منصور رحباني الشاعر الشامل (1925 - 2009).. إلياس سحاب

منصور رحباني الشاعر الشامل (1925 - 2009).. إلياس سحاب

لم يكن شاعراً عادياً، كان فناناً شاملاً، يعي نبض الشعر وتقنيات المسرح وإيقاعات الموسيقى، ترك تراثاً خصباً ومتنوعاً من النادر ألا يتأثر به كل من يعشق الفن والموسيقى، كان هو الضلع الثالث. أو بالأحرى الضلع المؤسس لأعظم ثلاثي شهده الفن العربي، عاصي الرحباني الموسيقي المبدع، فيروز الحنجرة الملائكية، وهو باعث المعاني ومبدعها، تألقوا في حياتنا، ووهبونا فيضاً من السحر والجمال، وخففوا عنا عناء الواقع العربي المر الذي نعيش فيه. فكيف يمكن أن نجزيهم غير أن ننشر في هذا الملف بعضاً من التحيات المتواضعة التي نرجو أن ترتقي إلى مقامهم الفني الرفيع.

شاعر عصر التنوير

ولد «الأخوان رحباني» في أواخر الربع الأول من القرن العشرين، عندما كان المسرح الموسيقي في القاهرة يمهد لافتتاح عصر محمد عبدالوهاب وأم كلثوم, وعباقرة التلحين الثلاثة محمد القصبجي وزكريا أحمد ورياض السنباطي.
وأصبح الرحبانية إضافة حقيقية لهؤلاء العمالقة.

فقد كان والد عاصي ومنصور، يمتلك مقهى صغيراً في ضاحية أنطلياس البيروتية، يستمتع رواده بآلة فونوغراف تدار عليها أسطوانات ذلك العصر وأحدثها، أسطوانات محمد عبدالوهاب وأم كلثوم. كما كان المقهى مقصداً يرتاده بعض الموسيقيين من هواة ومحترفين، بينهم عازف البزق اللبناني الأشهر في ذلك العصر، محيي الدين بعيون.

من هذه البيئة الأولى انطلق الأخوان رحباني بعد ذلك للتزود من ينابيع الموسيقى الكنسية المشرقية، بمقاماتها المميزة، على يدي الأب الموسيقي بولس الأشقر، ثم تتلمذا بعد ذلك على أستاذ أوربي للموسيقى (برتران روبيار) ينهلان منه ما أتيح لهما من علوم الموسيقى الأوربية «الهارمونيا والبوليفونيا».

لكن كل هذه الاستعدادات الأولية، التي كان فيها عاصي ومنصور يمارسان العزف على آلة الكمان لمرافقة مطربي عقد الأربعينيات وبداية الخمسينيات, ومنهم المطرب المعروف في تلك الأيام فؤاد زيدان، كانت مقدمة لدخول المختبر العملي الأول الذي فتح لهما أبوابه على مصراعيها الإداري الموسيقي المميز صبري الشريف، المهاجر من يافا إلى بيروت، مع تجربته الفنية في إذاعة الشرق الأدنى، التي انتقلت مكاتبها أيضاً من يافا إلى بيروت (كان البث يتم من قبرص).

ويؤكد لي فنيو مكاتب الشرق الأدنى في تلك الفترة «حتى إغلاقها مع أزمة السويس في العام 1956»، أنه بلغ من إيمان صبري الشريف بالمواهب الموسيقية لعاصي ومنصور الرحباني، أنه كان ينفق قسطا وافرا من موازنة الموسيقى في الإذاعة، ليستقدم لهما من إيطاليا أساتذة موسيقى موهوبين، يساعدون الموسيقيين اللبنانيين الناشئين آنذاك، على بلورة مواهبهما وإغناء معلوماتهما، في فنون الكتابة للأوركسترا والتوزيع الموسيقى.

في هذه الأثناء، كان عاصي الرحباني قد تعرّف في كواليس الإذاعة اللبنانية على مغنّية ناشئة واعدة (نهاد حداد)، خلع عليها حليم الرومي اسمها الفني «فيروز». وفيروز، هي صوت الثلاثي الفني الذي سيكون له بعد موقع أساسي ومميز، في النهضة الموسيقية العربية بجناحها المشرقي المنطلق من بيروت.

ومن علامات التداخل بين العلاقة الإنسانية والفنية بين أركان هذا الثلاثي المميز، تلك الرحلة الشهيرة التي قام بها الأخوان رحباني وفيروز إلى القاهرة، حيث أمضوا شهوراً عديدة في تلك الزيارة الفنية التي تمتعوا فيها بالضيافة الفنية لكل أنصار التجديد الموسيقي في كواليس الإذاعة المصرية، وعلى رأسهم الموسيقار محمد حسن الشجاعي، المسئول عن التوزيع الأوركسترالي الحديث لبعض مسرحيات سيد درويش، والذي كان المسئول مباشرة عن عقد علاقة التعارف بين الأخوين رحباني، وأهم مسرحيات سيد درويش الغنائية.

والحقيقة أن حصيلة هذه الرحلة لم تتوقف عند حدود التزود بمزيد من المعلومات والخبرة، لكنها كانت محطة فنية مهمة، أنتج خلالهاالثلاثي الرحباني بعضا من أهم إنجازاته الموسيقية التاريخية، مثل: مغناة راجعون، ومغناة النهر العظيم، وأغنيات رائعة من أجملها «سوف أحيا» و«ذاكر يا ترى»، وسواها.

كل هذه المحطات، كانت أشبه بمنصات انطلاق، مهدت للدخول الكبير للثالوث الرحباني، إلى رحاب الليالي اللبنانية في مهرجانات بعلبك الوليدة (1957)، ثم رحاب المسرحيات الغنائية، التي تحولت إلى موسم فني غني، يتجدد في كل عام.

المسرح الغنائي

إذا اعتبرنا أن مرحلة التكون الجدي لمواهب الأخوين رحباني قد تمت فيما بين منتصف عقدي الأربعينيات والخمسينيات، فإن من المفيد التذكر بأن هذه المرحلة كانت أيضاً هي العقد الأول من حياة الدولة اللبنانية المستقلة، التي ترافقت حتما مع تحولات عامة انعكست على جميع مرافق الحياة الثقافية في لبنان، بكل ميادينها. غير أن ما يهمنا بشكل مباشر من هذا السياق العام هنا، هو التطور الكبير الذي طرأ على الإذاعة اللبنانية، والذي ترافق مع حدث تأسيس بارز في مجال الموسيقى والغناء، فشهد ولادة الشخصية الخاصة في الأغنية اللبنانية، بعد أن كانت قبل ذلك العصر، تعتمد في كلامها اللهجة المصرية، التي كان التحول منها إلى اللهجة اللبنانية ثمرة من ثمرات عهد الاستقلال، بقرار مباشر من رئيس الوزراء وزير الإعلام رياض الصلح.

وعندما كان الثالوث الرحباني يستعد للانتقال من مرحلة التكون، إلى مرحلة الإبداع، كانت الأغنية اللبنانية الوليدة معقودة اللواء لعدد من فناني تلك الأيام أبرزهم فيلمون وهبي في مجال الأغنية الشعبية، وخالد أبوالنصر في مجال الأغنية الكلاسيكية الذي كان يقدم أعماله عبر صوت المطربة المميزة زكية حمدان.

والحقيقة أن بداية الليالي اللبنانية في مهرجانات بعلبك لم تكن فقط محطة تحول فني للثلاثي الرحباني، بل أيضا لمجموعة أبناء ذلك الجيل من عباقرة الموسيقى العربية في لبنان (مثل زكي ناصيف وتوفيق الباشا وسواهما). حتى أن صاحب القرار بإدخال «الليالي اللبنانية» أوكل إليهم تنفيذ الليالي اللبنانية، هددهم ممازحاً، كما يروي منصور الرحباني، بأنه إما أن يكافئهم أو ينزل بهم العقاب، وفقاً للنتيجة العملية.

من المؤكد أن الفن الرحباني منذ ذلك المنعطف، يسير في خطين متكاملين:

- خط الأغنية الفردية، ذات المضمون الشعري واللحن المتطور، والمتراوح بين اللون الرومانسي، والإنساني العام.

- خط المسرح الغنائي.

غير أنه من المفيد هنا الإشارة إلى أن البدايات لم تكن تقدم تمايزاً واضحاً بين الخطين، بل كانت معظم المشاهد المسرحية، في السنوات الأولى، عبارة عن مجموعة متلاحقة من الأغنيات الفردية.

غير أن الفن الرحباني ما لبث بعد ذلك أن تطور إلى دخول مغامرة كتابة النص المسرحي المتكامل وتلحينه موسيقياً، مع ترك مساحة حرة في المسرحية، للأغنيات ذات الطابع الفردي، المكتوبة على تماس مع النص المسرحي، في قالب كان يحلو لمنصور الرحباني، بشكل خاص، تأكيد أنه لون خاص في المسرح الغنائي، لا يشبه الألوان الأوربية المعروفة بالأوبرا والأوبريت.

أين عاصي.. وأين منصور؟

من مميزات هذه الظاهرة، ذلك التوقيع التاريخي الذي ذيل كل أعمالها الفنية، منذ البداية وحتى رحيل عاصي الرحباني في العام 1986، وهو توقيع «الأخوين رحباني». فقد أتيح لي في جلسات حميمة خاصة، فرصة اللقاءات العفوية مع هذين العبقريين، التي كانا يتباريان فيها في ارتجال الزجل اللبناني الساخر والرفيع. مما يؤكد أن الموهبة الشعرية كانت قاسماً مشتركاً بينهما، لكن الكفة هنا ربما مالت قليلاً إلى جانب منصور.

كذلك، يعترف منصور في مذكراته الشخصية الواردة في كتاب «طريق النحل» (لهنري زغيب) بأنه منذ صغره كان ميالا إلى الموسيقى الأوربية الكلاسيكية والخفيفة. وأن نقاشاً مطولاً دار بينه وبين عاصي حول طبيعة اللون العام للموسيقى التي سيدخلان بها عالم الاحتراف، هل تكون أميل إلى الألوان الغربية أم الشرقية. ويقول منصور إن شقيقه الأكبر قد أقنعه في نهاية المطاف بحجة عملية، عندما قال له إن جمهور المستمعين في لبنان والعالم العربي، هم من العرب الذين يميلون إلى اللون العربي في الموسيقى والغناء.

هذا الحوار المهم يتيح لنا الاستنتاج بأن بصمة منصور كانت واضحة في الأعمال الرحبانية الأقرب إلى طابع الموسيقى الأوربية، بينما بدت بصمات عاصي في الألحان ذات المقامات العربية. كما أن منصور كان، في الغالب الأعم، يتولى مسئولية التوزيع الموسيقي للأعمال الرحبانية، الذي يفترض إلماماً بالقواعد العلمية للموسيقى الأوربية.

بقيت الأعمال التي ظل منصور الرحباني منهمكاً في إعدادها بالتعاون مع أبنائه الثلاثة.

وهي أعمال مسرحية ذات طابع استعراضي باهر. غير أننا إذا انتقلنا إلى القيمة الموسيقية لهذه الأعمال، فإني أعتقد أنها مازالت بحاجة إلى مزيد من الخضوع لغربال الزمن. أما السجل التاريخي للراحل الكبير منصور الرحباني، فمن المؤكد أنه موجود في الرصيد الذي يحمل توقيع الأخوين رحباني. وهو رصيد أقل ما يقال فيه إنه يشكل مرحلة بارزة من مراحل النهضة الموسيقية العربية والتنوير الثقافي في القرن العشرين.

مع ذلك، وقبل انتظار غربال الزمن وحكم التاريخ، فإن التوقف الموضوعي أمام الإبداع الموسيقي الذي حمل توقيع منصور الرحباني منفرداً، بعد رحيل عاصي، يفتح لنا بابا لتسجيل بعض الملاحظات التي تسمح بالتمييز بين المرحلتين: مرحلة الأخوين رحباني، ومرحلة منصور الرحباني:

1 - لاشك بأن منصور عندما انطلق في سياق المرحلة الجديدة، كان قد فقد عنصرين أساسيين من عناصر المرحلة السابقة:

- فقد توأمه عاصي بالرحيل، بعد سنوات المرض الطويلة.

- وفقد فيروز بالابتعاد، بعد انفصالها التام عن مؤسسة «الأخوين رحباني»، التي لم تعد موجودة أصلاً، وانصرافها للتعاون في المجال الموسيقي مع فيلمون وهبي ومحمد محسن وزكي ناصيف، وخاصة مع ابنها زياد.

كان منصور الرحباني يحاول في مقابلاته التلفزيونية، تغطية الثغرة التي تركها امتناع فيروز عن العمل معه منفرداً، كان يعيد ذلك إلى أن المستمعين العرب يحبون العيش في الماضي، بدل الإقبال على الجديد.

لكن هذا الكلام لا يعدو كونه تبريراً شكلياً لحقيقة فنية ثابتة تقول إن القيمة التاريخية لصوت فيروز كانت رافعة لجميع ألحان الأخوين رحباني، القوي منها والعادي. ومع أن منصور قد تعامل بعد ذلك مع أصوات لا بأس بها (رونزي وكارول سماحة ولطيفة)، غير أن أيا من هذه الأصوات لم يقترب أبداً من المستوى التاريخي لصوت فيروز، مما يؤكد أن الحاجز لم يكن ناجما عن تفضيل المستمعين لكل قديم على كل جديد، كما كان منصور يحاول التفسير والتبرير.

2 - إن نظرة عامة إلى كل الإبداع الذي حمل توقيع منصور الرحباني منفرداً بعد رحيل عاصي، كان يسمح لكثير من النقاد أن يلاحظوا أن موقع العنصر الموسيقي في هذا التجديد، قد تراجع وراء عناصر أخرى أهمها النص المسرحي، والإخراج، والتنفيذ الأوركسترالي، مما يسمح بالاستنتاج أن هذه العناصر بالذات، كانت تمثل المساهمة الرئيسية لمنصور في إبداع مؤسسة الأخوين رحباني.

مثل هذه الملاحظات تركت مجالاً لدى كثير من النقاد للاعتقاد بأن ما سيدخل إلى رحاب التاريخ من الإبداع الموسيقي الرحباني (إذا استثنينا زياد) هو ذلك الإبداع الموسيقي الذي حمل اسم «الأخوين رحباني» معا.

نعود من هذا التفصيل إلى التقييم العام فنقول: إنه إذا كان عرب القرن العشرين قد أصابوا نصيبا من الحداثة في بعض ميادين حياتهم، وافتقدوها في ميادين أخرى، فإن منصور الرحباني هو بلا شك واحد من رموز الحداثة العربية، في أكثر من ميدان من ميادينها.

 

 

إلياس سحاب 





 





 





صورة تجمع فيروز والأخوين رحباني مع فاتن حمامة وهي تزور بيروت





زفاف فيروز إلى عاصي الرحباني، الزفاف الذي اثمر كثيرا من الروائع الفنية





من مسرحية «آخر أيام سقراط» المطربة كارول سماحة ورفيق علي وغسان صليبة





فيروز الحنجرة الذهبية التي حملت موسيقى عاصي وكلمات منصور