شاعر خصب ومتنوع

شاعر خصب ومتنوع

قبل موته أوصى منصور الرحباني بأن يوارى الثرى داخل نعش مصنوع من خشب المسرح لعله يبقى بعد الموت مصغياً لوقع أقدام أبطاله وهم يشدون بأغانيه وأشعاره.

حرص منصور الرحباني، قبل وفاته بأكثر من عام، على إصدار أربع مجموعات شعريّة له دفعة واحدة، ثلاث منها بالفصحى ورابعة بالمحكية اللبنانية، وكان ذلك في العام 2007 من خلال إصدار خاص، كان منصور حريصاً على توقيعه أكثر من مرّة، حرصه على كتابة وإعداد مسرحياته وألحانه وسائر أعماله الفنيّة حتى آخر لحظة من حياته، فهو شاعر إلى جانب كونه مسرحياً وموسيقياً.

كان لمنصور الرحباني أدوات كثيرة لتحقيق وجوده الفني الإبداعي: المسرح والشعر والموسيقى. وبالإمكان إعادة ترتيب هذه المفردات، ويبقى الشخص الفني قائماً، فهناك أواصر بينها تشدّها جميعاً بخيوط إلى «الشخص الرحباني». وقبل التفكّر في عناصر ومكوّنات هذا الشخص كفرد، ينبغي علينا التفكّر فيه بصيغة «المثنى». «فالأخوان رحباني» هما على وجه التحديد والحصر «عاصي ومنصور الرحباني».

الأخوان رحباني

ولايذكر أحدهما إلاّ ويذكر الآخر معه، فكأنهما اثنان بصيغة الواحد، فعلى كثرة ما في العائلة الرحبانية من فنانين، موسيقيين ومسرحيين وشعراء، إلا أن التسمية المذكورة مقتصرة على عاصي ومنصور دون سواهما.

هناك زياد الرحباني وهو ابن عاصي وفيروز، ويتمتع بموهبة خاصة حادة في المسرح والموسيقى والشعر، إلا أنه لا يُسلك في الأخوين، وقل الأمر نفسه في إلياس الرحباني وهو الأخ الشقيق لهما، وفي أبناء منصور، وهذه الخصيصة في التسمية لها ما يبررها في الإبداع المشترك للأخوين، ولكن يثار حولها أيضاً أسئلة وشكوك، فكيف لاثنين أن يتشاركا في عمل فني إبداعي واحد، سواء كان ذلك قصيدة أو لحناً أو لوحة تشكيلية.. إلخ؟ ذلك أن علم نفس الإبداع الفني يشير إلى تفرّد الشخص الفني في إبداعه، ودخوله في ذاته دخولاً ضرورياً ومعروفاً لدى المبدعين، وإن عزلة الشاعر أو الموسيقي التي غالباً ما يتم الكلام عنها, هي في جزء كبير منها عزلته في داخل «أناهُ» العميقة المتلاطمة السرية، والتي هي في معظمها «أنا» اللاوعي، والمطمور في أحداث الطفولة والحياة، ولا يتشارك فيها اثنان، ولا تكون إلا لواحد.

إن فكرة «الفريق» المؤلف من اثنين فأكثر فكرة مألوفة ومرغوبة في العمل العلمي والبحث الاجتماعي والسياسي، ولكنها فكرة يطردها الإبداع الفني بطبيعته، ولم تُقبل أو تُمارس إلا على سبيل التجريب الشعري في الحركة السريالية في فرنسا في أيام المؤسس أندره بريتون، حيث اجتمع عدد من الشعراء السرياليين، واتفقوا على أن يؤلفوا جملة شعرية تجريبية، يقترح كل واحد منهم كلمة تأتي كيفما اتفق، وتألفت جملة عجيبة من هذا التجريب، وثمة محاولات أخرى للتأليف الإبداعي الجماعي في الشعر والرواية، عرفت في الغرب كما عرفت في العربية، من بينها - على سبيل المثال - رواية «عالم بلا خرائط» التي تشارك في تأليفها الروائيان الراحلان عبدالرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا، لكن ذلك كله يرد على سبيل الذكر والتجريب لا أكثر، وهو بخلاف تجربة الأخوين رحباني الإبداعية، فهما لم يكونا تجريبيين في أي من الأحوال، وأعمالهما الفنية المشتركة التي تحمل توقيع «الأخوين رحباني» لم تكن أعمال فنتازيا فنية، أو معالجة إبداعية، على ما في الفنتازيا والمعابثة من جمال وإثارة، ولكنها كانت أعمالاً يتشارك في توليدها وجدانان متشابهان إلى حد بعيد، ومتقاربان، بل متطابقان لحد يثير الدهشة. ولعل المطربة اللبنانية التي اقترن اسمها باسم الأخوين رحباني، «فيروز» لخّصت هذه المسألة بقولها «إن عاصي ومنصور متشابهان كحبتي المطر».

مركبة لم تتحطم

ولو تجاوزنا هذه الإشكالية، إلى أحد فنون الأخوين رحباني، وهو الشعر، لوجدنا أنّ همس البعض بأن الشاعر هو عاصي، وأن «منصور» كان يشاركه في التوقيع لا في التأليف، همس مشكوك فيه، بل هو باطل. ذلك أن موت عاصي الرحباني في العام 1986، قبل موت أخيه منصور في العام 2009 بثلاثة وعشرين عاماً، كان كفيلاً بوضع شاعرية منصور على المحك، فبعد انفصال المركبتين القسري، بالموت، كان على المركبة الثانية ألا تتحطّم بدورها، بل تحلّق بمفردها في فضاء الشعر. وكان من نتائج هذا التحليق الدواوين الأربعة، آنفة الذكر، التي حرص منصور على إبرازها للوجود قبل وفاته بأكثر من عام، وهي ثلاثة بالفصحى الحديثة:

- أسافر وحدي ملكاً.
- القصور المائية.
- أنا الغريب الآخر.

ورابع بالمحكية اللبنانية وهو ديوان «بحار الشتي»، بل لعل شعر «منصور الرحباني»، خضع في صيرورته لتحوّلين جوهريين، الأول انفصاله عن أخيه عاصي، والثاني انفصاله عن حنجرة فيروز، ولكل من هذين التحوّلين محطاته ودلالاته.

منصور المتفرّد

قبل الدواوين المفردة الخاصة بمنصور، كان قد صدر للأخوين رحباني عمل شعري مشترك بعنوان «قصائد مغنّاة»، بطبعته الأولى العام 2007، وهو على الأرجح إصدار خاص اعتنى منصور بإصداره، وضم القصائد المشتركة للأخوين التي غنتها لهما فيروز، وقد أهدى منصور هذه القصائد إلى «فيروز» بقوله: «قصائد طار بها صوتُك فأصبحت شمس الذاكرة».

ولعل صنيع الأخوين رحباني بهذا الشعر وهذه التسمية «قصائد مغنّاة»، كان أقرب ما يكون إلى ما صنعه أبو الفرج الأصفهاني في كتاب «الأغاني» حيث قسّم الكتاب إلى «أصوات» والأصوات تنطوي على ثلاث دلالات متآلفة في وقت واحد، فالصوت قطعة شعرية، والصوت غناء، والصوت مقام موسيقي أو لحن من ألحان الغناء.

وقد غلّب الأصفهاني في التسمية، الناحية الصوتية واللحنية على الناحية الشعرية، فهو لم يختر لكتابه سوى ما غنّى به المغنون والمغنيات، وما لحنّه الموسيقيون، من القصائد، فصارت القصيدة صوتاً. فالغنائية اقترنت بالشعرية، ولعلها سبقتها، على ما يقول اللغوي اللبناني الراحل الشيخ عبدالله العلايلي «الإنسان غنى قبل أن لغا»، وعلى ما يرى بعض الباحثين كالدكتور مصطفى الجوزو، من حيث إن الشعر في اللغات السامية القديمة، وهو «شير» بالكنعانية كان يحمل في الوقت نفسه معنى الغناء والإنشاد.

إن قصائد الأخوين المغنّاة مصنوعة للحنجرة المغنيّة، بل أكثر من ذلك، هي مصنوعة لحنجرة فيروز، وليس لأي حنجرة أخرى، ذلك أن تكوين الأوتار الصوتية، والعُرَب الغنائية لهذه الحنجرة، مخلوقة لغنائية هذا الشعر، فالغنائية في القصائد ليست قيمة خارجة عن غنائية الحنجرة الفيروزية، فالصوت الفيروزي جزء لا يتجزأ من هذا الإعجاز الغنائي، ليس من خارج، بل من داخل، بمعنى أنك لو وضعت الشعر ذاته واللحن ذاته في حنجرة أخرى غير حنجرة فيروز لما تكوّن لك الإعجاز الغنائي الرحباني الفيروزي نفسه.

الديوان مقسوم إلى ثلاثة أقسام: «غزل»، و«واحات» و«في البال». ويضم جميع قصائد الشعر العربي الفصيح الذي غنته فيروز للأخوين. وعناصر الغنائية في القصائد، تحمل بصمات من الموشحات الأندلسية حيث تتكاثر الأوزان وتتنوع، من خلال شعر مقطعي، من المثاني والمثالث، كما يسود هذه القصائد عناصر البساطة والسلاسة، وعدم التعقيد، وعدم الوقوع في الغموض.

بصمات رومانسية

ولاشك في أن ثمة بصمات رومانسية عليها، وبصمات أخرى من رمزية سعيد عقل، وتقنياته التعبيرية، وأسلوبه اللغوي في الصياغة الشعرية، حتى تكاد تضيع الحدود بين الأخوين وسعيد عقل، كما في قصيدة «عصفورة الشجن»:

«أنا يا عصفورة الشَجنِ
مثل عينيكِ بلا وطنِ
بي كما بالطفل تسرقه
أول الليل يد الوسنِ
راجعٌ من صوبِ أغنيةٍ
يا زماناً ضاعَ في الزَمنِ
أيُّ وهمٍ أنت عشتَ به
كنتَ في البالِ ولم تكُنِ»

أو كقولهما في قصيدة «أمس انتهينا»:

«أمس انتهينا فلا كُنا ولا كانا
يا صاحب الوعد خلَّ الوعد نسيانا»

فما بين بصمة الموشّح الأندلسي المستفاد وبصمة سعيد عقل تتحرك قصائد هذا العمل المشترك، المغناة.

الطائر الوحيد

بموت عاصي، كان على منصور أن يواصل الطيران وحده، وكان عليه أن يتفرّد في الشعريّة، فما عاد مسموحاً به أن يتم توقيع القصائد باسم الأخوين. ولو دققنا في شعرية منصور على حدة، خارج إطار التثنية، وتتبعناها، من خلال ما أتاحه لنا الشاعر من نصوص واعترافات، لتبيّن لنا أننا أمام شاعر بدأ الشعر بصيغة كلاسيكية متينة ومبكّرة.

إن أول ما كتبه منصور الرحباني من شعر الصبا، هو الأبيات التالية:

«خبّريني عن الغيوم وهاتي
كلَّ سرّ يموج بالمعمياتِ
فأنا أنشد الحقيقة دوماً
واشتياقي يطلُّ في نظراتي
من كهوف الظلام للنور أحبو
غير أني مازلت في الظلماتِ
فسِنيَّ العشرون ضاعت سراعاً
وإلى الآن لست أدرك ذاتي
كل شيء عرفتُهُ هو أنّي
شَبَح عابر بوادي الحياةِ
فإذا ما لمحتُ ضوءً صغيراً
طلع الفجر وامّحت ذكرياتي»

لقد كان الشاعر في العشرين من عمره حين كتب هذه القصيدة، وهي غير منشورة سابقاً (ينظر: حوار غير منشور مع منصور الرحباني، أجرته حنان عاد - جريدة المستقبل، لبنان، الأحد 25 يناير 2009). وهي تدل على امتلاكه المبكّر للصيغة الكلاسيكية للقصيدة العربية، كما تحمل هماً وجودياً وتفكّراً في معاني الموت والحياة.

ما يعزّز هذه الفكرة عن قدرة منصور الرحباني المبكّرة على كتابة قصيدة إبداعية أصيلة، ما أورده هو بذاته، في حاشية من حواشي ديوان «قصائد مغناة»، فهو يذكر التالي كحاشية على قصيدة «إليك أتوب».

«طلب مني عاصي بيتين من الشعر القديم تنشدهما فيروز ضمن فاصل موشحات من الشعر التراثي القديم. لجأت إلى الكذب، اقتطفت آخر بيتين من قصيدة كنت كتبتها، وحين سأل عاصي عن صاحبهما، قلت: إنه الراعي النميري، شاعر قديم. ضمهما عاصي إلى البرنامج معجباً ولحنّاهما وغنتهما فيروز. ولم يكتشف عاصي تلك الكذبة إلا ليلة الافتتاح في «بعلبك» حين قرأ في البرنامج أن البيتين للأخوين رحباني».

والبيتان المذكوران، وهما لمنصور وحده، هما:

«إذا كان ذنبي أنّ حبّك سيدي
فكل ليالي العاشقين ذنوب
أتوب إلى ربّي وإنّي لمرّةٍ
يسامحني ربي إليكِ أتوبُ»

فمن مثل هذه الصيغة الإبداعية العالية بدأ منصور الرحباني الشعر. هذا على أنه في الدواوين الأربعة التالية التي صدرت له فيما بعد، يختار لنفسه موقعاً في الشعر العربي الحديث، ويتحرر إلى حدود كبيرة من إسار الموشّح الأندلسي، والصيغة الكلاسيكية، وضغط سعيد عقل على لغته وأسلوبه، كما يتحرّر من غنائية الأخوين.

حياة غير منقوصة

فهو في ديوان «القصور المائية» يعتبر أنه عاش مع عاصي حياة كاملة غير منقوصة، وحصد معه مجداً كاملاً غير منقوص، ويرثيه في ديوان «أسافر وحدي ملكاً» بقوله:

«يا عاصي: ثلاثون سنة، ونحن نبارك الفرح، سأتفجّع عليك الليلة بالمآسي كعويل أنبياء التوراة».

وقصائد منصور، في مجمل ما كتب، كأنها مراث. أو كأنها إشارات سفينة تغرق. بل هو فيلسوف الموت الحزين المطمئن، الذي وهو يغرق، يرسم إشارة النصر بكفّه على وجه المياه، لكي ينضمَّ إلى البحر العظيم، الذي اسمُه الحياة.

وخارج إطار الشعرية المشتركة للأخوين، يظهر تفرّد منصور من خلال قوله في ديوان «أسافر وحدي ملكاً»: «كلانا يسافر في مطر نفسه». إن الحياة بالنسبة له، ليست نقيضة الموت، ولكنها نقيضة العدم، وقصائد «القصور المائية»، سيَر ومراث، وفي السيَر حبَّ ومراثِ، وشغف.. نساء يأتين إلى القصيدة من أعماق أجسادهن، وفرح بالحياة وبالأرض والعناصر والتحوّلات. يقول: وكأنه يستعيد قول عروة بن الورد «أوزّع جسمي في جسوم كثيرة»: «... وكل ما لا يتوزّع في غيره، عقيماً يكون».

ومنصور المتأمل من خلف حاجبيه الكثيفين بالحب والمرأة وتحوّلات الجسد والعناصر والفصول، يحتفل أكثر ما يحتفل في هذا الديوان بالموت والحكمة. يقول في قصيدة «موت الآباء»: «يجب أن يكون هناك موت». «حفيدي الصغير كريم لو شعر لحظة واحدة بأن من الممكن أن يبقى جدّه إلى الأبد، فإن صراعاً فورياً سيبدأ بينه وبيني لإزالتي من طريقه. سيحاول قتلي بلعبته الصغيرة». فيجب أن يموت الآباء ليعيش هؤلاء البرابرة الصغار، لأنه لو سيطر الأسلاف سيذبل بهاء العالم».

ومنصور الرحباني حين يكتب الحب والطبيعة والموت تحسّ كأنه ينحدر من لدن نشيد الأناشيد.. «اصعدي إلى الأعالي / اصعدي / فالينابيع آتية على السحب / الرياح امتلأت ثلجاً حارقاً ومكتملة الشهوات أنتِ». (من قصيدة «شغَف»). وهو يقطف الحكمة المختصرة والدالّة، إن قصيدة «مسافات» هي اختزال للحكمة والمفارقة الواصل لحدّ التعريف: «الطرائد تأتي حين لا ينتظرها الصيّاد»، «لولا الموت لأكل السأم الأرض»، «الدم حبر الحقيقة»، «السعادة قلقة، أما الحزن فمطمئن».

إن قصائد «القصور المائية» غير مؤرخة، وهي لجهة احتفالها بالموت والسيرة والحكمة تظهر وكأنها عنب في كَرْم منصور في أواخر سبتمبر، قليلة، صفراء، حزينة، ويغلب عليها التأمّل أكثر مما يموّجها الحب والإنشاد. ولغتها بين العامية والفصحى، مع غلبة الفصحى الملطّفة، وهي ذات انسراح نثري وذات سرد وحكاية تنضح منها غنائية مُرّة، ويجمعها بقصائد «أسافر وحدي ملكاً» خيط، ويفصلها عنها خيط آخر. لعل منصوراً في قصائد «أسافر وحدي» أقل تعريفاً للحكمة منه في «القصور المائية» لأن قصائده هنا ليست محض مراثٍ، هو أكثر شفافية حين يقول: «سأقصّ شريط النوم وأهرب» أو «سطر الدمع يطول»، أو «الماء زمن فضيّ»، و«عبادات متروكة»، فالزمن بالنسبة له كان في فورانه، ولم تكن الظلال تميل إلى الزوال. يؤرخ الشاعر قصائده بين عامي 1982 و 1988، وهي أعوام الاجتياح الإسرائيلي للبنان وصولاً إلى بيروت، ومقاومة هذا الاجتياح، والأهوال. وتتوزّع القصائد التي يرقّمها الشاعر ولا يمنحها تسميات، على 34 مقطعاً، وهي بين الحرب والبحر، تبدأ بعبارة «يتقدم صقر الليل.. الدبابات اجتازت وسط صراخ قلبي والموسومون بختم الموت انطلقوا».

وتعرّج بعد ذلك على قصائد مائية فيكون البحر فيها وجهاً من وجوه الماء في القصائد المائية والقصائد الرعوية، يتلافى منصور الرحباني أهوال الحرب، فالشاعر الذي يقول: «سأموت الليلة عن بيروت / سأُصلبُ في الحمراء» من خلال بيان عادي موزون، هو الذي يقول في قصيدة رعويّة: «الصيف الصيف هتفنا / الطفل التموزي تغلغل في البلّوط وبين القمح» (المقطع 10). ويصف ما يشبه طقساً من طقوس الحصاد والعبادة في الأساطير السورية القديمة: «الشعب / صبايا الهيكل / والآباء القدّيسون / ونساء الرغبة والأطفال / بالصنج وبالأبواق / بلحن الجوقة / فلتحضرْ ولتوقظ طفل الأرض»، كما أن الألق الشعري يزداد لمعاناً في القصائد المائية، وتلك التي تتعاطى مع البحر: «تتحرك فيَّ الأبراج المائية / موسوم بالبحر أنا... / أتكلم لغة لا يفهمها إلا الماء»، هذا وقصائد ديوان «أسافر وحدي ملكاً» موزونة على المستدرك للأخفش، لكأن ذلك يناسب سرعة الإيقاع وشفافية الماء وحركة موج البحر، واللغة هادئة، بل تكاد تكون مشتقّة من العامية البسيطة، أكثر مما هي مشتقّة من بلاغة الفصحى. لغة بسيطة كالماء في شفافيته وانسيابه.

هذا، فماذا قدّم لنا ديوان «أنا الغريب الآخر» لمنصور الرحباني؟ الكثير من قصائد هذا الديوان مؤرخ. أقدم القصائد تعود إلى العام 1965 ولعلّ معظمها مكتوب بين 1965 و 1970. وهي قصائد غنائية في الحب والزمن والطفولة والفصول وعناصر الطبيعة، على إيقاع عروضي هادئ ومتمادٍ هو «مفاعلن» يَصبُّ فيه الشاعر قصائده، وهو شعر تأمّلي وكأنه مكتوب خارج حنجرة فيروز. أو كأنه مكتوب لا للغناء بل ليقرأ ويثير التأمّل والتفكّر: «حين رنين الساعة / يعلن أن بعض ما نحن يموت نصف الليل» (من قصيدة «غريبة إلا معي») فهذا الشعر تأملي وغير مسكوب على الصوت وإذا وصلنا إلى قوله في قصيدة «يحدث في دمشق»: «يحدث في دمشق / يحدث في مدينة الخفي في جزيرة النهار / في مساكن الخريف / لا أحد يعلم هذا اليوم / يحدث أن يموت إنسان ويبقى سائراً على الرصيف»، فإن شعرية مفارقة تتحقق بين يدينا، يفترق فيها منصور عن ذاته الغنائية وعن عاصي في الأخوين، حيث هنا، غير هناك، شاعر تأمّلي لا يعوّل على الصوت في الإنشاد، والمعنى لديه يميل إلى ما تناوله شعراء الحداثة العربية الأول من معانٍ، خاصة صلاح عبدالصبور، كما أنّ فلسفة الشعر الملتصقة بالأخوين، وهي القائمة على الطفولة والزمان والدوران والسحر الطالع من بيئة رعوية، وما شابه ذلك من شعر الأخوين في صوت فيروز.. يغادر هنا مع منصور في اتجاه آخر.

 

 

محمد علي شمس الدين