التاريخ الإسلامي بين القدامى والمحدثين

التاريخ الإسلامي بين القدامى والمحدثين

لفت انتباهي حديث لشيخ المؤرخين المعاصرين الدكتور جمال بدوي - رحمه الله - وذلك قبل وفاته بأيام حسب ما أذكر، وذلك في عام 2008م، في مقابلة تلفزيونية في معرض رده على دعوة بعض الباحثين في علم التاريخ لإعادة كتابته.

وهذه الدعوة، في تقديري، تأتي نتيجة لقراءة متسرّعة في التاريخ في أدواره المختلفة، وتفسيره تبعا لمعايير بعيدة عن مجمل الأبعاد التاريخية، سياسية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية. وقد تبدو، كذلك، نتيجة لاختلاف الآراء الفقهية ذات الصلة بنظم الحكم والخلافة في دولة الإسلام، عندما لا تتوافق الروايات التاريخية مع ما ذهبوا إليه من رأي.

أشار الدكتور بدوي مستنكرا هذه الدعوة إلى الكم الهائل من المصنفات التاريخية الجليلة والمتوافرة لدى الباحثين، محققة ومطبوعة أو مخطوطة بانتظار التحقيق والنشر. ودعا الداعين إلى إعادة كتابة التاريخ، إلى إعادة قراءته حسب أصول البحث التاريخي في التحليل والتفسير وصولا إلى تجديد النظر في الأحداث التاريخية وصانعيها وفي تقديري ثمة مستشرقون غربيون قد حملوا ويحملون هذه المهمة. أذكر منهم المؤرخ الروسي بارتولد VV.Bartold المتوفى عام 1930م في مصنفه الضخم «تركستان من الفتح العربي إلى الغزو المغولي» والألماني كارل بروكلمان C.Brockelman الذي تعرّض للعلاقة بين تاريخ الطبري وتاريخ ابن الأثير والسويسري آدم متز Adam Mitz المتوفى عام 1917م في كتابه عن الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، والذي نقله إلى العربية الدكتور محمد أبو ريدة في عام 1947، وكان من جملة مصادره التاريخية مخطوطات ربت على الأربعين موجودة في مكتبات في برلين وباريس وليدن وليبتزج وميونخ وفيينا ولندن. والمؤرخ الفرنسي المعاصر أندريه ريمون الذي شغل منصب مدير المعهد الفرنسي للدراسات العربية بدمشق في دراسته عن تاريخ القاهرة العثمانية، والتي نقلها إلى العربية الدكتور زهير الشايب، وكان من جملة مراجعه بالإضافة إلى المصادر الرئيسية (مؤلفات المقريزي وأحمد شلبي والقنبالي والدمرداش والجبرتي وعلي مبارك) الوثائق المتناثرة والمكدّسة بلا تنظيم والمبعثرة بين دار المحفوظات العمومية ودار الوثائق القومية والمحكمة الشرعية بالقاهرة باذلا في ذلك جهدا مضنيا.

وأذكر من المؤرخين العرب الذين اتبعوا أصول البحث التاريخي في أعمالهم، وأضافوا الكثير من المعلومات المهمة الدكتور سهيل زكار أستاذ التاريخ بجامعة دمشق الذي أنجز أعمالا رائعة في تاريخ الحروب الصليبية والحروب المغولية، وأزاح الستار عن الروابط المشتركة لتوجهاتهم في القضاء على العالم الإسلامي. والدكتور مصطفى جواد من العراق والذي وُصف بالمؤرخ الثبت والعالم اللغوي والأديب والباحث، وذلك عن أعماله القيّمة في التاريخ العباسي بكل أدواره. والدكتور زهير الشايب من مصر وترجمته الفريدة لمصنفات «وصف مصر» التي وضعتها مجموعة كبيرة من علماء الحملة الفرنسية على مصر في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي وجعلها متاحة للباحثين باللغة العربية لأول مرة. وكذلك الأستاذ مصطفى مراد الدباغ من فلسطين في عمله الموسوعي الضخم «بلادنا فلسطين» من مطبوعات رابطة الجامعيين بمحافظة الخليل - فلسطين. وذكر هؤلاء العلماء من مستشرقين وعرب، وذلك غيض من فيض لا يتسع المجال لذكرهم في هذا المقام.

وأشير هنا إلى شهادة بارتولد في حق المؤرخين العرب الأوائل في القرن الأول والقرن الثاني الهجريين الذين ورد ذكرهم في مؤلفات الطبري وابن الأثير والبلاذري وغيرهم. وكذلك شهادته في حق الفاتحين العرب وذلك في كتابه «تركستان» الذي نقله إلى اللغة العربية الدكتور صلاح الدين هاشم، وهو من منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب واللجنة الوطنية للاحتفال بدخول القرن الخامس عشر الهجري في دولة الكويت. دلل بارتولد في بحثه بما لا يدع مجالا للشك على أن فتح العرب المسلمين لما وراء نهر جيحون في بداية القرن السابع الميلادي/الأول الهجري لم يقف عند حد كونه عاملا خارجيا طارئا ، بل جلب معه علاقات اجتماعية جديدة ونماذج للحكم جديدة، ونظاما للضرائب جديدا إلى جانب دين جديد أيضا هو الإسلام، وأخيرا اللغة العربية وآدابها. وأوضح أنه اعتمد الرواية العربية وحدها فيما يتصل بالفتح العربي الإسلامي لتركستان، وذلك حسب تعبيره لعدم وجود مصنفات تاريخية بلغة أخرى قبل الفتح، ولكون هذه اللغة - والتعبير مازال لبارتولد- هي الوحيدة في العالم الإسلامي بأجمعه على وجه التقريب وعلى مدى القرون الثلاثة الأولى للهجرة. وأشاد بأصالة الروايات العربية المبكرة، والتي اعتمدها مؤرخون لاحقون، وتناولوها بالتحليل والتفسير ما جعلها تتوافق بسلاسة مع شروط النقد التاريخي حتى في غياب مصادرها الأصلية المبكرة، التي تسربت إليها يد الضياع.

وقد انفرد البلاذري بالنقل عن مؤرخ سابق عليه برواية عن توغل للقوات العربية وراء نهر جيحون، ودخولهم مقاطعة مايمرغ إلى الجنوب الشرقي من سمرقند، وذلك في عهد خلافة الراشد الثالث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وقد وجدت هذه الرواية تأييدا تاما في المصادر الصينية المتاحة للمستشرق الهولندي دي جويه DeGoeje. وقد جاء هذا التوسع شرقا بعد انتصار القوات العربية الإسلامية في معركة «مرو» الكبرى في عام 30هـ/651م، والتي حسمت نهاية مملكة فارس.

وأشاد بارتولد بالمؤرخ الإسلامي ابن الأثير المتوفى عام (630هـ) ونوّه بامتيازه بأمانة علمية كبرى ومهارة في النقد نادرة بالنسبة لعصره، وأضاف كارل بروكلمان C.Brokelman أن ابن الأثير قد عالج روايات الطبري بتفهّم عميق. وأضاف إليها زيادات مهمة بصورة تجعل الاعتماد على مادته التاريخية منهجا صحيحا. وكمثال دلل على صحة ذلك أن ابن الأثير هو المؤرخ الوحيد الذي قدم رواية مفصلة عن معركة نهر تالاس Talas River إلى الشمال الشرقي من سمرقند التي جرت بين العرب والصينيين عام 130هـ/751م والتي حسمت مصير تركستان حسما نهائيا لمصلحة الإسلام. وقد وجدت هذه الرواية أيضا التأييد الكامل في المصادر التاريخية الصينية.

آمل أن أكون قد أوضحت فيما تقدم من بيان حاجة المؤرخين المحدثين ممن يدعون لإعادة كتابة التاريخ للعودة إلى المنهل الصافي من تراثنا التاريخي الضخم الذي شهد مستشرقون غربيون ومؤرخون عرب محدثون بأصالة رواياته وأمانة رواته ومهاراتهم في النقد التاريخي، واعتبروا الاعتماد على هذا التراث التاريخي منهجا علميا صحيحا.

وأخيرا لا أضيف جديدا عندما أقول إن هذه الفتوحات الجليلة في الشرق فضلا على فتوحات معاصرة لها في الغرب حتى شواطئ الأطلسي وعبورا حتى تخوم فرنسا الجنوبية قد جاءت تصديقا لوعد الله في سورة «الفتح» بأن جعل أراضيها دارا خالصة للإسلام، وبأن منْ على شعوبها بنعمة الإسلام، والتي جعلها جلّت قدرته على أيدي السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وتابعهيم، وذلك فضل وتكريم من الله لهم، أي فضل وتكريم ورضا منه عليهم أي رضا.

علي سلامة جبر - كندا