محمد المنسي قنديل ووجدي الحكيم

محمد المنسي قنديل ووجدي الحكيم

الإعلامي الذي عاش حياته الحقيقية خلف الميكروفون: اشتريت مكتبة الإذاعة القديمة من مرتبي المتواضع

  • صوت العرب كان يمثل النبرة العالية الصوت في الإعلام المصري

إنه صوت الزمن الجميل، يحمل في نبراته الهادئة الواثقة عبقا من ذكريات تاريخية لا تنسى. فهو شاهد على زمن الانبعاث العربي الذي لم يدم طويلاً. وهو مقاوم في أزمنة الهزيمة والانحسار التي نعيشها الآن. إنه الإذاعي القدير وجدي الحكيم الذي جعل من الميكروفون كائنا حيا يهز به الوجدان العربي في كل يوم من خلال إذاعة صوت العرب.

أيام كان للعرب صوت معبر. وحوّل الأمسيات العربية الخامدة إلى سهرات من الفكر والفن من خلال برنامجه الشهير «ليالي الشرق» وقام بأجرأ الحوارات وأطولها مع قمم ذلك العصر مثل أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم حافظ وغيرهم من عمالقة الفن والفكر. لقد أنطق ما لم يكونوا ينطقون. جعل ألسنتهم تتدفق بأكثر الذكريات خصوصية.

دخل وجدي الحكيم الإذاعة المصرية في عام 1954، وكان وقتها مازال طالبا في كلية الآداب، وعاصر الأيام الأولى لإنشاء إذاعة صوت العرب وارتبط بها، حتى أنه كان يعتبرها بيته الأول. وقدم عددا من البرامج السياسية في بدء مسيرته مثل برنامج: «شخصيات في الأخبار»، ثم سرعان ما تفرغ للبرامج الأدبية والفنية وكان أشهرها برنامج ليالي الشرق الذي حاز شهرة واسعة، واستضاف فيه المئات من الشخصيات العربية وكان هو المحرك لإقامة سلسلة من الحفلات الغنائية حملت الاسم ذاته وطافت في العديد من البلدان. يملك وجدي الحكيم ذاكرتين وكلتاهما على قدر كبير من الدقة. الأولى هي ذاكرته الحية والتي يختزن فيها العديد من الوقائع القديمة بدقة مدهشة. وهي التي تجعل الحديث معه أشبه بالدخول في موسوعة للوجدان العربي. والذاكرة الثانية هي مكتبته الفنية التي تحتوي على المئات، وربما الآلاف من التسجيلات النادرة. وسوف يكشف هذا الحوار جزءا من العالم السحري لهذا الرجل الغني بالذكريات. وقد كتب هذا الحوار د.محمد المنسي قنديل وهو قاص وروائي مصري ويعمل محررا بمجلة العربي.

  • أريد أن أبدأ من البدايات، عن علاقتك مع ميكروفون الإذاعة، وكيف تطورت هذه العلاقة، بحيث أصبحت واحدا من نجوم ومؤسسي الإعلام المصري ثم العربي؟

- ربما كنت من القلائل المحظوظين في عالم الإعلام، لأني دخلت الإعلام من الباب الرئيس في وقت مبكر، وأنا لاأزال طالبا في الجامعة، وكان ذلك في 5 / 4 / 1954 حين دخلت مبنى الإذاعة أو الشريفين كما كان يطلق عليه. كنت مدعوا من الأستاذ أحمد طاهر الذي كان يقوم باكتشاف المواهب، وجاء إلى كلية الآداب حين كنت أدرس. وقد جلس مع كل طالب على حدة ليكتشف موهبته الخاصة. عندما جلس معي سألني عما أفعل. قلت له أنا الوحيد القادر على الجمع بين كل هؤلاء الطلبة المختلفين، ودفعهم إلى الكلام والتجانس سويا. وكان أن طلب مني أن آت لمقابلته في الإذاعة، لقد أحسست أنني أخطو إلى دنياي الحقيقية التي لم أكن أعرفها. كنت قد ذقت مرارات الفشل في الكليات العسكرية. وكلية الحقوق، وبدأت أخيرا أشعر أن العالم يبتسم لي وأنا على عتبة مبنى الشريفين. وأنني أولد من جديد، لقد دخلت بحب شديد، وبعد يوم وليلة أصبحت أحد المصادقين لكبار الفنانين. وجدت نفسي أجلس على مائدة الاجتماعات في لجنة النصوص. وبجواري أحمد رامي ومحمود حسن إسماعيل وصالح جودت وعزيز أباظة باشا، وسمعت مناقشات جادة في كل كلمة في هذه النصوص الغنائية. لم أكن عضوا في هذه اللجنة. كنت فقط مندوب إذاعة صوت العرب لعرض نصوص الأغاني الوطنية التي نقوم بإنتاجها. توثقت علاقتي بعالم الإذاعة من خلال الشخصيات، في الوقت نفسه أقابل كبار الأدباء عندما يأتون للتسجيل، وكذلك العديد من الشخصيات السياسية والزعماء، شاهدت عبدالوهاب لأول مرة حين بعثتني صوت العرب لحضور تسجيلاته لأغنية صوت الشرق من أشعار أحمد خميس، وكان يقوم بتسجيلها في استوديو مصر. وقد استغرق التسجيل حوالي الشهرين وأنا أشاهد هذا الفنان الكبير يسجل ويعيد ويدقق، ويراجع، كنت أعتقد أن تسجيل أي أغنية لا يستغرق إلا يومين أو ثلاثة، ولكن وسوسة عبدالوهاب جعلته يدقق في كل شيء، لقد فتح هذا العالم في داخلي رؤى جديدة للإبهار بهذا العالم، كنت أريد أن يكون لي بصمة مضافة في هذا العالم. لا أن أكتفي بأن أقوم بتقليد أساتذتي.

كان التقليد في الإذاعة ألا يظهر اسم أحد لم ينته من دراسته الجامعية، وكنت لا أزال طالبا، وظهرت المشكلة حين قمت بفكرة أحد البرامج وتمت الموافقة عليه من كل اللجان. كيف يمكن أن ينشر اسمي مصاحبا للبرنامج.

وقلت لهم إنني مستعد لتقديمه من دون اسم. كان اسم البرنامج «شخصيات في الأخبار» وقمت بتقديمه لمدة تسعة أشهر كاملة دون أن يذكر اسمي. وقد أثرى هذا البرنامج ثقافتي السياسية، وببطء زاد إصراري على أن أكون واحدا من دنيا الكلمة سواء كانت مكتوبة أو منطوقة أو مغناة، واستحوذت هذه الدنيا علي، حتى أنني نسيت منزلي ولم أكن أعود إليه إلا من أجل ساعات قليلة من النوم.

تسجيلات نادرة

  • شاهدتك في حديث تلفزيوني سابق، واكتشفت أن لديك مكتبة صوتية ضخمة مليئة بالمئات وربما بالآلاف من التسجيلات الإذاعية النادرة. كيف فطنت إلى أهمية جمع هذا التراث وكيف كونت هذه المكتبة الضخمة؟

- كنت موظفا صغيرا مرتبي لا يتجاوز 13.25 جنيه. وهي على سبيل المكافأة لأنني كنت موظفا مؤقتا، وحصل عندي حالة من الإبهار بعالم الصوت والتسجيلات، وقد عشقت شريط التسجيل من خلال الأجهزة التي كانت لاتزال متخلفة في ذلك الوقت. في يوم فوجئت بأن هناك مزادا ضخما تقيمه الإذاعة لبيع كل الأشرطة التي بحوزتها والتي تخص العهد البائد. كان هذا بعد ثورة يوليو بطبيعة الحال، وعندما ذهبت لإلقاء نظرة وجدت هذه الأشرطة تضم تسجيلات كل عباقرة الأدب والفكر والسياسة في ذلك الوقت، ولكني لم أكن أملك المال الكافي للدخول في هذا المزاد. ولكني تابعت المزاد وعرفت عنوان التاجر الذي اشترى هذه الشرائط، وأخذت أتردد على محله في وكالة البلح في مطلع كل شهر. اشتري شريطا أو شريطين بما يسمح به مرتبي. كنت أدخر من مرتبي جنيها واحدا أحاول أن أحصل على أكبر عدد من الشرائط. وبعد عام من ترددي. ولأنني كنت الزبون الوحيد، قال لي التاجر: ما رأيك أن تعطيني مائة جنيه وتأخذ كل هذه الشرائط، وكان هذا مبلغا كبيرا وفادحا في هذه الأيام. واستلزم الأمر أن أعمل أكثر من «جمعية». وأقترض أكثر من نقود حتى أجمع هذا المبلغ، وكان أهلي في أشد الدهشة وأنا أدخل عليهم بتلك الصناديق القديمة المتربة التي يعشش عليها العنكبوت.

ولكن هذا الكم من الشرائط النادرة هو كان بداية مكتبتي. ولكنها كانت تؤرخ لزمن مر وانتهى ووجدت لزاما علي أن أؤرخ للزمن الذي أعيش فيه. وكان علي أن أقوم بتسجيلات جديدة تؤرخ لرموز هذا الزمن. بدأت أحمل جهاز التسجيل وأجوب في كل الأماكن لأسجل مع كل رموز الأدب والفن.

وقد حدث أنني سجلت سهرة إذاعية جمعت بين إحسان عبدالقدوس وعلي أمين وسعاد حسني. وقد أحدثت دويا عند إذاعتها. وعندما حاولنا إعادة إذاعتها مرة أخرى اكتشفت أن الشريط قد تم مسحه. وأصابني هذا بالمرض الشديد. وقررت من هذه اللحظة أن أحتفظ بأصول كل تسجيل في مكتبتي، وأخذت أدفع من مرتبي الضئيل حتى أشتري شرائط جديدة. وقد كانت مكلفة في هذه الأيام، ولم تكن متوافرة في مصر. وكنت أوصي أي صديق مسافر للخارج أن يحضر لي المزيد من هذه الأشرطة. كنت أشعر أن دور هذه الأشرطة لا يتوقف عند إذاعتها، ولكن لها دور أهم في الاحتفاظ بلحظات التاريخ. تماما مثل الأشرطة القديمة. بدأت أعرف تاريخي ومدى تطوري وأنا أستمع للشرائط القديمة. وأصبحت أشعر أن مسح جزء من تسجيلاتي يعني بتر عضو من جسدي.

إنني الآن حين أعيش في مكتبتي أشعر بكثير من الزهو. لا يهمني المناصب الكبيرة التي أخذها زملائي. لم أصبح حقا رئيسا للإذاعة، ولكن ما حققته في هذه التسجيلات جعلني أهم من أي رئيس للإذاعة. إنني دائما أتذكر قول الفنان عبدالوهاب لي: «وأنت تمسك الميكروفون أترك نفسك للحظة الإبداع الرباني. انس ما أعددت وما جهزت ودع نفسك تنطلق مع لحظة الإبداع هذه». وكنت دائما ما أفعل ذلك.

تجربة صوت العرب

  • لقد عشت العصر الذهبي لإذاعة صوت العرب عندما كان صوتها يصل إلى كل بلد عربي ويؤثر فيه. ماذا حدث ، لماذا تراجع هذا الصوت وأصبح خافتا، ولماذافقدت مصر دورها الرائد في الفضاء العربي، هل تأثر هذا الدور بما حدث في حرب 67 أو ما يسمى بالنكسة؟

- كان صوت العرب أصدق تعبير عن مصر في مرحلة ما قبل 67، كانت النبرة عالية في الكلام، العنيفة في الهجوم، وكانت صوت العرب هي المعبر والمعبئ لكل الدول العربية. ولكن النكسة قصمت ظهر الحياة في مصر، وقد ظلم صوت العرب ظلما شديدا واتهم بأنه بالغ كثيرا وحاول التعمية عن السلبيات التي أدت إلى الهزيمة. كانت صوت العرب تنفذ سياسة الدولة، وكانت تأتي إليه البيانات من القيادة العامة للجيش، ليس له الحق في مناقشتها، بل إن القيادة كانت تعترض على صوت المذيع إذا كانت نبرته هادئة. ولم تكن هذه النبرة العالية في الأداء الصوتي فقط، ولكن في الأداء الغنائي أيضا، وكنا نسمع الأغاني قبل إذاعتها في التلفون للقيادة العامة، وكانوا يرفضون بحجة أنها ضعيفة وليست حماسية كما ينبغي. وكنا نضطر في أكثر من مرة لإعادة التسجيل ولإدخال آلات النفخ النحاسية. لقد عرّت النكسة الكثير من الأشياء ومن ضمنها الإعلام الذي كان يمثله في ذلك الوقت «صوت العرب». بعد ذلك دخلت صوت العرب في مرحلة من العقلانية والنبرة الهادئة. ولكنه لم يعد وحده، فقد ظهرت العديد من الإذاعات المحلية في البلاد التي تحررت من الاستعمار. وبدأ كل يستمع إلى إذاعته الخاصة.

وغيرت صوت العرب من استراتيجيتها، فقد تحولت من أنها صوت مصر إلى العالم العربي، ولكن صوت العالم العربي الخارج من مصر. وهي مرحلة من مراحل التلاحم العربي، ولكن صوت العرب لم يستطع أن يعود لمكانته، فقد تغيرت الظروف، وظهرت الفضائيات التلفزيونية، وازدحمت المساحة بالعديد من المحافظات الإذاعية والتلفزيونية، وعلى الرغم من ذلك فإنني موقن أنه على الرغم من سحر الصورة في التلفزيون والإمكانات الضخمة التي تنفق عليه، فإن هناك دورا للإذاعة، سئل أحد كبار السياسيين في العالم، عندما تقوم الحرب العالمية الثالثة، كيف تتابعها؟ قال: افتح الراديو لأستوثق من الخبر.

ثم أفتح التلفزيون لأتأكد من حقيقة الخبر بالصورة، ثم أتابع التفاصيل في الصحافة، أي أنه لا توجد وسيلة تلغي الأخرى، ولكن كل واحدة منها تكمل الأخرى، لذلك، فإن كل ما نعيش فيه هي روافد تقول الحقيقة للمواطن الذي كان يجدها ناقصة دائما، الآن يستطيع أن يستعين بالمدونات والصحف المقروءة والإذاعة والتلفزيون، كلها أشياء توضح الصورة، ولكن أستطيع القول إنه على الرغم من كل هذا الزحام فإن الإعلام المصري يستحوذ على اهتمام العالم العربي.

الفن يهبط إلى الشارع

  • أنت واحد من عشاق فنون الموسيقى والغناء. فقد ساهمت في تجربة كبيرة قامت بها صوت العرب حين أخذت الفنانين إلى الأقاليم والمدن البعيدة وأحيت العديد من حفلات أضواء المدينة وليالي الشرق وسط هؤلاء الناس الذين حرموا طويلا من الاستمتاع بهذا الفن؟

- عندما نتأمل تاريخ الفن في مصر، نجد أنه بدأ في القصور. وربما كان أقدم شارع للفن في مصر هو شارع محمد علي، وهو قريب من القلعة حيث كان يقيم المماليك. وفي القصور التي تحيط بها. وكانوا يحبون السهر والرقص والغناء، وبدأ الفنانون يركبون الحمير ويتوافدون على القلعة للسهر فيها طوال الليل وينصرفون في الصباح، لذلك بحثوا عن أقرب مكان يسكنون فيه، وكانت نشأة شارع محمد علي. وقد ظلت الموسيقى والغناء أسيرة القصور حتى جاء سيد درويش فهبط بها إلى الشارع المصري. أخذ يغني للحرفيين والعمال والصهبجية. وبدأ الشارع المصري هو أيضا يصيغ ألحانه الخاصة، فهناك لحن مثل «قولوا لعين الشمس ما تحماشي.. أحسن حبيب القلب صابح ماشي»، وقد لحنها الناس للزعيم سعد زغلول وهو متوجه إلى المنفى. وهو أيضا الذي لحن له «زغلول يا بلح» لنفس الزعيم. وقد أخذ سيد درويش من هذا الشارع لينتج أعظم ألحانه «قوم يا مصري.. مصر دايما بتناديك». ثم جاء زمن أحمد شوقي واحتضانه لمحمد عبدالوهاب وهو الذي عوده على غناء القصائد. وكان ذلك عودة لمجتمع الصفوة والقصور، ولكنه لقي إعجابا شديدا، فعلى سبيل المثال، جاء طه حسين وصعد أكثر من 90 درجة في مبنى علوي حتى يحضر عبدالوهاب وهو يسجل أغنية الجندول. وقد عرف عبدالوهاب طريقه للموسيقى العالمية عن طريق مكرم عبيد السياسي الشهير. وكان عبدالوهاب يذهب إلى مكتبه للمحاماة ويجلس معه وهو يراجع القضايا، وكان مكرم يستمع باستمرار إلى تسجيلات من الموسيقى العالمية. وهو الذي قال له: «يا محمد افتح شبابيكك على العالم» وقد تأثر عبدالوهاب، ولكن الموسيقى الشعبية أخذت طريقا آخر، كان صالح عبدالحي هو البداية بإمكاناته الصوتية الكبيرة ثم ظهر محمد عبدالمطلب وعبدالعزيز محمود وعاد الفن مرة أخرى إلى الشارع المصري. وعند انطلاقة الثورة ظهر عبدالحليم حافظ، وقف على المسرح يغني، ولم تكن لصوته إمكانات قوية كالآخرين، ولكنه أخذ يغني في صوت خافت أتاح للرجل العادي في الشارع أن يشاركه الغناء.

وكما قلت سابقا في حديثي لقد بدأت حياتي وأنا أتابع محمد عبدالوهاب وهو يغني دعاء الشرق، ثم كلفتني الإذاعة بعد ذلك للذهاب للسيدة أم كلثوم حتى أعرف ماذا يوجد عندها من أغاني حتى تغنيها في المناسبات المختلفة. وكانت أم كلثوم ترسلني إلى السنباطي حتى أسأله. وكنت قد أحببت هذا العالم فلم أبال بما فيه من مشقة، لم يكن لدي مانع من أن أذهب إلى منزل السنباطي في آخر مصر الجديدة وأنا لا أملك سيارة، أو أنتظر حتى وقت متأخر في الليل حتى أسير مع الأستاذ رامي ونسير يدي في يده حتى نلحق بآخر «مترو»، أو أن أذهب إلى زكريا أحمد في منزله بميدان ابن سندر في الزيتون ونجلس على الرصيف أمام منزله وهو لا يكف عن الحكايات.

وقد بدأت أعيش حياة الغناء من خلال احتكاكي بهذه الرموز الكبيرة. ومن خلال عشرات التفاصيل اليومية والخلافات. وقد تدخلت في الخلاف الشهير بين أم كلثوم والسنباطي. كان هناك نزاع بينهما وقضايا مرفوعة، وعندما أردنا أن نلحن قصيدة «بغداد يا قلعة الأسود» قالت أم كلثوم، لن يقدر على تلحينها إلا السنباطي. ولكنه إذا علم أنها لي لن يلحنها. وتوسطت أنا حتى آخذ القصيدة وأذهب إليه وأقنعه بتلحينها وإعادة المياه إلى مجاريها. كل هذا جعل في داخلي ما يشبه المعرفة الغريزية بما يريد المستمع وبما يجب أن يسمع، ليس في مجال الغناء فقط، ولكن في مجال الدراما أيضا، فعندما نقلت إلى قسم الدراما في صوت العرب استطعت أن أقدم فيه أشهر المسلسلات مثل «شنطة حمزة» على سبيل المثال. ولكن عرفت الذوق العام، وكيف أستطيع أن أجمع الأصوات التي تتناسق وتقدم حفلة ناجحة يقبل عليها الناس. كان لدينا حفلة رئيسية هي التي تقيمها أم كلثوم كل شهر. ولكنها كانت تشجع إقامة الحفلات الأخرى حتى يظل المستمع مرتبطا بعالم الموسيقى والغناء، وجعلني هذا لا أقف عند لون واحد من أول أم كلثوم إلى عبدالمطلب. وتعودت على الفن الشامل. ولم أتعود على الفنان المصري فقط ولكني تعودت على الفنانين العرب أيضا. وقد توسعت معارفي ببقية الألحان في كل البلدان العربية وأذكر أننا في صوت العرب وجهنا دعوة إلى فيروز للقدوم إلى مصر. وكانت لاتزال عروسا متزوجة حديثا من عاصي الرحباني. وجاءا إلى مصر وسجلا بعضا من أعذب الألحان مثل سوف أحيا، وشط إسكندرية، وخايف أقول اللي في قلبي، وزوروني كل سنة مرة.

حياة على الأشرطة

  • فيلم «حليم» الذي أنتج عن حياة عبدالحليم حافظ كان يعتمد في شكل أساسي على حوار طويل بينك وبين عبدالحليم. لم تقم أنت بالدور بالطبع. ولكن الفيلم اعتمد في مادته الأساسية على هذا الحوار الإذاعي. لقد قمت بالعديد من هذه الحوارات المطولة مع أعلام الفن مثل عبدالوهاب وأم كلثوم. حدثنا عن تجربة هذه الحوارات المعمقة؟

- هذا الفيلم اعتمد على حوار طويل أجريته مع عبدالحليم حافظ في برنامج بعنوان «يوم من عمري». وقد نسجوا من هذا الحديث سيناريو الفيلم، على الرغم من أنهم أطلقوا علي فيه اسم «رمزي» وليس وجدي، ولكن هذه الحوارات المطولة جعلتني أعيش زمنا لم أعشه. وعلى سبيل المثال فإن حواري مع أم كلثوم هو واحد من أمجد الأعمال الإذاعية التي قمت بها. وقد استغرق هذا الحوار 12 ساعة كاملة. كانت أم كلثوم ترفض أي نوع من الأحاديث وقد كانت ترهب الميكروفون وتعتبر أنه موجود للغناء فقط. ولكن بسبب إلحاحي عليها استطعت أن أحولها إلى حكاءة متدفقة بالذكريات. وقد حكت لي عن معاناتها الأولى في عالم الغناء. حين كانت تدخل القصور من أبوابها الخلفية. وتأكل في المطبخ مع بقية الخدم. وكانت تحكي عن كل ذلك في صراحة ودون خجل أو إحساس بالمرارة، كانت صراحتها متناهية. وعندما سألتها عن مدى حبها للفن، قالت فن ماذا، لولا أنني احترفت الغناء ما وجدنا الطعام. لقد سألت هذا السؤال نفسه لكل النجوم العرب، ولم أتلق مثل هذه الإجابة القاسية في صراحتها. أما بالنسبة لعبدالوهاب فقد طاردته في كل الأماكن التي كان يذهب إليها. وعندما جلست معه للتسجيل وجدته يعطيني عالمه من خلال الشخصيات التي عاشها وتقابل معها، وقد أسهبت معه كثيرا في كل التفاصيل، لأنني كنت من خلاله أطل على زمن لم أعشه. حكى لي عن علاقته بالملك ومصطفى النحاس وأحمد شوقي والعقاد وطه حسين ومكرم عبيد وروزاليوسف وإحسان عبدالقدوس. وقد عشت التجربة نفسها مع عبدالحليم حافظ. فقد حكى لي عن أصعب الأيام التي واجهها في حياته. فقد كان يتيما وتربى في بيت خاله. ولم يكن له مكان داخل البيت لذلك كان ينام على «مصطبة» خارجه. ولم يكن أمامه عندما يستيقظ من النوم إلا أن يهبط إلى الترع حتى يتبول ويستحم. وفي هذه المرحلة أصيب بالبلهارسيا. وهو يتذكر عندما حان الوقت ليغادر القرية وطاف على كل البيوت ليسلم على الجميع لأن كل من فيها كانوا أخوته في الرضاعة. كل هذه لم تكن مجرد تسجيلات على شريط. ولكن كانت حياة كاملة التفاصيل تتسلل إلى داخلي وتسكن خلاياي. وأصبحت مكتبتي مجموعة من الذكريات والحوادث والنوادر التي تكشف عن هذا الزمن.

ليالي الصهبجية

  • أنا من عشاق برنامج «ليالي الصهبجية» الذي يتم تقديمه من خلال أوربيت، وأنا أتابعه بشغف، على الرغم من أنه يعيد حلقاته القديمة. كيف واتتك فكرة تقديم الغناء العربي القديم بأصوات شابة وطازجة، بحيث تعيد للغناء بهجته وحيويته؟

- بدأت رحلتي مع قناة أوربت من بدايتها، وقد قمت بتسجيل قصة حياة فاتن حمامة، ثم قصة حياة وردة، وغيرهما من الشخصيات ولكن كان لي صديق سعودي عاشق للغناء، هو عبدالله باجسير. كان مديرا للتلفزيون السعودي، ثم أصبح مخرجا متفرغا. واقترحت عليه أن نقوم بعمل ليالي الصهبجية، على أن نقوم بتسجيلها في موطنها الأصلي في كوم الدكة بالإسكندرية.

والصهبجية هم مجموعة من صيادي السمك. عندما يعودون إلى بيوتهم بعد رحلة شاقة في البحر. يحضرون طعامهم ثم يجلسون تحت منزل سيد درويش ويأخذون في الغناء طوال الليل. ولكن كانت هناك صعوبة في تنفيذ البرنامج على أرض الواقع. لذلك، أعدنا بناء ديكور خاص بالبرنامج وفتحنا الباب لاختيار مجموعة جيدة من الأصوات الشابة، وقد أنتجنا من هذا البرنامج 92 حلقة حتى الآن وفي كل ليلة منها تجد شيئا مختلفا ومثيراً. وقد توقف البرنامج لظروف إنتاجية ولكن مازلت آمل في إعادته مرة أخرى. وسوف يتم ذلك بطريقة مختلفة، فقد أصبح للصهبجية عشاقها في جميع أنحاء العالم العربي. وهم على اتصال دائم بي ويريدون حضور تسجيل الحلقات الجديدة وقد جعلني هذا أؤمن بأن الغناء الحقيقي مازال حيا ولا يموت، ولأنه مرتبط بمضامين لم تعد موجودة الآن. أذكر ذات مرة أنني كنت في إحدى حفلات الموسيقى العربية أجلس بجوار عبدالوهاب، وأشرت له على جمهور الشباب الذي جاء يسمع الغناء القديم. وقال لي إن كل واحد يريد أن يرى صورة جده القديمة وهي أشبه بالبحث عن الجذور.

كانت الصهبجية هي محاولة لإعادة التوازن بين الصرخات المنتشرة هذه الأيام والغناء الجاد والممتع وإعادة تلقي الذوق الفني عند الشباب. لقد كان من السهل عند تسجيل هذا البرنامج أن نستمع للأغاني القديمة ونتناقش حولها. وحتى هذا كان أرخص إنتاجيا. ولكن كان الهدف أن نقدمها بأصوات الشباب حتى نجذب لها الشباب.

أين أنا؟

  • والآن، بعد كل هذه التسجيلات، واستقصاء حياة الآخرين، أين أنت؟ أين حياتك أنت؟ هل قمت بتسجيلها على شريط أو في كتاب!

- أنت تعرف طبعا أن زمار الحي لا يطرب. كنت أتمنى أن يقوم تلفزيون بلدي بتسجيل مشوار عمري. ولكني لم أظفر بذلك. جاءت المبادرة من تلفزيون دولة قطر. لقد دعاني الأخ عبدالرحمن الكواري إلى أن أبدأ في تسجيل مشوار عمري. وأن أطعم هذا بالتسجيلات النادرة التي أملكها، وقد أحببت ذلك حقا، لأن هذه التسجيلات يجب ألا تكون حبيسة في المكتبة. وأنا أؤمن بأنك إذا أردت أن تعيد الانتماء لأجيال الشباب، فهذا الانتماء ليس خريطة نعلقها على الحائط. ولكن يجب أن يرتبط بمواقف وأحداث وتاريخ. لذلك، فإن مشوار عمري سوف أقوم بتسجيله على مدى 90 حلقة. وسوف يتضمن كل الأحاديث التاريخية التي عشتها. وسوف أذيع الأغاني النادرة التي أذيعت في هذا الزمن وتسجيلات كل الوقائع، وسوف يظهر هذا المشوار تلفزيونيا وفي كتاب أيضا، وأرجو أن يكون هذا الكتاب هو جزء من تاريخ الوجدان العربي.

--------------------------------------

هاجري ظلماً بغيرِ خطيئة ٍ
هلْ لي إلى الصفحِ الجميلِ سبيلُ؟
ماذا يضركَ لوْ سمحتَ بنظرة ٍ
تَحْيَا بِهَا نَفْسٌ عَلَيْكَ تَسِيلُ؟

محمود سامي البارودي

 

 

محمد المنسي قنديل 





 





وجدي الحكيم يتلقى جائزة أفضل إعلامي عربي. يسلمها له وزير الإعلام الكويتي الشيخ صباح الخالد وبجواره ماضي الخميس أمين الملتقى الإعلامي العربي





عبد الحليم حافظ .. صوت الزمن الجميل





أم كلثوم وعبدالوهاب قمتا الغناء والموسيقى العربية