صناعة الطبيب العربي وكيف نثق به؟

صناعة الطبيب العربي وكيف نثق به؟

مع زيادة الجامعات الخاصة في العالم العربي - ومن بينها كليات الطب - يتساءل المرء عن نوعية الأطباء الذين ستدفع بهم أرحام مثل هذه الجامعات الخاصة إلى ربوع المجتمع العربي وواقعه؟

عند عودتي من الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا، يممت شطر بعض الجامعات الخاصة حباً بالالتحاق بهيئاتها التدريسية، وسعياً لتقديم خبرة أربعة عشر عاماً من الخبرة الغربية لزملائي الجدد، فهالني واقع هذه الجامعات وحالة طلابها!! فقد تبينت أن لأكثر هذه الجامعات هدفاً تجارياً محضاً خالصاً من أي جانب أكاديمي من شأنه تطوير واقع الطب في البلاد العربية!! وعليه فإن إدارات تلك الجامعات تقوم بالبحث عن أعضاء هيئاتها من ذوي الأجور الرخيصة ودون خبرة في مجال التدريس الجامعي والبحث العلمي، وتعوزها الكوادر الملحقة التي من شأنها دعم المسيرة العلمية الطبية، وعلى صعيد آخر تتقاضى هذه الجامعات أقساطاً خيالية من طلابها لا تتناسب مع دخل المواطن العربي في أغلب البلدان القائمة فيها، كما أن لهذه الجامعات شروطاً أكاديمية أقل من جامعات الدولة المعتمدة، فكأنها بذلك جعلت من نفسها جامعات «درجة ثانية» على هذا الصعيد.

ولقد جمعتني مناسبات عدة ببعض طلاب كليات الطب من هذه الجامعات الخاصة، فلمست منهم عن كثب المعاناة التي يكابدونها، فبعض هذه الجامعات فرض على طلابه أقساطا إجبارية للسكن الجامعي الملحق بها وهي أقساطٌ ليست بالقليلة، فإن أراد الطالب السكن الخارجي وجب عليه أن يدفع أقساط بدل السكن لأنه رفض السكن الجامعي، فأي فكرٍ نبغ بهذه الأفكار التي لا تمت لصناعة الطبيب بصلة؟! ويمكن أن يقال الأمر مثله على وسائط النقل، ولقد ذكر لي عدد غير قليل عن رغبته في ترك هذه الجامعات للالتحاق بجامعات غربية لمتابعة تحصيله الطبي لما لاقاه بعضهم من تقصيرٍ من أعضاء الهيئة التدريسية تجاههم! فأشار أحدهم إلى أنه لا يثق بنفسه ولا بعلمه الطبي وهو على أبواب التخرج، وأرجع ذلك إلى قلة احتكاكه بالمرضى، وحتى في حال الاحتكاك بالمرضى فإن فقد الكادر المُدرب كان عاملاً في عدم إثمار تلك الخبرة. وذكر آخر كيف أوصد أمن الجامعة الباب في وجهه لتأخره عن امتحان مادة صيفية لمدة خمس دقائق، وعزى ذلك إلى مادية الجامعة التي ستجبره على إعادة المادة لتتقاضى مبلغاً يربو على الألف دولار. وعلى الرغم من أن الطالب قدم طلب تظلمٍ لعميد الكلية ورئيس الجامعة ومجلس أمنائها، سيما أن لتأخره ما يبرره، فإن شكواه ذهبت أدراج الرياح!!

الكم أم النوع؟

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يحتاج العالم العربي إلى زيادة كمية؟ أم نوعية في كليات الطب لصناعة طبيب عصريٍ منافس في السوق العالمية وقادرٍ على أن يبدع كسلفه في ميدان الطب؟ أم ترانا بحاجةٍ إلى العاملين: الكمي والنوعي معاً؟ ثم ما السبل لتحقيق القفزة النوعية في كليات الطب في العالم العربي لتصل إلى مصاف مثيلاتها في العالم المتحضر، ولتكون نقطة جذب لطالب الطب العربي في المستقبل، فيتخلى عن فكرة الهجرة للغرب للتدريب والاختصاص؟

أنا أوقن أن العامل النوعي هو العامل النوعي المنشود عربياً، وأما العامل الكمي فعاملٌ محلي يختلف من بلدٍ عربي لآخر؛ فسورية ومصر مثلاً

لايعوزهما المزيد من كليات الطب إذ إنهما يصدران فائض إنتاجهما لا عربياً فحسب بل عالمياً، بينما تحتاج معظم دول الخليج العربي مثلاً إلى مزيد من الأطباء.

ولكن كيف لنا أن نرقى بالنوعية في صناعة الطبيب العربي؟ وهذا هو همي الأول وهم كل طبيب مخلص في هذه الأمة.

وحقيقة فقد يكون لنا في تجارب الدول الغربية نماذج تقتدى، والتي يمكن أن أعرضها بإيجاز ومن واقع التجربة المتواضعة التي عشتها في كلٍ من أوربا والولايات المتحدة الأمريكية.

فعلى الصعيد المحلي أو الداخلي ،يمكن للتعاون بين وزارتي الصحة والتعليم العالي أن ينعكس إيجاباٌ على طلاب الطب من خلال تحويل كل المشافي والمستوصفات التابعة لوزارة الصحة إلى مشاف تعليمية مختلفة المستويات والغايات. وتسمح مثل هذه الخطوة بفسح المجال لكل طالب طب، ومن السنين الأولى أن يرتاد مثل هذه المشافي في مدينته خلال العطل الصيفية ليتآلف مع الأجواء الطبية وليكتسب بعض الخبرات الأولية التي تكون عوناً له فيما بعد على فهم أفضل لمناهجه التعليمية السريرية. ولا يخفى على أحد التأثير الإيجابي لوجود طالب الطب على الممارس العام والأخصائي، الذي سيقيد الممارسة ضمن الأطر الأكاديمية إن صح التعبير مما ينعكس إيجاباً على المريض وخدمته. وعلى الصعيد العربي، فيمكن لكليات الطب أن تغني تجربة خريجيها بتبادل الطلاب المنسق فيما بينها مما يؤدي إلى تفتح آفاق الطلاب من جهة، ولتبادل الوسائل والخبرات التعليمية عبر الطلاب أنفسهم من جهة أخرى، فيمكن لأحدنا مثلاٌ أن يتخيل ما سيجنيه طالبٌ جزائري في المشافي السورية، وما يمكن أن ينقله الطالب نفسه إلى هذه المشافي من أفكار، ويمكن لمثل هذه العلاقات الطلابية أن تكون لبنات لتجارب أكثر نضجا في المستقبل عند تخرج الطلاب المشاركين في هذه العملية.

الطب والسياسة

ويمكن أن يقال الأمر نفسه على طلاب الدراسات العليا في العالم العربي، إذ يمكن لتبادل الخبرات عبر طلاب الدراسات بين جامعات العالم العربي وجامعاتها التعليمية أن يثري خبرات الطبيب والعملية التدريبية التعليمية معا. والعامل الواجب توافره لنجاح هذه العملية والذي يجب على الجامعات العربية ومشافيها أن تتبناه بجرأة هو فصل الطب عن السياسة!!. فالقرارات الصادرة عن معظم وزارات التعليم العالي وجامعاتها ومثلها وزارات الصحة العربية تعكس الواقع العربي السياسي الهش بكل مساوئه. ويعد البورد العربي المنبثق عن جامعة الدول العربية في أواخر الثمانينيات شاهداً حياً على دعم هذا الاتجاه. لقد استبشر الكثير بتلك الخطوة العلمية الرائدة في سبيل تحسين الاختصاص الطبي في الوطن العربي، ومحاولة خلق بنية تحتية علمية مشتركة بين الأطباء العرب عبر هيئة علمية مشتركة تجمع في عضويتها أطباء رواد يمثلون قادة الطب في العالم العربي. ولعل من أسمى أهداف هيئة البورد العربي كان خلق فرص عمل في الدول العربية للمجازين منه أسوة بالبورد الأوربي والأمريكي. لكن الواقع السياسي العربي المنهزم ألقى بظلاله الكئيبة على الساحة الطبية العربية فما إن ظهرت الخلافات السياسية بين بعض الدول العربية، حتى تنصل بعضها من الاعتراف بالبورد العربي وضرب بمجازيه والمزايا التي مُنحت لهم عرض الحائط!

المرض العربي والسفر للخارج

وقد قمت بزيارة إلى مركز م.د. أندرسونM.D. Anderson في هيوستن Houston تكساس Texas لحضور أسبوع عمل مكثف عن آخر التطورات في علمَي أمراض الدم و السرطان. و يعد م .د. أندرسون المركز الأول من نوعه في العالم في هذين المجالين، وهو المركز الذي جعل من شعار: «أن نجعل السرطان تاريخاً:To «Make Cancer a History، هدفا يسعى لتحقيقه!

ما هالني في ذلك المركز، بجانب تقنياته الحديثة الشاملة، أمران: أولهما هو كثرة رواده المرضى من الخليج العربي، حتى يُخيل إليك وأنت تدخل بهو الاستقبال فيه أنك ترتاد مشفى في بلد عربي، و يعزز هذا الشعور عندك أن تقرأ كل اللافتات والشواخص لا بل حتى الإعلانات باللغة العربية! أقول هذا لأنه في المصالح والخدمات العامة بالغرب تجد التعليمات والشواخص بكل لغات الأرض إلا اللغة العربية في تهميش لا أظنه إلا مدروسا بدقة على طاولات الساسة والقادة الغربيين وليس الأمر محض صدفة عابرة، لأن الأمر جد مكرر في كثير من المواقع والمحافل.

والأمر الآخر المثير للانتباه هو كثرة الأطباء العرب العاملين في المركز من ذوي الاختصاصات العالية في كل الميادين التي تشمل العناية بمريض السرطان. والجدير بالذكر أن إدارة مثل هذه المراكز تسعى لأن يشرف الطبيب العربي على علاج المريض العربي الزائر وذلك إيماناً منها بأن التواصل اللغوي الفعال بين الطبيب ومريضه هو السبيل الأجدى للحصول على أفضل النتائج المتوخاة، وحرصاُ منها أيضاً على توفير نفقات المترجمين.

ولا يخفى على الأطباء الذين عملوا بالغرب أمثالي أن المريض الزائر للعلاج في الغرب هو صيد ثمين لا يفوت لأن أرباح المشفى منه هي أضعاف مضاعفة ما تجنيه هذه المؤسسات من مواطنيها أصحاب التأمين الطبي. والسبب في ذلك يعود إلى أن نفقات العلاج المقدمة لشركات التأمين تمر عبر حسبةٍ معقدة من العمليات بأيد خبيرة همها الأول زيادة أرباح المشفى أو المركز وبما يسمح به القانون. وتقوم شركات التأمين بدور الرقيب العتيد عند تفاوضها مع المشافي والمراكز والتدقيق على كل البيانات لتخفيض النفقة، بينما لايجد المريض الزائر الذي لا يملك تأمينا طبيا يحميه على أرض البلد المضيف، ويتوجب عليه تباعا دفع كامل النفقة دون نقاش! فإذا كان المريض مؤمَّنا صحيا قامت شركة التأمين بالتفاوض مع المشفى لتقليل الكلفة ولا تكاد تدفع لها ثلثي الفاتورة المقدمة!! أما إن كان المريض لا يملك تأمينا صحيا كحال المرضى الزائرين فإنه يتوجب على المريض - وحسب القانون الجاري - أن يدفع الفاتورة كاملة غير منقوصة!! فإذا علمت أن جلسة المعالجة الكيماوية الواحدة تفوق العشرين ألف دولار، تبين لك الأرباح الهائلة لهذه المراكز من جيوب العرب الزائرين، ولقد رأيت بأم عيني كيف فاقت تكاليف مريض أقام لمدة أسبوعين الأربعمائة ألف دولار!!

نزيف الثروات

والسؤال الذي يفرض نفسه ويطرحه كل غيور على هذه الأمة: إلى متى يستمر نزف ثروات هذه الأمة للغرب؟

أليس الأولى أن توظف هذه الأموال في إقامة مراكز رائدة على مستوى نظيراتها في العالم الغربي تُؤسس بكل التقنيات العالمية المتوافرة و تدار بأيد عربية اللسان والقلب، تعي احتياجات المواطن العربي وتدرك عمق ثقافته وجذور معتقداته؟

ربما يقول البعض إن بعضا من دول الخليج قد بدأ السير على هذا الطريق ولكن الحقيقة المُرة أن هذه المشاريع تدار بأيد غربية و بأجور تفوق أجورها في بلادها بينما تُبخس الكفاءات العربية التي أتقنت الحرفة الغربية مثل هذه الفرص، حتى ينال الطبيب العربي الذي لا يحمل جنسية غربية أقل من نصف أجر نظيره الغربي ذي الكفاءة العلمية المثيلة، ولكن بعينين زرقاوين!! هذا الأمر أجبر الكثير من العقول العربية الرائدة على البقاء في الغرب لا ابتغاء خبرةٍ أو مال ولكن طمعاً «بالتطهر» من الجنسية العربية التي ولد فيها من غير ذنب، عله ينال العدالة يوماً من إخوانه ونصيبا من كرامة فشلت دمغته العربية أن تنصفه بها في أرض العرب!!

ومما يدمي قلوب الكثير في الغرب ما رأيناه من استقطاب الهند لأبنائها بعدما أتموا تعليمهم وتدريبهم بالغرب فقُدمت لهم كل سبل الحياة الكريمة المقدمة لهم في الغرب لا بل زادتهم من تسهيلات الاستثمار الذكية ما ساعد على إقامة مراكز طبية عملاقة أصبحت منافسةً لمثيلاتها في الولايات المتحدة، وراحت تسرق المرضى من قلب أمريكا وبأجور جعلت شركات التأمين الأمريكية تضع العلاج في الهند مع كافة نفقات السفر والإقامة كبديل منافس لا يُقام للمريض الأمريكي، في ظاهرة تستدعي النظر والتفكر من سفر المريض الغربي للشرق, بينما لايزال المريض العربي, وبما يملك من إمكانات مادية يطير للغرب للعلاج!.

---------------------------------------

يا غاضبين علينا! هل إلى عِدةٍ
بالوصل يَوْمٌ أُناغي فيه إقبالي
غبتم، فأظلم يومي بعد فُرقَتِكم
وساء صُنعُ الليالي بعد إجمالي
قد كنت أحسبُني مِنكم على ثِقَةٍ
حتى مُنِيتُ بما لم يَجْرِ في بالي
لم أجنِ في الحُبِّ ذنباً أستحق به
عَتْباً، ولكنها تحريفُ أقوالي

محمود سامي البارودي

 

 

صائب عايش الشحادات