بيكاسو «صورة ذاتية»

بيكاسو «صورة ذاتية»

طوال خمسة قرون، تعددت سمات الصور الشخصية الجيدة التي تنجح في التعبير عن الأعماق النفسية أو المكانة الاجتماعية، سواءً أكان ذلك من خلال رسم التعابير على الوجه أو الأشياء المحيطة به. ولكن كل ذلك كان يؤخذ بالحسبان بعد التشابه ما بين الصورة والأصل، الذي كان يعتبر «تحصيل حاصل» عند كبار الأساتذة. ولكن بدءاً من مطلع القرن العشرين، لم يعد الأمر كذلك عند بابلو بيكاسو.

في صورته الشخصية هذه التي رسمها عام 1906م، أطاح بيكاسو بكل التقاليد المتبعة في رسم الصور الشخصية دفعة واحدة: وجه بيضاوي الشكل لا يشبه وجهه الحقيقي في شيء، وشعر قصير جداً يختلف تماماً عما كان عليه شعره في ذلك العام، والقميص الأبيض يبدو مسطحاً ومحدداً بخطوط مستقيمة، ويزيد من تناقض الألوان الفاتحة والداكنة، بالرغم من أنها كلها ألوان ترابية تفتقر بشدة إلى النضارة والجاذبية المألوفة في صور الألوان الشخصية.

ولو تابعنا قراءة التفاصيل، للاحظنا الصلابة نفسها في رسم الصدر والعظمة التي تعلوه وقد أصبحت خطا مستقيما. واليد اليمنى الغليظة التي رفع عنها القميص قليلا يصعب علينا أن نعرف ما إذا كانت متراجعة إلى الخلف أم تتحرك إلى الأمام. ولولا خشبة الألوان التي يحملها بيده اليسرى، لما كان هناك ما يشير إلى أننا أمام صورة رسَّام. وأخيرا وليس آخرا، لا بد من الملاحظة أن الفنان يشيح بنظره عن المشاهد، كما أنه في مكان ما لا يمكن القول عنه إنه غرفة.

وعندما نضيف إلى ذلك ضربات الفرشاة الغليظة والعنيفة، التي تختلف عن الدقة المعهودة في التعامل مع الفرشاة كاختلاف «الضجيج» عن «الصوت» على حد تعبير أحد النقاد، نصبح أمام صورة ذاتية لا تمت بصلة إلى ما عهدناه في هذا المذهب الفني حتى آنذاك.

إن كل الفنانين الذين رسموا أنفسهم حرصوا على إتقان التشابه، مهما كان الخطاب الذي حمَّلوه للوحاتهم. ومعظمهم جمَّل صورته، أو سعى إلى أن تكون اللوحة جذابة إلى حدود تجعلها صالحة للزينة. روبنز مثلاً، شاء أن يؤكد مكانته الاجتماعية، ورامبراندت أراد أن يستدر العطف، وأوجين ديلاكروا أراد الظهور بمظهر البطل الرومنطيقي. أما هنا، فلا شيء من كل هذا. حتى أننا نتساءل كيف سوَّغ بيكاسو لنفسه أن يتعامل مع صورته على هذا الشكل؟

في العام 1906م، اكتشف بيكاسو خلال رحلاته التماثيل الطقسية لإسبانيا الوثنية القديمة، بعدما كان قد اكتشف التماثيل الخشبية الإفريقية والأوقيانية في «متحف الإثنيات» في باريس. وقد افتتن الفنان بهذه التماثيل، وبمقاييسها الجمالية التي تتحدى المقاييس الأكاديمية الأوربية وتناقضها تماماً.. ورأى في «قبحها» الغامض والمثير للقلق براءة جذابة. فكان قراره بوجوب العودة إلى هذه البراءة الممتلئة حيوية، والتي يمكنها أن تنفتح على احتمالات لا حصر لها، نظراً لتحررها الكامل من الشروط الأكاديمية.

في صورته الذاتية هذه، بدأ بيكاسو بتطبيق رؤيته الجديدة للفن انطلاقاً من نظرته إلى نفسه، ممهداً الطريق العريض لكل المدارس والتيارات الفنية التي ظهرت في القرن العشرين، ولاتزال تتطور وتتبدل حتى يومنا هذا.

 

 

عبود عطية