إما في رأس المال البشري، أو في المعدات والآلات والتجهيزات الرأسمالية، بل وفي السلع الاستهلاكية المعمّرة «السيارة، الراديو، التلفزيون.. إلخ». أما التكنولوجيا غير المجسدة فلا تأخذ أشكالا مادية، وإنما تتمثل في المعرفة المتعلقة باستخدام وصيانة وتوطين وتطوير التكنولوجيا المجسّدة، وتحويل خلاصات البحوث العلمية المبتكرة إلى تطبيقات علمية وعملية مفيدة في النشاطات الاقتصادية والاجتماعية.

ماذا نعني بنقل التكنولوجيا؟

من الممكن فهم مسألة نقل التكنولوجيا على مستويين: المستوى الوطني بأنه تحويل خلاصات البحوث العلمية المبتكرة التي تقوم بها الجامعات والمعاهد ومراكز البحوث إلى منتجات وخدمات وطرق إنتاج، وخصائص تتجسد في السلع الرأسمالية والوسيطة والاستهلاكية المنتجة بهذه الطرق. ويطلق البعض على هذا النوع من النقل «النقل الرأسي» للتكنولوجيا.

أما على المستوى الدولي، فعندما نتكلم عن «نقل التكنولوجيا» فالمقصود نقلها من دولة متقدمة قادرة على تحقيق «النقل الرأسي» فيها إلى دولة أقل تقدماً لم تستطع بعد- على أي نطاق معقول - أن تنجح في إنجاز «النقل الرأسي» للتكنولوجيا فيها.

ومثل هذا النقل من الدولة المتقدمة إلى الدولة الأقل تقدماً يأخذ في أبسط أشكاله نقل الطرق والأساليب التكنولوجية من الأولى إلى الثانية، دون إجراء أي تعديلات أو محاولات لتكييف هذه الطرق والأساليب مع الظروف الاجتماعية والاقتصادية والبيئية السائدة في الدولة الأقل تقدماً. ومثل هذا النقل يطلق عليه عادة «النقل الأفقي» للتكنولوجيا. وبقدر ما يتم تعديل «النقل الأفقي» مع الظروف المحلية، يكتسب درجة أعلى من نمط «النقل الرأسي»، وبالتالي يكتسب درجة أعلى من النجاح في التوطن في البيئة الجديدة، إذ كما أن النمو الاقتصادي الأفقي لا يؤدي عادة إلى التنمية الاقتصادية التي تتجسد في أحد أهم مؤشراتها في زيادة مطّردة في إنتاجية عوامل الإنتاج - أي في نمو اقتصادي رأسي - كذلك فإن «النقل الرأسي» للتكنولوجيا هو المؤشر الأكيد إلى تطور تكنولوجي حقيقي ينبع أساساً من البيئة المحلية، أو، كما هي الحالة العامة، يندمج مع معطيات البيئة المحلية بعد أن يكون قد مر بنجاح في مراحل متلاحقة من تعديل وتكييف في مرحلة «النقل الأفقي»، وتوطين وتطوير وابتكار في التربة المحلية. ولا يمكن اعتبار نقل التكنولوجيا عملية ناجحة بقدر ما يتحول «النقل الأفقي» للتكنولوجيا إلى «نقل رأسي» يرتبط ارتباطاً عضوياً وديناميكياً بهياكل المجتمع المحلي والبيئة التي تحيط به.

ويترتب على ذلك أنه إذا كان من الأسهل نسبياً - إذا ما توافرت الأموال المطلوبة - استيراد التكنولوجيا المجسّدة «أو الخشنة» في آلات ومعدات وتجهيزات ومعامل جاهزة، وفي الخبراء والفنيين والأيدي العاملة الماهرة، فإن استيراد التكنولوجيا الناعمة «أو غير المجسدة» أمر غاية في الصعوبة لأنها تشكّل جزءاً لا يتجزأ من الإطار الحضاري الذي تنشأ فيه، وتتحول إلى جزر معزولة إذا «نقلت» إلى بيئات حضارية مختلفة جذرياً. وإذا كانت التكنولوجيا الناعمة غاية في الصعوبة في النقل لأنها غير معروضة للبيع والشراء، فإنه من الممكن اكتساب بعض عناصرها من خلال التعلم والممارسة العملية إذا توافر مستوى معقول من التطور الاقتصادي - وبالأخص الصناعي - ومن القدرة الوطنية على «البحث والتطوير».

قنوات نقل التكنولوجيا

والسؤال الذي يطرح نفسه هو: ما القنوات التي توصل التكنولوجيا إلى الدول النامية؟ هناك في الواقع العديد من القنوات، بعضها يلعب دوراً أساسياً في نقل التكنولوجيا، والبعض الآخر يحظى بدور ثانوي.

وأهم القنوات التي يتم نقل التكنولوجيا من خلالها من الدول المتقدمة إلى الدول النامية هي القنوات المرتبطة بنشاطات الاستيراد والاستثمارات الخارجية المباشرة، وعقود الرخص وبراءات الاختراع والعلامات التجارية وخدمات الشركات الاستشارية والمعارض الدولية. كذلك فإن الأفلام والمنشورات ووسائل الإعلام الأجنبية تنقل أنواعاً من التكنولوجيا، وبالأخص تلك التي تؤثر في أذواق المستهلكين في الدول النامية وأنماط حياتهم وثقافاتهم.

بالنسبة للنشاط الاستيرادي، فمن الواضح أن الآلات والمعدات والتجهيزات والمصانع الجاهزة - في بعض الأحيان - والكثير من السلع الاستهلاكية التي تحصل عليها الدول النامية من الخارج تتجسّد فيها إلى حد بعيد التكنولوجيا التي أنتجت بها. وهكذا، من حيث المبدأ، تستطيع الدول النامية أن تحاول الكشف عن هذه التكنولوجيا المجسدة بطرق شتى، من بينها فك الآلات والأجهزة إلى أجزائها، ودراستها، وإعادة تركيبها، كما فعلت اليابان بنجاح من قبل. وفي حين أن درجة من هذا التقليد أمر حاصل في الكثير من الدول النامية، بالأخص في جنوب - شرق آسيا «الصين، ماليزيا، كوريا الجنوبية»، فإن الكثير من الدول النامية لا يملك حتى هذه القدرة على تفكيك وإعادة تركيب مثل هذه السلع الرأسمالية والاستهلاكية. كما أن تجربة اليابان في هذا المجال لم تكن مجرد تقليد أعمى، بل جاءت جزءاً من مشروع حضاري متكامل لنهضة اليابان.

أما القناة الثانية التي يتم من خلالها نقل التكنولوجيا فتأخذ شكل الاستثمارات الأجنبية المباشرة في الدول النامية. ومعظم هذه الاستثمارات يتم عن طريق «الشركات المتعددة الجنسيات». وعندما تقوم هذه الشركات باستثماراتها المباشرة في الدول النامية دون مشاركة من أي طرف محلي، فإنها تجلب معها «عدتها» الكاملة لإقامة مشاريعها بما في ذلك «الحزمة التكنولوجية» Technological Package التي تحتاج إليها والتي تشمل دراسة الجدوى الفنية والاقتصادية للمشروع المزمع إقامته، والقيام بالأعمال الهندسية والتصاميم المطلوبة، وإحضار الخبراء والفنيين والإداريين، والمعدات والآلات، والإشراف على إنجاز المشروع وعلى مباشرته في الإنتاج والتسويق. إلا أن الكثير من الدول النامية - وبالأخص في دول الخليج النفطية كالمملكة العربية السعودية والإمارات العربية وقطر - أخذت في يومنا هذا تفضل أسلوب الدخول في المشاركة Joint Ventures مع الشركات المتعدية الجنسيات.

وأسلوب المشاركة هذا يتم عادة بين شركة عالمية معروفة وطرف محلي في دولة نامية. ويمكن أن يكون الطرف المحلي هو حكومة الدولة النامية نفسها، أو إحدى مؤسسات، أو مؤسسة تنتمي إلى القطاع الخاص. وتبدأ المشاركة أولا في اقتسام رأس المال بين الطرفين. وقد أصبح هناك عدد متزايد من الدول النامية - وبالأخص النفطية - يلح على امتلاك أكثر من 50% من أسهم المشروع المشترك، أملاً في أن يمنحها ذلك قدرة أكبر على التأثير في سياسات الشركة، وخصوصاً في مجال الاستفادة من المعرفة التكنولوجية التي يقدمها الطرف الأجنبي. وقد يقدم الطرف المحلي الخدمات الأساسية التي يتطلبها المشروع «الكهرباء، الهاتف، الماء،... إلخ» بأسعار رمزية أو مدعومة. كما يمكن أن يقدم بعض المستلزمات الإنتاجية - كالنفط والغاز في مجال الصناعات البتروكيماوية - بأسعار مخفضة أيضاً. أما الطرف الأجنبي فيأخذ على عاتقه المسائل المرتبطة بإقامة المشروع وتشغيله وصيانته وإدارته وتسويق منتجاته.

والطريق الثالث الذي يتم بموجبه نقل التكنولوجيا إلى الدول النامية يأخذ في الوقت الحاضر شكل الدخول في عقود وتراخيص Licences وبراءات اختراع Patents وعلامات تجارية Trade Marks بين شركة متعدية الجنسيات في الغالب «غير قادة أو راغبة في القيام باستثمارات مباشرة في دولة نامية ما لأسباب معينة» وبين شركة محلية خاصة أو عامة حيث تسمح الأولى للثانية باستغلال الرخصة - أو البراءة - أو العلامة التجارية, حسب شروط وقيود يتفق عليها مسبقا «مثلا: حرمان الشركة المحلية من الحق في التصدير والاكتفاء بالسوق المحلية لكيلا يترتب على ذلك منافسة للمنتجات المماثلة للشركة الأم أو لفروعها في الدول الأخرى، أو منعها من الجمع بين علامات تجارية لشركات منافسة.. إلخ». كذلك تقدم المعارض الدولية للسلع الاستهلاكية والرأسمالية قناة أخرى لتعريف المستوردين بما هو متاح في الأسواق الدولية من سلع بأنواعها، وبعض المنشورات التي تحتوي على بعض المعلومات عن خصائص هذه الآلات والمعدات. وقد أخذ دور المعارض الدولية يزداد أهمية في الآونة الأخيرة في مجال تعريف الدول النامية بما تنتجه الدول الأخرى، الأمر الذي يساعد في عقد مقارنة بين مختلف المنتجين سواء بالنسبة لجودة ما يقدمونه من منتجات أو بالنسبة لأسعارها.

ومن أهم قنوات نقل التكنولوجيا في أيامنا هذه القناة المتمثلة بالخدمات التي تقدمها المكاتب والشركات الاستشارية consulting firms.

وإذا كانت الشركات المتعدية الجنسيات تسوق السلع والأساليب الإنتاجية التي لا تتعارض مع مصالحها على المدى البعيد، فإن المكاتب والشركات الاستشارية تقدم «تكنولوجيا أخذ القرار» Decisional Technologies، أي أنها هي التي تقوم بإجراء دراسة الجدوى الاقتصادية للمشروع. ويمكن القول إن الشركات الاستشارية تشكل الإسمنت الذي يجمع الأجزاء المختلفة لعملية نقل التكنولوجيا مع بعضها بعضا لأنها تقدم في الوقت نفسه القناة، والآلية لنقل التكنولوجيا.

وسواء تم نقل التكنولوجيا عن طريق الاستيراد المباشر، أو من خلال الاستثمار المباشر في الدول النامية والذي يأتي في معظمه على أيدي الشركات الأجنبية، أو من خلال المكاتب والشركات الاستشارية، أو من خلال مزيد من هذه القنوات وغيرها، فإنه من الواضح أن السوق الدولية للتكنولوجيا هي سوق أقرب ما يمكن وصفها بسوق احتكار القلة، والمتمثلة في وجود عدد قليل من الشركات الاحتكارية المحتكرة للمعرفة التكنولوجية تعرض تكنولوجياتها ودراساتها للجدوى الاقتصادية على حكومات الدول النامية ومؤسساتها الخاصة.

ومثل هذه السوق تقوم على المساومة بين طرفين غير متكافئين بحيث تأتي النتيجة لمصلحة الطرف الأكثر معرفة بظروف السوق، والأكثر قدرة على التحكم في هذه الظروف. وهذا يعني أن «الصفقة التكنولوجية» تكون عادة لمصلحة الشركات العملاقة.

----------------------------------------

لَيْسَ الصَّدِيقُ الَّذِي تَعْلُو مَنَاسِبُهُ
بلِ الصديقُ الذي تزكو شمائلهُ
إنْ رابكَ الدهرُ لمْ تفشلْ عزائمهُ
أَوْ نَابَكَ الْهَمُّ لَمْ تَفْتُرْ وَسائِلُهُ
يَرْعَاكَ فِي حَالَتَيْ بُعْدٍ وَمَقْرَبَة ٍ
وَلاَ تغبكَ منْ خيرٍ فواضلهُ
لا كالذي يدعى وداً ، وباطنهُ
من جمر أحقادهِ تغلي مراجلهُ
يذمُّ فعلَ أخيهِ مظهراً أسفاً
لِيُوهِمَ النَّاسَ أَنَّ الْحُزْنَ شَامِلُهُ
وَذاكَ منهُ عداءٌ في مجاملة ٍ
فَاحْذَرْهُ، وَاعْلَمْ بَأَنَّ اللَّهَ خَاذِلُهُ

محمود سامي البارودي

 

 

علي تركي