النموذجان النقيضان

النموذجان النقيضان

كانت أهم سمة بارزة للشاعر، في العصر الجاهلي، من حيث هو نموذج أصلي، أنه صانع أسطورته الخاصة التي يستمد سرها من حضوره المستقل، ويشع تأثيرها من خصائصه الذاتية. صوته صدى وجوده، ومعتقده بعض صنعه، وحكمته خلق ذاتي، وإبداعه تشكيل حر .

روى الأصمعي عن أبي عمرو ابن العلاء أن العرب في الجاهلية أنزلت الشعـراء بينها منزلة الأنبياء في الأمم، لأن أهل الجاهلية لم يكن في أيـديهم كتاب يرجعون إليه، ولا حكم يأخذون به. وكان الشعر عنـدهم علما لا علم فوقه على نحـو مـا ذكر عمر بن الخطاب، فالتجأوا إليه لما وجـدوا فيه من الحكمة، ولما رأوا أن الشعـر قـد عمـل في قلوب الملوك والأشراف، وفعل في أنفس أهل البـأس والنجـدة وفي عقـول أهل الكرم والنخوة والأنفـة. وقال أبو حاتـم الرازي إن الله سبحـانه وتعالى لما أراد صيانة هذه اللغة وتفضيلهـا وادخارها، إلى الوقت الذي أنزل بها كتـابه وبعث بها رسوله محمـداً (صلى الله عليه وسلم)، أنشأ لها من كل قبيلة شعراء قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم، فتكلموا بالشعر الرصين، المحكم بـالمعاني، الموزون بالعروض، المقوم بالأنحاء من غير أن يعـرفوا عروضا أو نحوا، لأن الله سبحانه وتعالى أيدهم بقيله، وألهمهم وزنه وترتيله، حتى أبرزوه بألفاظ حسنـة، ومعـان متقنة، وقواف موزونة، ومصاريع مستويـة، فرواه أهل اللب والأدب منهم، وقبلـه أهل الشرف والحسب عنهم، ورغب في تعلمه أهل الهمم، وصار لهم ديـوانا في الجاهلية، عليه يعتمـدون، وبه يحكمـون، وبحكمـه، يرتضون، حتى صـار الشعراء فيهم بمنزلـة الحكـام، يقولون فيرضى قولهم، ويحكمون فيمضى حكمهم، وصار ذلك فيهم سنة يقتدى بها، وأثارة يحتذى عليها.

ولكن هـذه المكـانـة العظمى للشـاعـر لم تستمرطـويلا، فقد أصابها من التغير والتحـول ما يـرجع إلى تبـدل العـلاقـات الاجتماعيـة والـدينيـة والمعرفيـة على السواء. وقد بدأ هذا التغير منذ أن دخلت العلاقة بين الشاعر وسادات القبائل أفق الربح والخسارة، وعرف أمثال زهير ابن أبي سلمى عطايا أمثال هرم بن سنان التي وإن لم تفسد زهير أفسـدت غيره، على نحـو مـا فعلت في النابغـة أموال ملوك غسان فيما يحدثنـا الرواة، وذلك في تصاعد أفضى إلى تحول الشعر على يدي أمثال الأعشى إلى متجر يطـوف على الملوك والأثرياء طلبـا للعطاء، وسعيا وراء الربح لا الحكمة. وكانت النتيجة نزول الشعراء عن مكـانتهم القديمـة، لا موازاة تبـدل علاقات القبيلـة نفسها حين خـالطهـا أهل الحضر، وبـدايـة دخـولها في آليـات اقتصاديـة مغايـرة، وأبنيـة اجتماعية متحولة، وعلاقات قوى متصارعة.

وبرزت ظاهرة الاكتساب بالشعر، معبرة عن عهد جـديد من علاقات إنتـاج الشعر استقباله. وتولـد نموذج الشـاعر المادح الذي أخـذ يحتل مكانة الشـاعر الحكيم، أو يزاحمه على الأقل ، سالبـا منه بعضما كان لـه في علاقـات القـوى، أعني تلك العـلاقـات التي تأسست بظهور مراكز الثراء القلبي، وارتباط هذه المراكز بدوائر القوة والسلطة، وارتباط القوة والسلطـة ،بأهمية اللسان الناطق باسمهما والمعـبر عنهما. ومنذ ذلك الحين رغب رؤسـاء القبائل الكبرى وملوكهـا في اصطناع الشعـراء، لما وجـدوا في الشعـر من فـائدة تـدعم سلطانهم، وتشيع المهابة من حولهم، فأعطها الشعراء الهبات الرغيبة والعطايا السنية، إلى الحد الذي انحرف بالشعراء، ودفع طوائف منهم إلى خلط الباطل بالحق،والكذب بالصدق، فقالوا في الممدوح فوق ما كان فيه، وقرظوه بما ليس له أهلا، فنزلوا رتبة بعد رتبة، فيما يروي أبوحاتم الرازي في كتابه " الزينة ".

وبعد أن كان أمثال زهـير بن أبي سلمى لا يمدحون الرجل إلا بما فيـه، فيما وصفه عمر بن الخطـاب، جاء أمثـال الأعشى بما يجعل المديح على قـدر العطيـة، والأوصاف على قدر النوال . وبعد أن كنا نقرأ لزهير:

وأعلم علم اليوم والأمس قبله

ولكنني عن علم ما في غد عم

ومن هاب أسباب المنية يلقها

ولو رام أسباب السماء بسلم

ومهما تكن عند امرئ من خليقة

وإن خالها تخفى على الناس تعلم

أخذنا نقرأ قول الأعشى:

في هوذة الوهاب أهديت مدحتي

أرجى نوالا فاضلا من عطائكا

سمعت برحب الباع والجود والندى

فأدليت دلوي فاستقت برشائكا

وبدأ التحـول من صورة الشاعر المفرد الذي يتحد بالمجموع من قبيلته، هاديا إياها في ما يراه سبيلها القويم، إلى صـورة الشاعر الذي يتحـد بمصـالحه الخاصة ويسعى وراء الثروة، متنقلا بـين مواطنها ليزيد منها. وقد فعل ذلك النـابغة والأعشى وحسان وغيرهم من الشعراء الذين كـانوا يثابون على المديح في العصر الجاهلي ، والذيـن استنوا تقاليـد التنقل طلبـا للعطاء، ووضعوا الأصـول الأولى للتكسب بالشعر. وقد سـاعد أمثالهم على ذلك غياب السلطـة المركزية في العصر الجاهلي ، وعدم وجود مركـز قوي متحـد يضم إليـه الأطراف ويهيمن عليها، فضلا عن تنافس شيـوخ القبـائل وملوكها في توظيف الشعراء لتأكيد مكـانتهم والدفاع عن مصالحهم.

ومن الواضح أن ذلك التحول هـو المسئول عن بداية المهـانة الاجتماعية التي لحقت بصورة الشاعر، وأسهمت في تدمير مكانته الموروثة شيئـا فشيئا، وذلك إلى الدرجة التي دفعت أصحاب المكانة في العصر الجاهلي نفسه إلى أن يغضوا من شأن الشعر، وينظروا إليه بوصفه عملا لا يليق بـالسـادة أو أبنـائهم . وما يرويـه أبـو الفرج الأصفهاني، في كتابه الأغاني، من أن الملك حجر ملك كندة، طرد ولده امرأ القيس، وآلى ألا يقيم معـه أنفة من قول الشعر، دليل لافت ينبغي أن نتوقف عنده، وأن نتفهمه بوصفـه مؤشرا دالا في سياق العلاقات الاجتماعيـة المتحولة التي استبدلت بنموذج الشاعرالحكيم نموذج الشاعر المادح، وبالكائن النوراني الملهم الذي يتنزل منزلـة أكرم الخلق الكائن العملي الذي يبيع قولـه، والذي دنـا فتدلى، فصـار أقرب إلى الأخسـاء. وعبارة الأصفهاني التي تقول "كانـت الملوك تأنف من قـول الشعر" عبارة حـاسمة في الدلالة، خـاصـة في سياقهـا الذي نقرأ فيه لأبي الفرج وصفه لتطوح امرئ القيس في حيلة البطالة التي اقترنـت بالشعراء الذين انحدرت مكانتهم، وتدهورت الصورة الأخـلاقية التي رسمتها الجماعة لهم، فصار الكثير منهم سببا في وصف القرآن الكريم لهم، في سـورة الشعراء، بأنهم في كل واد يهيمون، ويقولون ما لا يفعلون.

انحدار الشاعر

قد يتشكك البعض فيما يرويه أبوالفرج الأصفهاني عن امرئ القيس لأنه يعتمد على رواية ابن الكلبى وهـو شخصيـة تثير الشكـوك من حيـث الثقـة في المرويات. ولكن حتى لـو كانت الـرواية مشكوكـا فيها فـدلالتها لاتزال حاسمة، من حيث هي علامة على نحو من الاقتناع الذي شاع بأن الملوك كانت تأنف منقول الشعر، وهو اقتناع لا معنى له سوى انحدار مكانة الشاعر على المستوى لاجتماعي لعلاقات القبيلة، وعلى المستوى المعرفي المرتبط بمصدر الخـبرة ومنبـع الحكمة . ومن الممكن أن نقرأ ما يرويه أبو الفرج الأصفهاني عن ابن الكلبي من منظور الروايات المتأخرة التي تبرر وضعا قائما سابقا عليها، وذلك في سياق نقرأ فيه لأبي الفرج نفسه ما وصف به النابغة من أنه " أحد الأشراف الذين غض الشعـر منهم "، وذلك لأنـه اتجه إلى التكسب بالشعر ولم يستنكف المتاجرة به . ووصـف الأصفهاني لا يحتاج إلى تعقيب كبير، خصـوصـا حينما نلتقط من دلالاته المتعددة التناقض الذي أصبح سمة العـلاقة الاجتماعيـة بين فئة " الشعراء الأدنى "وفئـة " الأشراف الأعلى ".

ولكن ينبغي أن نفهم أنفة الملك من قول الشعر " في نص الأصفهاني بما يقيد دلالـة العموم التي تحملهـا أداة التعريـف الملازمـة لكلمـة الشعـر، في النص فالعموم مقيد بالخصوص، وقول الشعر المكروه قرين كيفيـة مخصوصة في الأداء. ودائرة المعاني!، وطرائق منبوذة في التوظيف، تختصرها عبارة " التكسب بالشعر" قديما ونموذج " الشاعر المادح " حـديثا . ويعنى ذلك أن الأنفة مـن الشعر ليست أنفة من الشعر بإطلاقه ، وإنما أنفـة من خصـوصيـة بعينهـا لـوضع اجتماعي اقتصادي، متغير، وضع تحول بالمكانة القديمة المتوارثة للنموذج الأصلي للشاعر، واستبدل بالشـاعر الحكيم نموذجـا مناقضا، هبط بمكـانة الشعـراء من قمة الهرم الاجتماعي المعرفي للقبيلة إلى أسفله الذي يليق بالتابع لا المتبوع .

واحسب أن الصـورة التي يرسمهـا أبوالفرج لحياة امرئ القيس نفسه تـؤكد الدلالة الحقيقيـة لأنفة الملوك من قول الشعر، خصوصـا حين يصور لنا الأصفهاني، نقلا عن ابن الكلبى امرأ القيس وهو يسير في أحيـاء العرب، معه أخـلاط من شذاذ العرب من طيء وكلب وبكر بن وائل، إذا صادف غديرا أو روضـة أو موضع صيد أقام فذبح لمن معه كل يوم إلى أن ينفد ماء الغدير، فينتقل في غيره، في تطـوح لا كرامة فيـه من منظـور المهيمنيـن على قمة الهرم الاجتماعي للقبيلة . هذه الصورة للشاعر المحـاط بالأخلاط من شذاذ العرب، في حالة امرئ القيس، لا تختلف كثيرا عن الصورة الأخرى التي يرسمها أبو الفرج للأعشى، سواء في ترحـاله بحثا عن العطاء أو تصعلكـه المتطوح بـين الحانـات مع أخـلاط موازية من شذاذ العرب، وهي صورة تكمل ملامح التغير الذي أخذ يهبط بـالشاعر عموما عن مكانته الموروثة.

الشعراء الصعاليك

ولم يبق على هذه المكانة ، أو يتمسك بها، في نهاية العصر الجاهلي، سوى بعض الصعاليك الـذين حاولوا استلهام النموذج القـديم للشاعر، وتوظيفه توظيفـا يتجانس والحضور الجديد للصعلوك المتمرد على انحدار عصره، الداعي إلى قيم أكثر عدلا وإنسانية، المحارب من أجل هذه القيم التي يشيعها فيمن حوله، كأنه المنارة الجديدة أو الفـارس الحكيم الذي تضيء صحيفة وجهه ، كضوء شهاب القابس المتنور، مؤكدا دلالة النور التي وصلت رؤية الشاعر الصعلوك في تمرده بحكمة النموذج الأصلي للشاعر، خاصة في ترفعه عن التكسب بالشعر ذلك الترفع الذي ظلت الأجيال تردد دلالته في أصداء ذلك البيت المنسـوب إلى عبيد بن الأبرص في معلقته:

ومن يسأل النـاس يحرمـوه

وسـائل اللـه لا يخيب

ولم يكن من قبيل المصادفة أن الذاكرة العربية قرنت نموذج الشـاعر المادح بهوان التكسب بالشعر، مقابل النموذج الأصلي للشاعر الحكيم الذي قرنته بالأنفة من التكسب . وذلك هـو السبب الذي دفـع ابن رشيق القيروانى ، في كتابه العمدة في محاسن الشعر ونقده، إلىأن يخصص بابا للتكسب بالشعر والأنفة منـه، ويبدأه بقوله إن العرب كانت لا تتكسب بالشعر قديما ، بل كان الواحد منهم يصنع ما يصنعه مكافأة عن يد لا يستطيع أداء حقها إلا بالشكـر إعظاما لها، حتى نشأ النابغة الـذبيـانى فمـدح الملـوك، وقبل الصلـة على الشعر، وخضع للنعمان ابن المنذر، وكان قادرا على الامتناع منه بمن حـولـه من عشيرته أو من سـار إليـه من ملوك غسان، فسقطت منزلته وتكسب مالا جسيما، حتى كان أكله وشربه في صحاف الذهب والفضة وأوانيه من عطـاء الملوك، فلما جـاء الأعشى جعل الشعر متجـرا يتجر به نحو البلـدان، وقصد حتى ملك العجم فأثابه وأجزل عطيتـه علما يقدر ما يقول عنـد العرب، على أن شعـره لم يحسن عنـده حين فسر لـه، بل استهجنـه واستخف به، لكنه احتذى فعل الملوك العرب.

والواقع أن الأعشى قد أثار مخيلة الـرواة بكثرة ترحاله وراء المال . ولم يكتف الـرواة بما يدل عليـه شعره من الرحلة إلى الحـيرة واليمن وديـار كنـدة في حضر موت ونجران وعكاظ فيما يقول شوقي ضيف، بل يذهبون به في الفرس وعمان وبلاد الشـام متغلغلا فيهـا في حمص وبيت المقدس، ويجتازون به البحر إلى نجاشي الحبشة، ويجرون على لسانه شعرا يتحدث فيه عن هذه الرحلات البعيدة، فيقول :

وقـد طفت للمال آفـاقـه

عمان فحمص فـأور يشلـم

أتيت النجـاشي في أرضـه

وأرض النبيـط وأرض العجـم

ويضيف ابن رشيق إلى مثـال الأعشى الذي أصبح المجلى البارز للشاعر المادح في العصر الجاهلي الحطيئـة المخضرم الذي أكثر من السؤال بالشعر وانحطاط الهمة فيـه، والإلحاف، حتى مقت وذل أهله، إلى أن حـرم السائل وانعدم المسئول .

ويمضي ابن رشيق قـائلا : إن التكسب بالشعر هو الذي انحط بمرتبة الشعر بالقياس في الخطـابة، ففي مبتدأ الأمر كان الشاعر أرفـع منزلة من الخطيب، لحاجة العرب إلى الشعراء في تخليـد المآثر، فلما تكسب الشعراء بالشعر وجعلوه طعمة ، وتولوا به الأعراض وتناولوها ، صـارت الخطابة فوقه، وظلـوا على هذا المنهاج حتى فشت فيهم الضراعة، وتطعموا أموال الناس، وجشعها فخشعـوا، واطمأنت بهم دار الـذلة إلا من وقـر نفسـه وقارهـا، وعرف لها مقدارها، حتى قبض نقي العرض مصـون الوجـه. ويختتم ابن رشيق استعـراضه لتحـول صورة الشعر وتدني مكانته بقوله الدال : من وجد البلغة والكفاف فلا وجه لسؤاله بـالشعر . وذلك قول يعود بنا مرة أخرى ، إلى التضاد بـين النموذجين المتقابلين للشاعر الحكيم والشاعر المادح، ويؤكـد أنه تقابل وقع في مسار التعاقب التاريخي الذي تحولت فيه العلاقات الاجتماعية الاقتصادية على النحـو الذي فرض تولد نمـوذج جديد مناقض للشاعر الحكيم.

ولكن التقابل الذي حدث على مستوى التعاقب في الزمن سرعان ما تحول إلى تقابل على المستوى الآني من الزمن نفسه. أعني أن تخلق نمـوذج الشاعر المادح لم يقض على تجليـات النمـوذج الأصلي للشاعر الحكيم الذي لم يكف عن الحضور، والذي لم تكف تجلياته عن الإشارة إلى أصلهـا، والذي لم يعـدم في كـل عصر من يتقمصونه، ويدافعون عنه في مواجهة نقـائضه. هكذا وجد النموذجان أحدهما في مقابل الأخر، داخل علاقة متـوترة، تحول فيها مركـز الثقل والتأثير من طرف إلى طرف، نتيجـة السيـاقـات الخارجيـة التي اقـترنت بها العـلاقـة، على المستـويات الاجتماعيـة والاقتصـاديـة والسياسية والمعرفية في آن .

وبعـد أن كان نمـوذج الشاعر المادح هو النموذج الـلاحق في الـوجـود، بـالقيـاس في نموذج الشاعر الحكيم، أصبح كـلا النمـوذجيـن مـواجهـا لنقيضـه في حضور متزامن منقسم على نفسه، وفى علاقات إبداعية منقسمة بدورها ، ومن ثم ظل الشاعر الذي يقول :

ولا أسأل الـوغـد اللئيم بعيره

وبعـران ربي في البـلاد كثير

يواجه الشاعر الذي يقول:

كم أذلت المديح في حمد قوم

كـان كفراً بالمجـد ذاك الحمد

خـرج الجأ الصدوق إلى المـ

ـين وما من لـوازم الغيش بـد

الأول عرف لشعره قدره فصانه، حفاظا على المكانة التي ورثها، حين أنزله أسلافه منزلة أكرم الخلق، فلم يسأل الوغـد اللئيم بعيره، والثـاني تاجـر بـالشعر، واستبـدل بالصـدق الكذب، وبـالحق الباطل، سعيا وراء لوازم العيش التي لم يكن منها بد.

غواية الثروة.. ورصانة الحكمة

ولكن هـذا التضـاد لم يكن تضـادا بـين نموذجين متقابلين من الشعراء، وقف كل منهما مـوقف النقيضمن الآخر، منفصلا عنـه وبعيدا عنه، وإنما تحول فضلا عن ذلك في تضاد يمكن أن يقع داخل الشاعر نفسه ،وذلك منذ أن بدأت غواية الثروة تناوش رصانة الحكمة ،وحلم الثراء يخايـل قناعة المستغنـي وأحسـب أن شعر النابغة ينطوي على بداية هذا التوتر بين الاعتزاز بالمكانة المعرفية للشاعر والحرص على المكانة الاجتماعية، وبين الاعتداد بقيمة الشاعر والاتضـاع أمام مهابة الممدوح ،وبين الإيـمان بخلود القصيدة والتسليم بضرورة إرضاء غرور الممـدوح . وذلك توتر ظل قـائما لـدى شعـراء كثيرين، وابتدأ منذ العصر الجاهلي، ولم يتوقف إلا بعد أن استغنى الشـاعر عـن عطـاء الممـدوح، واستبدل بـالممـدوح كيـانـا أوسع مجالا، هـو كيـان القـراء، في عـلاقـات أخرى من آليات الإنتاج الأدبي . بعبـارة أخرى، وجـد النقيضان داخل الشـاعر العربي الذي أصبح ممزقا بين نموذج الحكيم ونموذج المادح ، وذلك منذ أن أصبحت لوازم العيش قاسية، وأصبح الممدوح مصدر الحيـاةوالموت فعلا لا مجازا، وفرضت العـلاقات الاجتماعية السيـاسية على الشاعر أن يكـون مجرد طالب فضل، يقول ما يراد منه، حتى لا يضيع رأسه الذي هو رأس ماله، فيما يقول ابن رشيق .

عنـدئذ انقسم الشـاعـر على نفسـه على نحـو مـا انقسمت طوائف الشعراء، فصـار الشاعر ينطوي في داخله على النموذجين المتقـابلين، يغلب أحدهما الآخر في موقف، ويتساوى كلاهما في موقف آخـر، ويتمزق بينهما الشـاعر الكبير في كل الأحوال . أمـا الشـاعر الشعرور فظل قرين النموذج المادح الذي ظل على حاله في الأغلب الأعم، بـاسطـا كفيـه، يستمطـر الـوارد والصادر.

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات