ألمانيا - دوسلدورف في معرض

ألمانيا - دوسلدورف في معرض "دروبا 95"

طباعة للقرن الواحد والعشرين

رأينا طبـاعة تحمل في سطـورها وصـورها الإلكترونيـات، وإلكترونيات تصنع دوائرها الطباعة . إنه عالم جديد، بلا زحام، ولا ضوضاء المطابع التقليدية، لكنه يزخر ويضج بـالمدهشـات، ويطل على القـرن القـادم وتحديـاتـه، فيثير كثيرا من الأسئلـة.

الرحلة من الكـويت إلى دوسلدورف ليست قصيرة، لكن الرحلة من تاريخ الطباعة إلى ما رأيناه في معرضهـا بدوسلدورف تعتبر طويلة جدا .. بل إنها قفزة واسعـة في الزمان، تكـاد لا تخضع للقياس بوسائلنا المعتادة.. القديمة.

لقد لبينا الدعوة لحضـور فعاليات معرض تقنيات الطباعة؟ وما قبل الطباعة، المشار إليه رمزا بـ "دروبا 95" والحامل لشعار "أضواء على صناعة الطباعة ، في عاصمة ولاية شمال الراين "دوسلدورف " في الفترة من الخامس إلى الثـامن عشر من شهر مـايو الماضي. وكنا نتوقع أن يكون هناك جـديد .. لكننا لم نكن نتوقع أن يأتي هذا الجديد، ليهز أركـان القديم، ويضع أساليب الطباعة المعتادة في موقف الشك .. بل يكاد يطيح بها،حتى أن فرعا من فروع تقنيات الطباعة التي اعتاد هذا المعرض أن يفسح لها مكانا طوال الفترة الماضية من عمر انعقاده البالغ أربعين عاما.. هذا الفرع المختص بتقنية معالجة الأوراق التي كـانت جزءا مهما من مكونات المعرض السـابق "دروبـا 1990 " ، قد أخـرجت من رحـاب المعرض تمامـا، ونقلـت إلى معرض آخـر هو المعرض الدولي للتوضيب " بابرو "الـذي يعقد أيضا في دوسلدورف. فكأن في هذا الطرد إشارة إلى التحديات التي تواجهها الطباعة المعتادة على الورق، وهي تحديات وقتها ليس المستقبل البعيد، بل القريب، بل إن تعبير" الطباعة البـديلة " صار يستند إلى إنجازات حقيقية في الواقع الحالي، وهو ما جعل الخاطر يحتشد بصور تاريخ الطباعة العتيقـة، كنوع من الحنين، عند وداع الماضي،بينما كانت تتـلاحق أمام البصر صور المنجـزات الحديثة في " دروبـا 95 " ، تحت السقف المقـوس المضيء لمبنى المعرض الألماني العصري، ومع كل خطـوة كان ينقلها  نقلا سريعا الدرج الكهربـائي المبثوث في أربعـة أرجاء المكان، حتى يكـاد لا يترك لحظة لإطـالة الوقوف أمام زائريه الذين بلغوا هذا العام قرابة نصف مليون مشاهد من المهتمين بالطباعة في كل أنحـاء العالم . لكن الحنين كان ينتزع لحظات توقفه أمام صور الماضي، بدايتها المعاصرة هي ألمانية أيضا، أنجزها الألماني" جوتنبرج " في القـرن الخامس عشر وفي تـاريخ يتأرجح بين عـامي 1447 و 1450 ميلادية .

الحاضر يستدعي الماضي

لا بد أن مدينة ماينتس التي ولد بها جوتنبرج وطبع فيها أول كتاب معاصر بالحروف المتحـركة المصنوعة من سبيكة الرصاص والقصدير والأنتيمون ، لا بد أنها تشبه في شيء ما مدينة دوسلدورف التي أقيم في قلبها معرض" دروبا 95 " ، فكـلاهما يرتوي من شريان نهر الراين حيث بقايـا العصر الروماني من القلاع ذات الأبراج والكاتدرائيات القوطيـة والبيوت ذات العليات المسقوفة كالرقم 8 وشوارعها النظيفـة المتهادية المغمـورة جنباتها بخضرة الأشجـار والأزهار . تخطـو الأقـدام على أرض دوسلـدورف بينما يسرح الخيال باتجاه ماينتس فهناك بـدايـة صناعة الطبـاعة وإن لم تكن هناك أصولها. فالأصول أبعـد مكانا وزمنا، في الصين، حيث تعود طباعة أول الكتب إلى زمن حكم أسرة " تا أنج " ( 618 -907 م). ولقـد اكتشفت نسخـة من كتـاب يسمى "سوتـرا الماس " ، وهو من كتب التعاويـذ، في مغارات دونهوانج ، وتاريخ طباعتـه يشير إلى عام 868 بينما كان اسم الطابع هو "وانج جييه "، فهو على الأقل أقدم اسم موثق للطباعيـن الأوائل. بعـد ذلك، وفي عام 1401،وفي الصين أيضا ، أعد " باي شينج "أول حروف متحركة للطباعة . وكان يصنعها مـن الخزف الذي تزداد صلابته بـوضعه في الأفران. أمـا في عهد أسرة سونج (960 -1279) فقد بلغت الطباعة الصينية شأنا مرموقا حيث طبعت سنة 1000 ميلادية مجموعة من الكتب البوذية تضمنت أشهـر وقـائع التـاريخ لـلأسرات الصينية الحاكمة. ولا بد أن ذلك الإرث الصيني قد انتقل بعضه إلى أوربـا عـبر غزوات المغـول والعلاقـات الودية التي تعهدها بالرعاية لويس التاسع والباباوية مع الخانات (أباطرة المغول ) فيما بعد.. ومن ثم كانت قفزة جوتنبرج الطباعية في مدينته الألمانية" مايتتس ".

كـان اسمه الحقيقي " يـوهانس جينفليش " ، أمـا جوتنبرج فهو اسم شهرته، ولد في " ماينتس " أيضا فيعام مجهول بين عـامي 1394 و 1399 ، ومات عـام1468. ويستحضره الخيال عجوزا محنيا بقبعة مغضنة ،وقد انكب على عمله بين شركاء آخرين أصغر منه وأقل خبرة. فأنجـز حوالي عـام 1455 طبـاعـة " الكتاب المقدس"محتـويـة كل صفحة منه على اثنين وسبعين سطرا . وكـانت هذه أول طبعة لاتينية استخدمت فيها الحروف المتحركة. لكن أول "كتاب مقدس"مطبوع ، لمينج من مكائد البشر غـير المقدسة، فقد أقام أحد شركاء جوتنبرج، ويدعى يوهـان فوست أقـام دعوى حصل بمقتضاها على حق الملكيـة الكامل للحروف وجنى كل ثمار ما تحقق عن طباعـة الكتاب المقـدس من كسب. لكن جوتنبرج الدءوب لم ييأس، وواصل عمله . وغزت صناعة الطباعة بالحروف المتحـركة كل أوربـا،لتزيح شكل الطباعة المألوف من قبل، وهو الطباعة بحروف وأشكال بارزة أيضـا، لكنها كانت ثابتة إذ هي في لوح خشبي محفور يطبع نسخا مكـررة على الورق لنصـوص قديمة تصحبها الرسوم.

ما أبعد تلك الصورة البـدائية الأولى لفجر صنـاعة الطبـاعة، عما راحت العين تـراه في جنبات معرض" دروبا 95 " بل، ما أبعد ما تلا ذلك من محطات تطور هذه الصناعة ، عما وصلت إليه أخيرا . فأمام معروضات" دروبا 95 "رأيت طرائق الطبـاعة بـالحفر الضـوئي،والأوفست ، وغير ذلك ، تتضاءل وتتراجع أمام الطباعة الإلكترونية الزاحفة باكتساح . ولعل الدكتور " هانتسهـولسا شينمان "رئيس معرض " دروبا 95 "كـان يقرأ أفكاري عندما قال إنه " إذا كـانت تقنية الكمبيوتـر قد ألغت نشاطات طباعية عديدة، فإنها تفتح بالمقابل آفاقا جـديدة بما تتيحـه من مرونة في العمل لم تكن لتتحقق بغير هذه التقنية ".

لقـد كان يقرأ أفكاري المتسائلة عن مصائر آلاف العاملين في (ورش) الطباعة القديمـة الذين ستحيلهم التقنيات الجديدة إلى التقاعد في عنفوان شبابهم. وكذلك مصائر أصحاب المطـابع التقليدية الضخمة التي ستزيحها جانبا المطابع الجديدة المعتمدة على تقنيات الكمبيوتر. وليت الأمر توقف عند حدود عملية الطباعة وحدها، بل هو يشمل أيضا عمليات ما قبل الطباعة، وهو جـوهر معروضـات " دروبا 95 "إذ إن عمليات ما قبل الطباعة والطباعة، وحتى ما بعدها، صارت كلها منظومة متكاملة تديرها وتنسق بينها تقنيات الكمبيوتر .لهذا وجـدتني انتزع نفسي بتسـارع وأنـا أمضي بين معروضات " دروبـا 95 "لأعيش في الحاضر، حتى لا يضيع المستقبل، فـأعـود إلى واقع مـا أراه في دوسلدررف...

" دروبا " .. أربعة عقود

المدينة - دوسلدورف - هي عاصمة ولاية شمال الراين- وستفـاليا، وعدد سكـان هذه الولايـة يبلغ 17 مليون نسمة. وهي أحد مخازن الطاقة الكـبرى في ألمانيا. كانت ثروتها الأساسية تأتي من مناجم الفحم والفولاذ، لكن هذا الاقتصـاد الأحـادي الجانب تطـور بشكل خـارق وبوتائر متسارعة حتى أن عدد الشركات الصغيرة بالولاية بلغ 000 , 450 شركـة، وهـي صغيرة بـالمنطق الألماني لكنهـا كبيرة بنشاطهـا وبتقنية تجهيزاتها ذات المستوى العالمي الرفيع . وتعد هذه الولاية مركز التقاء خطوط الشبكـة الكثيفة من الطرق السريعة وخطـوط السكك الحديدية والطرق المائية في أوربا كلهـا . أما العـاصمة دوسلـدورف فهـي من أكبر المراكـز الألمانية الماليـة، ومع ذلك تقوم سمعتها العالمية على مرتكـزات فنية لما تضمه متاحفها من لوحات، ولوجود دار الأوبرا الألمانية - على نهر الراين - بها ( دوسلدورف / دوبزبـورغ ) ، إضافة لمسرحها المرموق. كل هذا بينما عدد السكان يتجاوز 75.000 نسمة

في هذه المدينـة القـائمـة على المال والصناعة والفن، يقيمون معرض تقنيات الطباعة "دروبا" وهو مؤشر صناعي ومالي وتطـور يشبه الفن في ذراه كـما تبدى من مواصفـات معروضاته الأخـيرة . وهذا المعرض يقام .كل خمس سنـوات ويعـد أهم معـارض الطبـاعـة في العالم . فالمعرض السابق في عام 1990 استقبل أكثر من 1700 عارض من كل أنحاء الـدنيا . ولقد زاد عدد العارضين هذا العام بنسبـة 65% على أقل تقدير إذ بلغ عـدد الشركات العارضة 1500 شركـة عالميـة من 33 دولة . وأمام هذه الزيادة الضخمة كـان لا بد من توفير مساحـات العرض الكافيـة للمشاركين، وهـو ما تحقق ليس فقط بزيادة مسـاحة العرض تحت السقف المقوس المضيء ولكن أيضا بفضل التنسيق الدقيق وتيسير عملية الانتقال بـين الفعاليات والأجنحة، خـلال القاعات السبع عشرة التي تتكـون منهـا مسـاحـة العرض والتي تضم التخصصات والمراحل التالية :
1 - مـرحلـة مـا قبل الطباعة : معـالجة النص والصورة ، وتتضمن الصـف والتصحيف التجهيـزي،والإعداد لأشكال الطباعة المختلقة .

2 -مرحلـة الطباعـة : تقنيات ومـاكينات وأنظمة الطبع بكل أشكاله.

3 - مرحلة التجليـد والتشطيب : وتتم كلها بشكل آلي حتى وصول المنتج إلى شكله النهـائي،

4 - مواد الطباعة : كـالحـبر، والألوان، والأقـلام،وغيرها ( ومنها الورق الذي تم توجيهه إلى معرض آخر أكثر تخصصا ) .

5 - خدمات صناعة الطباعـة وهي الوسائل الميسرة للاتصالات والتنسيق إضافة إلى التقنيات المحافظة على البيئة ومـراعاة شروط الصحة العامة للعاملين في هذه الصناعة.

هذا ، ويشكل معرض " درويا 95 "مدينة متكـاملة تكاد تفي بكل الاحتياجات التي يلمسها الزائرون فثمة استراحـة خاصـة بالزوار الوافـدين من خارج ألمانيـا،وهناك مسجـد للزوار المسلمين خلف القاعة السـادسة( في الـدور الأرضي ) . وتتوافر المطاعم والمقـاهي داخل وخارج القاعات. كـما أن هناك محلات لبيع المستلزمات المكتبية والخردوات ومكتب بريد وهواتف دولية. هذا وقـد قدمت إدارة المعرض تيسيرات خاصـة بالمكـالمات الدوليـة للضيوف حتى كادت تقترب أسعـارها من مجرد أسعار رمزية لا غير. كما أن إدارة مـدينـة دوسلـدورف بالاتفاق مع مطار المدينـة رتبوا وافسحوا مجالا للرحلات الخاصة الميسرة (الشارتر) لخدمـة قاصدي المعرض الأجانب ومن سائر أنحاء أوربا حيث كان هناك كثيرون من رجال الأعمال الأوربيين والمهتمين بصناعـة الطباعة فيها، يجيئون صباحا ويعودون إلى بلدانهم مساء لقضاء الليل في بيوتهم.

اليوم يطل على الغد

كلمتان يمكنهما تلخيص محتـويات معـرض " دروبا95 "لتقنيـات الطبـاعة وما قبل الطباعة ،هاتـان الكلمتـان هما الـرقميـة Digitalisation والعولمةGlobalisation ، وكلتاهما تدينـان بالفضل لأبرز إنجازات الجزء الأخير من القـرن العشرين على مستوى التكنولوجيا أي : الكمبيوتر، وتقنيات الاتصال الحديثة ، وبالتحـديد آخر ما وصلت إليه تقنيات الحاسوب ومعطيات ثورة المعلومات من ناحية، ومن ناحية أخرى أحـدث تقنيـات الاتصال المعتمـدة على الأقمار الصنـاعيـة والتـواصـل الأرضي عبر الفضاء . فـالمعلومات والصور صـار ممكنا ضغطهما في أصغر حيز وبأدق الأشكـال عبر تحويلهما إلى إشارات رقمية Digital تحملهما وتخزنهما وتعطيهما مكونات الكمبيوتر الإلكترونية. وهـذه الإشارات الكهرورقمية صار ممكنا نقلها بدقة إلى أقرب الأمـاكن أو أبعدها عبر شبكات المعلـومات الـدولية لتصل إلى القارئ مباشرة على شـاشـات الكمبيوتـر الشخصي دون حاجـة إلى الطباعة على الورق، أو نقلها إلى مطبعة حـديثة في أي ركن من أركـان  الكـرة الأرضية عن طريـق الإرسال الفضائي بالأقمار الصناعية وتقرأ في اللحظة نفسهـا التي يطالعها قارئ آخر في أبعد ركن من الكرة الأرضية .

هـذه القفزة في تقنيات الطباعـة وضعت المعـدات الطباعية القديمة، ولا نعني بالقديمة مطابع جوتنبرج ،بل كثيرا من المطابع التي عرضت في فعاليات المعرض نفسه منـذ خمس سنوات فقط أي في " دروبـا1990". وضعت هذه المطابع وأصحـابها في مـوضع الحيرة والخوف فبيئة الطباعة الرقمية التي تعني تحويلا لنصوص الرسوم ( والصور ) إلى أشكال رقمية في الكمبيوتر ثم تستقبلها المطابع وتحولها من شاشات الكمبيوتر إلى مادة مطبـوعة . هذه البيئة الطباعية الجديدة خارج حـدود التأقلم التي تقدر عليها كثير من المطابع القـديمة ( أي التي كانت الأحدث منـذ سنوات قليلة جـدا مضت). وإن كان معـرض " دروبا 95 "يغلق أبواب الأمل أمـام أصحاب ومنتجي هـذه المطابع للحاق بـالركب التكنـولوجي الحديث في صناعة الطباعة ، فقد كانت هنـاك عروض للتطوير باستخدام تقنية قارئات أقراص المعلومات المصغرة، والفيـديـو، وتبادل المعلومات عبر الشبكات والأسلاك . هـذا عن الطباعة، أما عمليات ما قبل الطباعة ، فحدث ولا حرج ...

صارت عمليات ما قبل الطباعة تخضع بشكل متسـارع لمقتضيات العصر الإلكتروني. فالاعتماد على صفائح الزنك بدأ يختفي كليا.وحتى نقل الأفلام بين المنتج والطابع بات طرازا قديما. ناهيك عن أن عملية الصف والإخراج وفرز الألوان بل إعطاء الصور الـوانا أخرى وإضافات جـديدة، كل هذا صار تقليديا في حوزة الكمبيوتر .

الشيء الأخطر الـذي أظهرته معروضات "دروبا 95 "هو عملية إزالة الحواجز بـين المنتج والطـابع،والمعلومة ومتلقيهـا، والمادة الإعلامية وطالبيها في أنحاء متباعـدة من العالم . وهـذا هو جوهر عملية العولمة التي تجري بتسـارع الآن فتنقلنا من الـوقـوف على مشارف القرن الحادي والعشرين إلى الدخول في أهم سماتـه حيث العـالم قرية صغيرة حقيقـة وفعليـا بفضل إمكانات الاتصال النقية القليلة التكلفة. فمن ناحيـة توافرت أجهزة الاتصال التي تنقل المواد والتصاميم والصور بين المنتج والطابعين، وبين الطابعين بعضهم بعضا في أنحاء شتى من العـالم . والمدهش أن يتم هذا التبـادل الكوني بيسر، وبضغط  للتكاليف وللزمن . وهذا يخلق تحديا آخر بين الطـابعيـن الـذين صار عليهم أن يتنـافسـوا على الزبائن أنفسهم وبجميع لغات العالم .

أمـا السؤال الكبير المطروح في مواجهة الطباعة المألوفة على الورق، فهو سؤال " الطباعة البديلة " وهي الطبـاعة الإلكترونية للصور الملونة، فـالصور تتحـول إلى مواد رقميـة يسهل تعديلها وتغييرها وتستنسـخ بمعـدل يعطى خمسة آلاف نسخة في كـل مرة.

وهناك أيضا عملية " الطباعة عند الطلب "حيث يتم التحكم إلكترونيـا في حجم الإنتـاج مما يقلل الفـاقـد ،ويضغط النفقات بشكل يـلاشي الخسائر ، لأن أسلوب الإنتاج يتم في وقت أسرع وبعدد أقل من العاملين .

نفق .. باتجاه سنة 2000

انتهت جولتنا في قـاعات المعرض، بعد أيام متوالية من الرؤيـة المدهشة وإعـادة الرؤية . ومن الخارج - في أرض المعرض المتسعـة - حانت مني التفاتـة متطبعة إلى المبنى الـذي يضم قاعات العـرض .. إنـه يشبه نفقـا طويـلا ذا سقف محدب من الـزجاج وأقـواس الفولاذ ،نفقا طويلا مضيئا تقع أسفل بدايته بناية واجهتها شاشة عرض تليفزيـونية هائلة تعرض لقطـات مما يدور داخل النفق .. لقطات زمنها نهاية قرننا العشرين هذا، لكنها توحي بما ستكـون عليـه تقنيـات القـرن الحادي والعشرين . فكأن النفق يمضي بـاتجاه سنة 2000 بلا مراء، ويفتح بجرأة وثقة على بدايات القرن القادم .

فأين نحن من هـذا النفق المضيء؟ .. أخشى أن أقول إننا خـارجه في تقنيات الطباعة، كمبدعين، ومع الأسف، ولعل هـذا ينبهنـا إلى ضرورة اللحـاق بركب العالم المنطلق بسرعـة، ففي عـللنا العربي عقول وفي جعبتنا إمكانات .. لكننا لا نحرص على رعايتها واستخدامها، بينما إسرائيل- على سبيـل المثال الحاضر في هذا المعرض الدولي لتقنيات الطباعة - تمضي قفزا،فقـد عرضت جهة إسرائيلية ابتكـارا في مجال أنظمة الطباعة الرقميـة ( بالكمبيوتـر ) يعتبر رائدا وهو طبـاعة الأوفست الملونة بلقطـة واحـدة ممـا يسمح للمطابع الرقمية بالوصول إلى التلوين الكامل بستة ألوان وبتنفيذ مطبوعاتها على مواد عديدة بوضوح ويسر ابتداء من رقائق الورق، والبلاستيك، وحتى المعدن والسيراميك .وهي بهذا تـدخل بـالطبـاعـة الإلكترونيـة الملـونة ،وكمنـافس عـالمي، في مجالات التغليف والتـزيين( الديكور ). وحتى تتخيل حجم الاستثمار الممكن الذي يجنيه هـذا الابتكـار، فان الأرقام تقول إن الاستثمار الداخل في مجال طباعة مواد الدعاية التجارية والتغليف والتزيين ( الديكـور ) في الـولايـات المتحدة الأمريكية وحدها يبلغ حجمه 50 بليـون دولار! فلنتخيل حجم الربح الممكن حصاده بابتكار واحد .. إنه يماثل ميزانية كاملة لبعض الدول . إضافـة للدعاية في مجال التقنية الحديثة التي تجني أرباحا بدورها عن طريق تعزيز الثقة في منتجـات أخـرى . وإذا حـاولنا حصر إمكانات العرب ليكون لهم مكان تحت شمس القرن الحادي والعشرين؟ !. استغلال ابتكار كهذا لوجدناه يستخـدم في : مغلفات الأطعمة ، والأدوية، والبطاقات الشخصية، وبطاقات العرس، والأواني بكل موادها من البلاستيك والقصدير حتى الخشب، والحوائط، والأرضيات.. باختصار كلما تسعى إليه الطباعة . والجديد هـنا أن هذه الوسيلة تتيح التلـوين الكـامل دون حاجـة إلى إرسال المواد إلى مطبعة ودون حـاجـة إلى عمليـات فصل الألوان والتجهيز . فكـل ما هو مطلوب اقتناء تلك الآلة التي تشبه آلة " الفوتوكوبي " أو النسخ التصـويري. والنتيجة تفوق نتائج المطابع، فبطاقة الدعوة لحضور عرس على سبيل المثال يمكن طبعها محتوية صورة ملونة للعروسين وبيت الزوجية أو صالة العرس أو أي شيء آخر بشكل يماثل أو يفوق الصور الفـوتوغرافية الملـونة . وتتيح هذه الوسيلة إمكان اقتنائها وبالتالي عدم اللجوء يلي المطابع لأن كل مؤسسة، سـواء كـانت مصنع بسكـويت أو مصنع أدوية، توفر لها هذه الآلة " مطبعتها الخاصة "دون أفلام ولا كيماويات ولا عدد كبير من العاملين .

لقـد تـوقفنـا هـذه الوقفـة ليس بهدف إيلام ذاتنا العربية، بل للتنبيه إلى بطء حركتنا بل وثباتنا في أماكننا ولا أريد أن أقول تقهقرنا. برغم أننا نملك من العقول -وهي الأساس في تحديات العمر - الكثير اللامع والقادر على الابتكـار، بدليل عشرات ومئات العقـول العربية التي تلمع في العـالم فـور العثـور على فـرصة لرعـاية قـدراتها .. في الفيزياء والفضـاء والطب والهنـدسة ، والأسماء كثيرة وشهيرة . فهل نلحق بـركب العلم المسرعون أخذ مكـانا ولو في آخر النفق المضيء حتى نخرج مع غيرنا إلى القرن القادم ونجد موطئا لأقدامنا تحت شمس القرن الواحد والعشرين . أتمنى ويزداد التمني بينما تبهر البصر أضواء النفق ذي السقف الـزجاجي في "دروبـا 95".

في وداع دوسلدورف

حان وقت المغادرة وكان طبيعيا أن تكون هناك جولة وداعية للمدينـة التـي تحتضن النفق المفضي إلى القرن القادم . ومـا أعجـب ذلك الحرص الألماني على تزاوج التقدم الصناعي والجـمال سـواء في الطبيعة أو عن طريق الفن . فالمدينة حديقة شديدة النظافة تتناثر فيها البيوت الأنيقة ذات اللمسة القوطية الألمانيـة العريقـة برغم حداثة التكـوين المعماري . وضفاف نهر الراين تتألق بالخضرة حتى في مراسي السفن النهـريـة التي تسطع بياضا وفخامة . التقنية والجـمال، معادلة صعبة لكن الألمان يحققونها شأن قليل من بلـدان العالم المتقـدمة .

ولقد ذكـرني ذلك بماكينة طباعة في معـرض "دروبا 95 "لفتت إليها الأنظار لأنها ماكينـة بيئية، أي تراعي شروط الحفاظ على البيئة، فهي لا تستخدم كيماويات صناعية بل كل احتياجاتها من الأحبار هي نوع من نواتج الزيوت النباتية والمواد الطبيعية .

معـادلات صعبة، لكن الرغبـة في العمل والحرص عليه والنظر إلى أبعد من مواطئ الأقدام هي الطريق إلى تحقيق تلك المعـادلات برغم صعـوبتها . فليتنـا نفعل. قلتها بكـل الأمل بينما الطائرة ترتفع وتظهـر تحتها أبنية دوسلـدورف محاطـة بـالخضرة، ونهر الراين يمضي بين ضفتين من الخضرة، والنفق المضيء الـذي استضاف معرض تقنيات الطباعة يمتد في رحاب الخضرة .. وهو على موعد آخر لاستضافة الدورة القادمة للمعرض ذاته عام 2000 . فلنتطلـع إلى عـام 2000 القريب.

 

أنور الياسين 

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات




صورة الغلاف





ألمانيا - دوسلدورف في معرض دروبا 95





في معرض دروبا 95





خريطة لألمانيا ووسط الدائرة مدينة دوسلدروف التي أقيم بها المعرض





مطبعة جوتنبرج التي مضى زمنها يدورونها للذكرى والمرح في دوربا 9





تكنولوجيا المطابع الحديثة، مطبعة تستخدم في طباعة الملصقات





الجمهور الغفير الذي يتابع العروض على الشاشات الكبيرة في المعرض





الأبراج العليا في المطابع الحديثة  شدت أنظار الزوار





مبرمج يتابع عملية المسح الضوئي على جهاز الـ سكانر





جهاز قياس درجات الألوان





الكمبيوتر سيطرة كاملة على عالم  الطباعة





منظر عام للمركز التجاري بدوسلدورف





صورة من الجو لمعرض دوربا  95





جهاز قياس كمية الأحبار على الورق المطبوع





وفد مطبعة وزارة الإعلام في لقطة تذكارية بالمعرض





جمهور يتابع عرض إحدى الشركات





صالة عرض دوربا 95 نفق طويل مضئ





على ضفاف نهر الراين كانت مطبعة جوتنبرج الأولى وهذا العام جاء معرض عالم الطباعة دوربا 95 ليعلن عن ثورة الطباعة الرقمية عولمة الإعلام