مصر أغنية النيل ماضي الخميس تصوير: ماضي الخميس

مصر أغنية النيل

"العربي" تقوم برحلة نهرية ..

لأنه النيل .. ولأنه سر مصر الغامض، وحقيقتها الخالدة. .كانت رحلتنا مليئة بالتساؤلات .ولأنه أعظم هبة من الخالق - عز وجل- لأعرق تاريخ في البشرية فقد كانت رحلتنا مليئة بالإثارة والغرائب !!

إنه عـالم آخر ..مختلف تماما عن العالم الذي نعرفه، مجتمع منفصل تماما عن المجتمع الذي نعايشـه ..لم نره في أفلام السينما ولم نسمـع عنـه في الحكايات ولم نقرأ تفاصيل حياته في الروايات ...وعلى امتـداد النهـر الخالـد، تنتشر القـرى ، والمدن ،والمتجمعات السكانية ...غريبة ..ومختلفة، وفيما بين هذه القـرى والتجمعات المتعـددة، أرسـى التاريخ قواعده، وثبت ركـائزه، وخلد معـالمه ...في الأقصر وأسوان، وإدفـو وإسنـا وكـوم امبـو ...وغيرها إلى القاهرة ...عجـائب التاريخ، وغرائب العصـور .. حضارات عديـدة ومتغيرة أتت واحـدة إثر أخرى ،فرعونية، رومانيـة، قبطية، إسلامية ..كل منهـا لها خصائصها وشخصيتها وكلها ترتبط بشكل أو بآخر بشريان الحياة المسمى النيل .

لقد كـان بداخلي دافـع شديد يدعوني للقيام بهذه الرحلة .دافع إلى ساعتنا هذه لا أعرف مصـدره ولا معناه .وعندما قررت أن أبحث في هذا السر الخالد قلت إن أفضل طريق سيكون عن طريق مجاوريه .أي القرى والمدن المحيطة به .ولأنها كثيرة ولن أستطيع حصرها أو زيارتها جميعا، فقد آثـرت أن أحدد نقطـة بداية ونقطة نهاية .وكـانت بدايتي مـن مدينة أسوان، ونهايتي في مدينة الأقصر، لأقوم برحلة أزور خلالها القرى الواقعة على الخط الذي حـددته .وأبحرت في باخرة نيلية ... فيما بين تلك العصور وكانت بدايتي هي "أسوان"

أسوان مـدينة ذات تاريخ حضـاري كبير، كانوا يطلقون عليها في مصر القـديمة اسم (سنو) وهي تعني(سوق) فقد كانت مركزا للتجـارة بين الشمال والجنوب وبـوابـة مصر على إفريقيـا، وهي مشهـورة بحجـر الجرانيت، وفي واديها وجـدت كل المسلات المعروفة في العالم سواء في بريطانيا أو فرنسا أو أمريكا .أو تركيا أو إيطاليا، كـذلك فـان بعض التماثيل ومواد القرابين الموجـودة في المعابد المصرية هي من حجـر الجرانيت المستخرج من أسوان .وتسكن أسوان مجموعة كبيزة من النوبيين، الذين هاجروا من السودان إلى المنطقة الجنوبية في أسوان وظلوا فيهـا حتى انتقلوا فيما بعـد عندما غرقت بـلاد النوبة بسبب بنـاء السـد العـالي ...وقبل ذلك كانت بلاد النوبة تتكون من حوالي (42)قرية، وعندما غمرتها المياه اضطر سكانها إلى الهجرة شمالا عام 1960 إلى مدينة نصر وهي تبعد عن أسوان حاولي 55 كيلو مترا من ناحيـة الشمال وتعد الآن عاصمة القرى النوبيـة وانتقلت القرى النـوبيـة بنفس الأسماء القـديمة مثل (كشتمني ، وعمدة، ومدامـود، ودابود، وبني حسن ،وكـلابشـة، والكنـوز)، وبنفس اختـلاف أسماء المدن يختلفـون أيضا في العـادات والتقاليد، وأهل النوبة يتكلمون اللغة العربية واللغة النوبية وهي لغة تنطق ولا تكتب، حتى في داخل المجتمع الواحـد، يوجد ثلاثة أنماط للغة النوبية، (فيجكاري، وكونزي، وماتوكي) وكل قبيلة تختلف عن الثانية اختلافا تاما .

والمناخ في أسوان مناخ حار جاف صيفا، دافئ شتاء ونـادرا مـا تسقط الأمطار، وتصل درجـة الحرارة في الصيف إلى حوالي (42) درجة مئوية، أما في الشتاء فهي تتراوح ما بين (16) إلى (28) درجة مئوية، ويبلغ عدد السكان في أسوان حوالي 800 ألف تسعة.

وتوجد في أسـوان مجموعـة من أهم الآثار المصرية تتمثل في معابد أبو سنبل، التي تبعد حـوالي (280) كيلو مترا جنوب أسوان والوصول إليها يتم إما بالسيارة أو الطائرة، كـذلك معـابـد رمسيس الثاني وزوجتـه أولكنـور والمعبـد الكبير الذي بنـاه رمسيس الثـاني لنفسه، وكذلك المعبدالصغير الذي بناه رمسيس الثاني لزوجته المفضلة (نفرتاري) جميلة الجميلات ، وتقع مقابر النبلاء على الضفـة الغربية للنيل ...كذلك يـوجد في أسوان ما هو حـديث أيضا ففيهـا أهم معلم حضاري حديث وهو (السد العالي) .

وسكـان أسوان في غالبيتهم من المسلمين (90%) والبقية أقباط، وهم يعيشـون في وحدة ووئام .وبجانب الطبيعة الساحرة فهنـاك الألفة بين الناس وتشعر وأنت تسير في شـوارعها بذلك لكثرة ما تلقى من الترحـاب والتحيات ...

ولكن ما أثر نهر النيل في الشعب المصري؟

قال لي محمـد عبداللـه وهو مدرس تاريخ ومرشد سياحي في الوقت نفسه: للنيل أثر كبير في الفلسفة العقائدية للمصريين منذ أقـدم العصور، ومثلما قـال (هيرودوت) المؤرخ الكبير : " مصر هبة النيل " وقد كانوا في القـدم يعبدون النيل " الإله حـابي " الذي سيطر في اعتقادهم على منابع النيل، وقد كان مصدرا مهما للثروة السمكية والزراعة والصناعة، والنيل بالتأكيد يلعب دورا كبيرا في الحياة سواء في أسوان أو في مصر جميعها!!

وردة حمراء ...رمز الوفاء ..

في الصباح الباكر كـان المركب الشراعي (الفلوكة) يعبر بي إلى الضفة الغربية من نهر النيل، حيث يوجـد واحد من معالم أسوان المهمة (مقبرة الأغاخان) ويوجد في أسفلها فيللا زوجة الأغاخـان وهي فرنسية تبلغ من العمر (86) عاما ومازالت تحتفظ بجمالها وقد كـانت عام (1935) ملكة جمال فرنسا، وعنـدما تزوجهـا الأغاخان كـان يكـبرها بحوالي (35) عامـا وبعد  زواجها منـه اعتنقت الإسلام وأطلقت على نفسهـا اسم (أم حبيبـة) .أما الاغاخان فهو لقب يعني بالباكستانية (الرجـل العظيم) أما اسمه الأصلي فهو سلطـان محمد صلاح الدين الحسيني ولـد في باكستان عام (1877) ،وتوفي في سويسرا عام 1957 ودفن في أسوان حسب وصيته، وقد كـان الاغاخان رئيسا للطـائفة الإسماعيلية المنتشرة في سبعة عشر بلدا .وجاء أغاخان في أسوان بعد أن أعياه داء الروماتيزم وعرض نفسه على جميع أطباء العالم دون أن يجد الشفـاء وكانت النصيحـة الأخـيرة هيأن يدفن نفسه في رمال حارة وجافة .وفي أسوان تعهد شخص يدعى عبـد الله بعمل حمام الرمل له ودفنه فيه حتى أسفل رأسه ويظلـل عليـه بمظلة ..إلى أن بـدأ يشفى من الروماتيزم لذلك طلب في وصيته أن يدفن في أسوان، وقـد بنيت المقبرة عام 1959 أي بعد وفاته بعامين، بنيت على الطراز الفاطمي وشيدها أستاذ العمارة الإسلامية بجامعة القاهرة فريد الشافعي ،ويكسـو المقبرة الرخـام الإيطالي أما الأعمدة التي في داخلها فهي حجر الجرانيت المستخرج من أسوان.

وفي هذه المقبرة يتم يوميا تجسيد معنى الوفاء والحب واقعيا حين تقـوم زوجة الاغاخان في سـاعة مبكـرة من صباح كل يوم بقطف وردة حمراء وتضعها على قبره ،وهي تحافظ على هذه العادة اليومية منذ وفاته إلى الآن .

طريق طويلة يجب أن تسلكها كي تصل إلى ضريح الاغـاخـان، وما يهون علينـا الطريق هو ذلك المنظر الخلاب الـذي يزداد روعـة وجمالا كلما صعـدت إلى أعلى ..حيث يزداد اتساع النيل وتبدو جنادل الصخور التي تحمل النقـوش الفرعـونية تنسـاب بينها المراكب بأشرعتها مثل طيور نورس عملاقة .

وقبل أن تصل إلى الضريح، يشـد انتبـاهك مبنى صغير على مقربة منه ...عندما اقتربت وجدت رجلا يجلس مع فتاة صغيرة ...قال لي: اسمي سيـد أحمد أحمد إبراهيم البغدادي، وأنا قارئ ضريح الاغاخان ،ولي حوالي أكثر من ثلاثين عاما في هذا المكـان ، أقوم بقراءة القرآن كل يوم من السـاعة التاسعة صباحا إلى الخامسـة مساء .وقلت له: هل تعرف سر الـوردة التي توضع صباح كل يوم على قبر الاغاخان؟قال لي: أن الوردة هي وصيـة بـين الزوج وزوجته، وهي رمز الوفاء بينهما ، وكل صبـاح يتم إحضار الوردة ووضعها على القبر .

فور أن تترك ضريح الاغاخان ..تشد انتباهك شبه جزيرة مليئة بالأزهار والأشجار والنباتات ...مشيت باتجاه تلك الجزيرة، وعند بابها وجدت رجلا اسمر قال لي : هذه هي ( الحديقة الاستوائية) أو (جزيرة النباتات) ولها ثلاثة أسماء (جتينارتي) ويعني (أرض أجـدادنا)لأنهم أول من سكنوا الأرض في هذه الجزيرة، ثم أطلق عليها مسمى (جـزيـرة اللـورد كتشنـر) وهـو الحاكـم البريطاني لمصر أثناء الاحتلال الإنجليزي عام 1892، وقـد جاء هنا إلى أسوان لكي يخمـد الثورة المهدية في السـودان .وقام بعـد ذلك بتجـريب زراعـة بعض النباتات التي تنمو في المنـاطق الاستوائية ونجحت هذه الزراعة  في توسيع الجزيرة .

وبعد ثـورة 1952 بدأ تمصير الأسماء الأجنبية،فحول إلى الاسم الحالي (الحديقة الاستوائية) أو (جزيرة النباتات)، وهي الآن تتبع وزارة الزراعة ومساحتها ( 18 ) فدانا وطولها (900) متر، وعرضها حوالي (600) متر ويوجد بها حوالي (150) نوعـا من النباتات العادية و (250) نوعا من النباتات الاستـوائية، وكل شجرة مكتوب عليها اسمها باللغة اللاتينية .وتروى الحديقة مرتين في الأسبوع، وقد نقل إليها اللورد كتشنر النباتات الاستوائية من إفريقيا والبرازيل، ثم أضيفت بعد ذلك أصنـاف جديدة عن طريق وزارة الزراعة التي طـورتها وجعلتهـا مـزارا رسميـا، سـواء للأجانب أو الأهالي، وتكتفي الحديقـة بنفقاتها ذاتيا عن طريق إيرادات تذاكر الدخول .

في طريق عودتي من الضفة الغربيـة. . .سألت الـذي يقلني بالمركب الشراعي واسمـه زين العابدين : هل تعرف كم عدد النوبيين في مصر؟

قال : نحن حوالي (5) ملايين نسمة نعيش في مصر مواطنين مصرييـن، ولكن توجـد لنا عادات وتقاليـد مختلفة في الزواج، والرجل النوبي يرتدي - دائما- الجلباب الأبيض، وترتدي المرأة النوبية الثوب الأسود، ونحن نتحدث اللغـة العربية واللغة النـوبية، ومسموح للرجل أن يتزوج من واحدة إلى أربع نساء .

المجتمع النوبي يحب بعضه بعضا، ويتشاركـون في الأفراح والأحزان وفي حل المشاكل، يوجد مجلس أعلى لحل المشاكل بينهم، فهم لا يتجهون إلى الشرطة، بل توجد بينهـم جماعة من كبـار السن يحلون المشـاكل جميعها، ويحترم الجميع القرار الذي يتخـذه المجلس الأعلى .والنوبيون منهـم فلاحون يرعون الأغنام ولديهم ماشية وجمال ومنازلهم مكونة من مجموعة غرف والأثاث مصنوع من الحجر النوبي الرملي أو في أغلب الأحيان من الطوب اللبن لأنه يساعد على ترطيب درجة الحرارة .

قلت له : منذ متى وأنتم هنا؟

قال: نحن موجودون منذ زمن جمال عبدالناصر، أنا من النوبيين الأصليين ونحن نحب جمال عبدالنـاصر لأنه أتى بنا من فوق عنـدما بنى السـد العالي ...وأضاف: يوجد منا مشاهير كثيرون مثل لاعبي كرة القدم فاروق جعفر وأحمد الكاس وطه بصري وإسماعيل يوسف، كما أن المطرب محمد منير أصله من هنا .

المسلة الناقصة

أمام حجر ضخم بارز من الأرض على شكل مسلة،وقفت حـائرا. .قـال لي أحـد الجالسين: هذا حجر الجرانيت الموجود في أسوان ، وهذه هي المسلة الناقصة.والمسلة عبارة عن كتلة من حجر الجرانيت تقف أمام المعبدالمصري وهي عنصر من عناصر الزينة فيه، وقد وهبت لعبـادة الإله آمون رع (إلـه الشمس) وقد اعتاد المصريون القـدماء قطع هذه المسلات من داخل هذا الحجـر ونقلها عن طريق النيل إلى مكان القصر الذي يحتفلون فيـه ...وحجر الجرانيت حجـر بركـاني تكون منذ آلاف السنين وله لونان: الوردي وهو موجود داخل المحجر، والحجر الأسود، والمسلة النـاقصة هذه غير مكتملة لأنها شرخت أثناء صنعها وأطلقوا عليها اسم(المسلة الناقصة)، وهذا الجزء الذي نقف عليه هو أقدم جـزء في المحجر،، طـوله عشرة كيلـومترات، وعرضه ثلاثة كيلـو مترات، وكل المسلات الموجودة في العالم وبعض التماثيل نحتت من الحجـر الجرانيتي الوردي الموجود في أسوان، واختار المصريون القدماء هذا المكان لعمل المسلات، لسببين: الأول: توافر الحجر الجرانيتي في المنطقة .والثاني: قرب نهر النيل من الحجر فكان من السهل عليهم أن ينقلوا المسلة عن طريق الدحرجة وتوقيفها أمام المعبدالمصري بعد ما تكتمل كل عمليات النحت في داخل المحجـر وكـانـوا ينقلونها في وقت الفيضان، عندما تكون سرعـة المياه حـوالي (60) كيلومترا في السـاعة، ويتم قطع حجـر الجرانيت في (4) . خطوات، لأنه نظرا لصلابـة الحجر، فلا بد من تقليل تلك الصلابة بوضعه على النار مما يزيد من سخونته ، فالسخونة تقلل من صلابة المادة الموجـودة عموماً ، والخطوة الثانيـة يتم استخدام (أزميل) أو كتل أو كرات من حجر يعرف بحجر (الديوريت) وهو حجـر أسود من الجرانيت متوافر بكميات كبيرة في الصحراء الشرقية لمصر بجوار البحر الأحمر يستخـدم في عمل فتحـات صغيرة، والخطوة الثـالثة وضـع أشجار الجميز في هذه الفتحات وأشجار الجميز بالذات لان لها خاصية عالية في التمدد ، والخطوة الرابعة وضع مـاء على أشجار الجميـز وهـذه المسلـة الموجـودة في المحجـر من أكبر المسلات في العالم، طولها (42) متر وعرضها (4) أمتار ووزنها (1168) طنا .

أما أقدم مسلة موجودة في العالم فهي مسلة المطرية الموجودة حـاليا أمام مدخل ميناء القاهرة الجوي، أما أحسن مسلة فهي الموجودة في (الكونكورد) في باريس ،وقيمة المسلة تكمن في شكلها الذي يأخذ شكل الهرم ، والمصريـون القدماء اعتادوا طلاء هـذه القمة الهرمية بالذهب والفضة لكي تعطي لمعانا وانبهـارا لدى زائر المعبدالمصري .

وهذه المسلـة الناقصة ...لا يعرف لها تاريخ إذ لا توجد عليها نقوش، ويقال إنها صنعت في عصر الملكة حتشبسوت، وكان المفروض أن تقطع من الجوانب ومن أسفل وتفصل عن المحجر وتنقل وتعطى عملية لمعان وكتابة، وتدحرج عن طـريق النيل وتوقف أمام المعبدالمصري .وفي الواقع توجد مسلتان أمام معبدالكرنك في الأقصر، ومسلة في باريس في كونكـورد، وواحدة على نهر (التايمز) في بريطانيا وواحدة في نيويورك في السنتراليـورك واثنتان في روما واثنتان في إسطنبول، وجميعها صنعت من الحجر الجرانيتي الوردي الموجي في أسوان .

وأما المحجر - الآن - فجـزء منه يعتـبر أثرا تاريخيا وهو المشـار إليه من قبل. . .أما الجزء الثاني فيستخدم من قبل شركة المحاجر والجرانيت المصرية، التي تستغل هـذا المحجـر بتقطيع أحجاره عن طريق الديناميت ويستخدم في عملية بناء واجهـات البنوك والمطابخ والمنازل، وهذا الحجر من النوع الممتاز وذلك لما يتصف به من لمعان، وتصدر هذه الحجارة إلى إيطاليا .

النيل الأزرق. . .والأبيض

من أسـوان بـاتجاه مـدينـة الأقصر حيث ضريح (سيدي أبوالحجاج) وهو واحـد من أهم المعالم الأثرية في الأقصر تدور حولـه الكثير من الروايات والقصص، والمركب ينطلق بنا وسـط نهر النيل، جلست على صدر المركب، وهو منطلق شـاقـا النهر إلى نصفين ، وجمال الطبيعة يحوطنـا على الجانبين ونحن نتجه إلى أبرز معلم حضاري في العصر الحديث (السد العالي) .وكنت أردد ما قاله عبـد الحليم حافـظ .( قلنا حانبني وآدي احنا بنينا السـد العالي) .وزيارة السد العالي بحد ذاتها تعتبر بالنسبة لي إحدى أمنياتي، وذلك لما قرأت عنه في الكتب والمراجـع .وقد كنت قـد قرأت في كتاب (معركـة المياه في الشرق الأوسط) لمؤلفه (كـريستيـان شينـو) أن " السد العالي قد أنقذ مصر في عام 1988 عندما جفت الأمطار في المرتفعات الأثيوبية التي ينطلق منها النيل الأزرق فانخفض مستوى النهر بصورة هددت مصر بجفاف خطير لولا المياه التي خزنها السد العالي" .أما الباحث الأمريكي (جون وتربري) فيقول في كتابه (السياسات المائية لـوادي النيل) الذي صدر  عام 1979: "إنه لا توجد دولة يمر أحـد الأنهار بها وتعتمد في وجودها عليه مثلما تعتمد مصر في وجودها على النيل" ويضيف: " إن مياه النيل كافيـة نظريا للوفاء باحتيـاجات الدول المطلة عليه" .وقبل أن نصل إلى السد العالي. . .وقد لاح إلينا من الأفق البعيـد ...اقتربت من قمـرة القيـادة، فوجدت بها رجـلا يقارب الخمسـين من العمر، يمسك بيده سيجارا ويرتدي زيا ابيض غاية في الأناقة، وابتسم لي وهو يلمحني أقترب منه ...عرفني بنفسه: القبطان سمير عزيز ..يعمل منذ ثماني سنوات في هذه المهنة ..كان قبلها مديرا لأحد أبر وأهم الفنادق في فرنسا لمدة خمسة عشر عاما .

قلت: هل تعرف الكثير عن السد العالي؟

قال: إن الفكرة من إنشاء السد العالي هي تخزين كميـة من فيضـانـات النيل والاستفـادة بها في وقت الجفـاف ...والنيل بالطبع له منابع في وسط إفريقيا ويأتي من بحيرتين، بحيرة تـانـا في الحبشـة وبحيرة فيكتوريا في كينيا وأوغندا وتنزانيا وبورندي ورواندا وزائير، وهما تشكـلان فرعي النيل الأزرق والأبيض، فـالنيل الأزرق يأتي من بحيرة تانا في الحبشـة والنيل الأبيض يأتي من بحيرة فيكتـوريا في كينيـا، وأطلقت تسميتا النيل الأزرق والنيل الأبيض بسبب اللون، فنسبة التعكير في الطمي الموجـود في النيل الأزرق أكثـر من الموجودة في النيل الأبيض .

وأضاف الكـابتن سمير عزيـز ...إن فرعي النيل يلتقيان في مثلث عند الخرطوم عاصمة السودان، وبعد ذلك يجري في السـودان ومصر ويصب في البحر المتوسط ، والنيل يجري من الجنـوب إلى الشمال وجميع أنهار العالم تتدفق من الشمال إلى الجنوب ما عدا نهر النيل ونهر العاصي في سوريا، ولذلك سمي هذا الأخير بالعاصي لأنه يعصي مجاري أنهار العـالم ، والواقع أن النيل لـه تـوقيتـان، وقت الفيضـان ووقت التحريق ...فوقت الفيضان يكون أربعة أشهر في العام (يونيو، يوليـو، أغسطس، سبتمبر)، وفيه تسقط أمطار موسمية على بحيرة تـانا في الحبشة والباقي تبخير من خليج البنغال في المحيط الهندي تحملها رياح شرقية غربيـة تصطـدم بجبـال الحبشة وتؤدي إلى حـدوث الفيضان في النيل، وبالطبع توجد اتفاقية دولية بـين دول حوض النيل لاستخـدام مياه النيل والحصص المقررة لكل دولة، حتى لا تجور دولة على أخرى في حصتها من الميـاه .وحصة مصر من الفيضان في العام حوالي 85مليـار متر مكعب من الماء ومـا تحتاج إليـه مصر في أغراض الزراعة والشرب والأغراض الأخـرى حاليا 40 مليار متر مكعب من الماء أي يوجد حوالي 45 مليار متر مكعب فائضة عن احتياجات مصر، ومن هنا جاءت فكـرة إنشاء السد العالي. . .إذ كان النيل في فيضانه يتأرجح مـا بين الارتفاع والانخفاض، وأكبر فيضان للنيل في مصر كان عام 1975 وكان حوالي 125 مليار متر مكعب وأقل فيضـان كـان عـام1988 وبلغ حـوالي 22 مليـار متر مكعب ومن أجل هـذا كانت الفكـرة،أي على أسـاس استخدام كميـة من الفيضانات الزائدة والمخزونة في البحيرة للاستعانة بها في وقت الفيضان القليل .اقتربنـا من السـد العـالي أكثر .وأصبح ظاهرا لنا بشكل واضح ،وبينما نحن في لحظـة صمت قـال لي الكابتن عزيز: إن فكرة إنشاء السدود فكرة قديمة بدأت من عهد (أمنمحات الثالث) وهو الذي بنى (سد اللاهون)في الفيوم ولكنه لم يكف لتخزين المياه وعندما جاء (محمد علي ) اهتم بالزراعة وأنشأ مجمـوعـة من القنـاطـر والسدود، وتشير كتب التاريخ إلى أن الإنجليز عنـدمـا جـاءوا إلى مصر واحتلوها قاموا بعملين مهمين ، الأول:إنشاء السكـة الحديد التي تربط ما بين القاهرة والصعيـد، وبين مصرو السودان ، ولكنهم وكسيـاسـة استعمارية فقد بنوا خط سكـة حديد مصر أعرض من سكة حـديد السودان كي لا يكون هناك ارتباط بين البلدين لا يكون والعمل الثاني : أنهم قاموا ببناء الخزانات القديمة في أسوان من عام 1898 إلى عام 1902، وقد بنيت لتخـزين حوالي 3 مليارات متر مكعب من الماء، ولكن بعـد بنائها اكتشف أن كمية التخزين فيها غير كافيـة فقاموا بتعليتها مرتين الأولى عام 1912 والثانية عام 1933، وبالرغم من أنهم زادوا ارتفـاعها مرتـين إلا أنهم اكتشفوا أن كمية التخزين أيضا غير كـافية، فبـدأوا في التفكير في إنشاء السد العالي ...وعندما قامت ثورة يوليـو كان أول ما يشغل فكـر ضباط الثـروة هـو إعطاء دفعة شعبيـة لهم، فأصدروا قـوانين الإصلاح الـزراعي في 9 سبتمبر 1952، وبعدها بدأوا في التفكير في تنفيذ مشروع السد العالي، وتم عمل مسح شامل للنيل من أجل اختيار المكان الذي يقام فيه السـد العالي واختير المكـان المقام حـالياً عليه، وهـو أضيق منطقة في النيل وهي منطقة صخرية تتحمل ضغط الماء، وتم البدء في تنفيذ المشروع على ثلاث مراحل ..المرحلـة الأولى: بناء الأجزاء الركـامية لسد الجزأين الغربي والشرقي، وقـد استغرقت هذه المرحلة 4 سنوات منذ عام 1960 إلى 1964 .المرحلة الثانية: وتعد أخطر مرحلة وهي تحويل مجرى نهر النيل، فقد أنشئت قناة تحويليـة من الشرق وتم العمل بها منذ عام 1964 إلى 1968 . أما المرحلة الثالثة: فهي بناء الجزء الكهربـائي وإعادة المياه إلى مجراهـا الطبيعي الرئيسي، وقـد استغرقت عامين من 1968 إلى 1970 وكـان أن توفي جمال عبدالناصر في سبتمبر 1970 ولم يفتتح المشروع، وافتتحـه الرئيس أنور السادات في 15 ينايـر 1971 وهذا اليـوم يعتبر العيد القومي لمحـافظة أسوان وهو يوافق ذكرى ميلاد جمال عبدالناصر .

وقد بلغت تكلفـة المشروع حوالي 400 مليون جنيه مصري دفعتها الحكـومة المصريـة عن طريق جـدولـة الديون، والسد العالي يعتبر من أكبر السدود الركامية في العالم، طـوله حوالي (3600) متر وعرضه من الأسفل (980) متر ومن الأعلى (40) متر وارتفاعه (11) مترا ،وهو يأخذ شكل هرم ولذلك يسمونه هرم عبدالناصر، وتوجد به كتلة خرسـانية من الجرانيت تعادل  سبعة أضعاف الهرم الأكبر، ويحتاج تدميرها إلى قنبلـة ذرية ،وهو يتحمل قوة زلزال قدره (7) درجات، وبالتأكيد فإن السد العالي مشروع مهم لمصر لتوليد الكهرباء وحماية البلاد من أخطار الفيضانات وزيادة الرقعة الزراعية وزيادة الثروة السمكيـة، وبرغم كـل هذه تـوجد آثار سلبيـة جانبية للسد تتمثل في ثلاث مشكـلات هي :مشكلة الطمي ، ومشكلة النحر ، مشكلـة زيادة الملوحة في تربة الدلتا .

على قمة السد العالي وقفت. .وقلت الله أكبر، فهو وبحق مشروع حضـاري ضخـم، وإنجاز حـديث يستحق كل الإعجاب .

مصير فيلة

كان طريقنا باتجاه (معابد فيلة) التي غمرت بالمياه بسبب الخزان القديم الموجـود في أسوان ، ومكـان المعبدالآن ليس هـو المكان الأصلي، فبعـد أن غرق المعبـد في مكانه القديم قامت شركة إيطالية بمساعدة الحكومة المصريـة بنقل المعبـد من المكـان الأصلي إلى الجزيـرة الجديدة التي تبعد عن المكان الأصلي بحوالي 660 مترا .

وقد أحيط المعبد بسور حديدي إذ كان مغمورا تحت الماء نحو (72) عاماً بسبب خزان أسوان القديم، وبدأ الفنيـون بتنظيف المياه والطمـي الموجود داخل المعبد،وفكوا المعبـد إلى 65 ألف قطعة، وأعطوا كل قطعة رقماً معينا ووضعـوه بنفس الحالة التي كان عليها، وبدأت عملية النقل عـام 1972 وانتهت في عام .1980 أي استغرقت حوالي 8 سنوات وهذه المعابد كانت  قد وهبت لعبـادة الإله إيـزيس زوج الإلهة إيـزوريس أم الإلـه حورس، وهذا هو الثالوث المقدس في المعبد.

وقد رجعت إلى كتـب التاريخ لجمع معلومات أكـبر عن (معبدفيلة) فعلمت أن أهم معالم المعبد أنه معبد بطلمي بني في عصر البطالمة بعد الإسكندر الأكبر عام 332 قبل الميلاد، والإسكندر الأكبر عندمـا غزا مصر كانت تحكمها الأسرة الثلاثون منذ حوالي 400 سنة قبل الميلاد .وكانت توجد وقتها قوتان ظاهرتان هما مقدونيا، والفرس، وكان بينهما صراع كبير، ومقدونيا هذه هي بلاد الإغريق، وكـانت تلك القوتان تتصارعان على السلطة والقوة والنفوذ في العالم، وعنـدما غزا الإسكندر الأكبر مصر وكان شخصية عسكرية، بدأ يدرس مصر من الناحيـة العسكـريـة والنفسيـة، واهتم بمتـابعة سلوكيات المصريين ووجد أنهم يحترمون دياناتهم ..فبدأ من هذه النقطة بالتقرب منهم فنزل إلى الشاطئ وذهب إلى (منفث) وتعبـد إلى الإله (منفث) وبدأ المصريـون يتقربون إليه وقالوا إن هذا هو محررهم من الفرس وبعد التعبـد إلى الإلـه (منفث) رجع الإسكندر الأكبر إلى الشاطئ وبدأ ببناء مـدينته (الإسكندرية) ثم اتجه في الواحات ليعبدالإله (آمون رع) ويسأله من قتل أباه (فيليب) ومن هنا بدأ عصر البطالمة بالإسكندر الأكبر .

قرى النيل ..

كـان لا بد للوقـت أن يمضي ..ولا حيلـة لوقف عقارب الساعة من لدغ الوقت والقضاء على جزء من الزمن ..ولا سبيل إلا الاستجابة لرغبات الليل الذي يدعونا بإلحاح للولوج إلى أحضانه، أرسى الكابتن عزيز قائد السفينة ركبنا عند مرفأ إحدى القرى الواقعة على النيل، وهذه القرى المتقاربة والمنتشرة على جـانبي النهر الخالد تتشـابه في الكثير من الخصال والصفات، سواء كـانت (إدفو، إسنا ، كـوم امبو ..وغيرها) فمعظمها يعتمد على السياح الأجانب الذين يفدون إليها لزيارة الآثار والمعـابد؟ والاستمتاع بـالجو المفعم بالجمال والطبيعة الخلابة، وغالبيـة سكان هذه المناطق هم من النوبيين ...خاصة تلك  المناطـق باتجاه مدينة أسوان، وأنت كلما تعمقت بـالاتجاه الآخر فإنك ستتجه ناحية الصعيد ..وصعيد مصر في حد ذاته علم آخر مختلف عن العوالم التي تعرفها .هذه القرى تجد أهلها في النهار يمارسون أعمالاً مختلفـة أغلبها مرتبط بالسياحة ..ففي نهر النيل هنـالك ما يقارب(267) سفينـة ضخمة ، عبارة عن فنادق عائمـة تقوم بنقل السياح في جولات نهريـة من نقاط مختلفة، وهم يقومون ببيع المصوغات اليدوية خـاصة تلك التي تحمل شيئـا من طبيعـة البلاد. .أما في الليل فتجـدهم جميعـاً متحلقين في المقاهي المنتشرة على نهر النيل يدخنون الأرجيلة ويلعبون (الدومينو) أو (طاولة الزهر) .في الصباح الباكر ..ومع: صوت الطيور، أفقت على صـوت تشغيل محركـات المركب، صعـدت لـلأعلى لأسأل عن سبب الإفاقة المبكرة ..فقيل لي إنه مـوعدنا لمحطتنـا القادمة الأقصر. .تستغرق الرحلة إلى الأقصر ثلاث ساعات ،قلت : مـدد يا سيدنا أبو الحجاج وأنا أرجع إلى حجرتي ..رددت الأغنية المصرية القـديمة التـي تقول"الأقصر بلـدنـا بلـد سـواح ..فيهـا الأجانب تتسـوح " .الأقصر مدينة عريقـة، تحظى بشهـرة عالمية خـاصـة عنـد السـائح الأجنبي...وصلنا الأقصر ..وبينما نحن نسير على أرجلنا لنشـاهـد المدينة ..وجـدت شاباً في آخر الثلاثين من عمره .. قـال: " هل تريدون جـولة في الأقصر بـالكرتة . . " (الكرتة، عربة صغيرة يجرها حصان) قلت : لا بأس ،ولكن ما اسمك قال: أنا أبوبلال ..وصال بنا أبو بلال وجـال في مدينـة الأقصر العريقة ..قلت له: أين ضريح سيدي ابر الحجاج ..قال: مدد وانطلق بسرعة فائقة وكأنني لامست لديه شعوراً عاطفياً نبيلاً ..وقف عند أحد المبـاني الكبيرة التي تتوسط مدينة الأقصر وقال: هذا هو ضريح سيدي أبو الحجاج ومسجده..قلت: ولكن هذا معبد؟ قال: انظر إلى أعلى .فوجدت منظراً غريباً حيث أن المسجد بني على قمة عالية بجانب ، المعبد ...وضريح سيدي أبوالحجاج هذا ينسج حوله الكثير من الحكايات والروايات الغريبـة، أغربها أنهم أرادوا ذات يـوم هدم الضريح، وعندما هم أول رجل بطرق أول مطرقة على جـدار الضريح شلت يداه ...وغيرها من الأحاديث .

واستغرقت جولتي في قرى النيل ومعابـدها عدة أيام، كانت وبحق من أمتع وأجمل الزيارات، مليئة بالإثارة والمعلومات والحكايات والـروايات ...والأهم هو أنها مليئة بالتاريخ الذي لم نعد نذكره.

 

ماضي الخميس 

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات