الرحبانية: المسرح الغابة

الرحبانية: المسرح الغابة

لم يخطر في باليّ عاصي ومنصور الرحباني خلق الحياة في قالب أجمل وأكمل، وأن يدهشا الناس. وجدا نفسيهما في وسط من روعة خلق وخالق ومخلوقات. سعيا إلى الارتفاع فوق حياتهما العادية إلى حياة أخرى، حياة بلا مأساة.

قاد الأخوان الرحباني حدسهما على الأرجح إلى المسرح الغنائي، لم يتقصدا الشغل فيه. غير أنهما طالما كتبا الشعر الشعبي و«الشعر الآخر» بحثاً في مصوغهما المسرحي عن موقع للشعر. عندها: وجدوه في المسرح الشعري. شعرا بلا غناء، معادلة ناقصة عندهما. شعر بغناء: إنه معادلتهما الأثيرة. لحنّا ما كتباه. أنتج ذلك أغنية جديدة: الأغنية الرحبانية، كتب بوليسا البلدية أغنية بالصوت والموسيقى، بسرعة موسيقية وجدا لبنان والعالم العربي أنه أمام أغنية أخرى. وجدا أنهما أمام الأغنية الرحبانية، كتب بوليسا البلدية أغنية خاصة منذ المرحلة الأولى، غنت سلوى - أختهما - أغنيتهما قبل أن يجدا مهبط طائرتهما في صوت السيدة فيروز، عضو الكورال في فرقة الأخوين فليفل.

انتقلت فيروز من الأخوين إلى الأخوين، وجدت صوتها في مدرج الأخوين رحباني، ركبت طائرة شغلهما المشترك في الطريق إلى بناء أول شركة طيران لبنانية: شركة طيران الأخوين رحباني، بطائرة واحدة، هي طائرة صوت السيدة فيروز. هذه ليست مقدمة للإشارة إلى الدوق عاصي الرحباني واللورد منصور الرحباني والليدي فيروز. أبداً، هذه إشارة إلى اللقاء الثلاثي بالخيار الواحد، خيار الصوت والموسيقى، وجدا نجمهما في المسرح الغنائي، ذلك أن وظيفة المسرح الغنائي بالمسرح الرحباني بمرحلته الأولى هي وظيفة رسم المساحة الفضائية المتخفية بصوت السيدة فيروز. أعطاها المسرح مداها، أضحى المسرح مجالها. هكذا صبّت كل اجتهادات الأخوين رحباني بالمسرح في مصلحة صوت السيدة فيروز. وهكذا غابت مسرحيات المرحلة الأولى - مرحلة تجربة الأخوين رحباني - ليبقى صوت السيدة لطيفاً، عذباً، جديداً، هادراً، متوعداً في فضاء العالم.

صوت فيروز

مسرح الأخوين رحباني نجم حفلات ناس الستينيات والسبعينيات والثمانينيات بلسانه العذب وملابسه وأفكاره ونقده اللاذع. غير أن صوت السيدة شد إليه كل الأحاديث العذبة. صوت فيروز في المسرح في الإذاعة، في السينما وفي التلفزيون. صوت فيروز في كل مساحة متاحة. صوت فيروز حامل لواء المسرح الرحباني والأغنية الرحبانية في المسرح الرحباني والروح الرحبانية في الأغنية الرحبانية. «آخر أيام الصيفية»، «بيي راح مع العسكر»، كانوا يا حبيبي»، «نسّم علينا الهوا»، «يا أنا يا أنا»، «سألتك حبيبي»، «سألوني الناس»، مئات الأغنيات بعناوين واضحة وبلا عناوين وليمة الأخوين رحباني بصوت السيدة فيروز. نتاج مسرحهما في مرحلة الشراكة العصية على الفك والانفكاك. بمرحلة صوت المرأة ذات الأهمية البالغة أو الاكسترا أهمية. جاهرت الأغنية بإثراء المسرح الرحباني، لأنها أقوى من المسرح الرحباني. هكذا أريد لها. هكذا أضحت، أغنية صاحبة رأي في شخصية مسرح ضيف على الصوت. مسرح فطري إلى حد هائل. مسرح مواضيع طيبة، مسرح طيب بمواضيع طيبة، مسرح كياسة أمام تمرّد الصوت الفيروزي في الفضاء اللبناني والفضاء العربي والفضاء العالمي حتى عرف الكثيرون صوت السيدة بالأغنية الرحبانية، في حين جهل الكثيرون التجربة الرحبانية في المسرح. يلفظ اسم السيدة فيروز بكل اللغات واللهجات واللكنات الأرضية. أما مسرح الأخوين رحباني، فهو مسرح متخصصين ودارسين. هذا جمهوره في الآونة الراهنة. ثم أنه مسرح ريفي. بقي مسرح عاصي ومنصور الرحباني ريفياً بروح ريفية حتى في لحظات تمدينه الفائقة. أشخاصه - بمعظمهم - ريفيون. حكاياته - بمعظمها - ريفية. لم يتلكأ مسرح الأخوين رحباني في طريق التقدم. ولكنه بقي مسرحاً يحترم شعور معاصريه وأعرافهم. مسرح يتطلع إلى السمو الأخلاقي والشعور بالسمو ذاك. حدّث: الأخوان رحباني في الأغنية وبقيا بوليسي بلدية في المسرح بالمرارة التي تفتك بالآلهة الجميلة. ريف خاطب لبنان كله في «بحبك يا لبنان». أغنية تخاطب السهل والشمال والجنوب من دون أن يذكر الجبل. هكذا أضحى الجبل هو المخاطب (بكسر الطاء). بقي الريف تمام توازنهما وهما يبدعان في تجربة لاتزال حتى اللحظة ذات صلة بالحياة والناس بتصميمها العقائدي وخبثها وطيبتها القرويين.

الرحيل واللقاء

برزت الناحية هذه لدى منصور الرحباني بأعماقه، لذا: قرأ حين بدأ السفر وحيداً في روحانية وميتافيزقية وشفافية شقيقه عاصي. آلمه أن يفقده. إلا أن فقده، بقدر ما جوهر الألم في روحه وجوهر روحه في ألمه دفعه إلى التعبير بشكل أوضح وأسلم وأحدث عن مرارته. انطلق فيه شيء غير عابث. لم يدمّر ولم يعبث في تجربة الأخوين، ولم يرفع بندقية لكي يقنص صوت السيدة. أخذته لغة احتجاج مدعمة بالخبرة الشخصية المستشرية وبدراسة الأبناء المسرح والموسيقى بآن. أخذه كل ذلك لكي يسائل ظلامات الكون والعالم. سأل بصفاء كبير عن رحيل شقيقه عاصي ثم قبل الرحيل. لأن الرحيل دعوة إلى لقاء آخر. سأل بصفاء كبير عن انحباس الألحان الجميلة في صوت السيدة فيروز. ثم قبل أن ينحبس اللحن بالصوت بالمرحلة الماضية. طالما أنه لن يقبل بانحباس اللحن في صوت واحد وحيدا في تجربة منصور الرحباني الجديدة.

سوف أحسب له هنا:

أولاً: ليس قليلاً أن يستمر منصور الرحباني بلا ثنائية.

ثانياً: ليس قليلاً أن يستمر منصور الرحباني بلا السيدة فيروز.

ثالثاً: ليس قليلاً أن يستمر منصور الرحباني وحيداً منذ العام 1986، عام وفاة شقيقه عاصي الرحباني. استمراره إنجاز كبير وهو يقف في مرمى القنّاصين الرامين عليه بلا هوادة، مطلقين عليه الأحكام. أقلها: أنه استفاد من عبقرية عاصي. الأخير عبقري. يجمع الكثيرون على ذلك. يزيد أنطوان كرباج بأنه ملهم، رجل ملهم (بضم الميم) يلهم الآخرين، إلا أن الكثيرين تسنى لهم أن يتابعوا منصور الرحباني منذ «صيف 840» وحتى «عودة الفينيق» وهو يخاطب الجماهير العريضة بلغته الخاصة، وهو يتحكم بتجربته وبمقاليدها منتقداً الفئات الحاكمة في لبنان والعالم العربي. ومنتقداً قوى الظلم في العالم، جمعه في تجربته الجديدة بأخيه: بقاؤه مع الدولة ضد السلطة. الأخوان ضد السلطة، لكنهما مع الدولة، بيد أنه التزم التجديد منهجياً بما يخدم معتقده الفني ومعتقده السياسي. بقي وفياً بذلك لتجربته المشتركة مع عاصي. أثار الأمر حنق الكثيرين. التف الآخرون حول أدبه في مسرحه ومسرحه في أدبه. التف هؤلاء حول شعره، وجدوا في الاثنين ما يثير المتعة ويقدم الفائدة بلا تعليم. بقي وفياً بذلك لتجربته المشتركة مع عاصي، لأنه طوّر التجربة. ولأنه وجد تجربة الأخوين محكومة بالموت والاندثار إذا بقي أسيرها أو حبيسها أو طابعها بنسختها الجماهيرية المقبولة. ردد منصور الرحباني أمامي طويلاً: تموت التجربة بمراوحتها في فضائها القديم. يموت عاصي وتبقى تجربته. وببقاء تجربته يبقى. ولكي تبقى التجربة ويبقى عاصي، نقل منصور الرحباني تجربة الأخوين رحباني من مرحلة «بالأسود والأبيض» إلى مرحلة «بالألوان». وتلك: نقلة هائلة، استدعت أن يتعاطى مع غياب عاصي بما يليق بالغياب، ومع استقلال فيروز بما يليق باستقلالها. لم يقدم كبير القلب ضخم الجثة مسرحيات فقط. لم يقدم «صيف 840» و«الوصية» و«المتنبي» و«آخر أيام سقراط» و«قام باليوم الثالث»، و«آخر يوم» و«ملوك الطوائف» و«حكم الرعيان» و«زنوبيا» و«عودة الفينيق» بالأسماء. قدم المسرحيات بما حقق انعطافات ملموسة وجديرة بالتمعّن فيها. لم يعد منصور الرحباني «يوتوبيا» في مسرحياته الجديدة. لم يعد مثالياً، أضحى إشكالياً بطرح أسئلة حادة على الصيغة اللبنانية. طرح أسئلة حادة على كل شيء حتى بدا ملحداً بكل شيء. ترك الوطن المثالي المبني بيديه ويدي عاصي إلى ديانة أخرى، هي ديانة الشك، لا حقائق ثابتة لديه بعد. ترك الرجل عقله في مصلحة جنون إبداعي جديد. إبداع بلا شذوذ، جمالية جديدة بلا شذوذ، جعل من جنونه حقائق، هي حقائق الحي العاقل بالتجربة والتمرّس بالحياة. حياة غير مستوحاة من الحياة، بل هي الحياة، عنصر حيوي في الإنساني، يروي إمتاعه ويمتع رواياته.

واحدة من إنجازاته: لم يعد مسرح الرحابنة ريفياً، أضحى مسرحاً - مسرحاً. لأن المسرح مديني، لأن المسرح ابن مدينة. هذه مقولة التاريخ، هذه مقولة الحاضر، ما عادت شخصياته شخصيات فلاحين (سبع ومخول مثلاً. أو غربة. أو فخر الدين) بل شخصيات مدينية (ملوك الطوائف بالأندلس، زنوبيا، رب عدي في «عودة الفينيق» وغير ذلك). لم تعد شخصياته شخصيات فلاحية، أو شخصيات بسطاء الناس وسذجهم، لم يجعل حوادث مسرحه ولا حكاياته تدور في بيئات بسيطة، في أكواخ وبيوت الفلاحين، وجد الفلاح لديه وظيفته الدرامية، كما وجد العامل، وجد الفلاح قبلاً في المسرح الرحباني كرمز وهدف وغاية، أضحت مواضيعه، مواضيع غالباً ما استعملها الواقعيون الطبيعيون، مصدر مادة واحدة بمعالجات تختلف لديه. وكأنه أكثر من طرف يكتب بيد واحدة.

شغف بالتاريخ

لست أدري في ما أراد الكثيرون أن يصيبوا من منصور الرحباني مقتلاً. أخذوا عليه شغله بالتاريخ، كما أخذوا عليه طرق شغله على الواقع، اقترحوا عليه في الحالين غير ما أراد أن يشتغل عليه. ولطالما سألت السائلين عن سبب شغله على التاريخ، عن انحصار سؤالهم به. لماذا لم يسألوا كمال الصليبي لماذا اشتغل بالتاريخ. ثم إنهم لم يسألوا منصور الرحباني عن الروح الشعرية الطابعة تجربتها الجديدة، الشعر مادته الصلبة. الشعر مادته القاسية والواقعية والسحرية في آن، طالما أن الشعر حمل واقعيته إلى مرتبة الواقعية السحرية. لم يسأل أحد عن وقفته المستمرة بالدفاع عن حقه وحق الآخرين بالحياة الكريمة والحرية، ولم يسأله أحد عن ثورته على أصحاب النفوس الضعيفة والمخنثة، اعتقدوا أن تجربته أضحت تجربة رجل لا سوي في غياب عاصي الرحباني. صحيح أنها خسرت عاصي برحيل عاصي. الصحيح أيضاً أنها استمرت بعد عاصي على مدى عشرات السنين بتجديدات خدمت ماضي التجربة وحياتها الراهنة. الأرجح أنها خدمت مستقبلها. أرادوا أن يصيبوا مقتلاً فيه. هكذا صرف الكثير من أوقاته وهو يسحب النبال من لحمه الحي ليكسرها على فخذه، قبل أن يصفح لأصحاب دكتاتوريا الرأي واستبداد الفكر. هؤلاء من حاولوا أن يفرضوا على الآخرين مفاهيمهم بوصفها حقائق ثابتة في الحياة. لم يتهم منصور الرحباني أحداً بالكفر من جماعة النبالين. ولم يتهم أحداً بالمروق على دينه. استمر في إنشاء مسرح جديد هو عماده بتجربته الطويلة وموهبته الأثيرة. ولم يدع إليه الآخرين، إلا بعد أن مروا تحت أقواس محاكمه. هكذا وجد مروان الرحباني نفسه في عاصفة والده بعد لعب دور المستشار لعمه عاصي الرحباني. وهكذا وجد غدي نفسه في العاصفة المنصورية، ثم لحقه أسامة الإشكالي والمشاكس. ارتفعت عمارة جديدة، ارتفع مسرح جديد باللقاء الرباعي بين منصور الرحباني وأنجاله، معادلة اللقاء بسيطة ومعقدة في آن - تجربة منصور الرحباني ودراسة الأخيرين في أرفع الجامعات الفنية في العالم. عندها أعاد منصور المسرحية الشعرية الغنائية إلى مداره الجديد بأسلوب أصيل ولغة سهلة رشيقة لا تجافي متطلبات المسرح. كتب مسرحية لتشاهد لا لكي تقرأ. عاد هذا إلى قراءته النقدية للتجربة الأولى، تجربة شراكته مع عاصي، هو الخبير الأكبر بتلك التجربة، هو وحده، ولو ادّعى الكثيرون أنهم شركاء في ذلك.

اهتم منصور بالتعبير عن فكره، عن جوهر الفكر هذا، بالتعبير الأصيل وبالأسلوب البسيط، إنه أدرى بأن البساطة صعبة، وأن ثمة بوناً شاسعاً بين البساطة والتبسيط، ثم إنه الأدرى بأن جمع العامة والخاصة من أهل مهنته السابقة هو ضرب من ضروب المستحيل. وبالأخص: فيروز. عندها غادر الطرقات القديمة إلى الجديدة. ما عاد يكتب للصوت، أضحى يكتب للمسرحية، بقيت الرمزية واضحة في المسرح وهو يميل إلى الوضوح الكلي في مسرحيات الراهن الخاصة به أو في مسرحياته التاريخية. تعامل الواقعي مع الواقع بواقعية. لم يهجر أخاه ولم يعظ فيروز في ضرورة الاستمرار في تجربة واحدة. لم يزهد بالصوت ولا بحضور الشقيق المضاعف في الغياب، بل دخل في ملحمته الجديدة بروح مدينية جديدة، بروح وثابة، عالمة وقارئة ومتخطية. أضحى الصوت في خدمة الأغنية، في خدمة المسرح، بعد أن لعبت الأغنية في خدمة الصوت بالمرحلة الماضية. أضحت الأغنية واحدة بأصوات كثيرة. عكس المرحلة السابقة. أغنيات كثيرة بصوت واحد: صوت فيروز. قاد الرجل مجموعة من الأصوات إلى نجاحاتها في مسرحه. الأصوات النسائية أولاً: من رونزا إلى كارول سماحة ولطيفة التونسية وهبة طواجي. ثم الأصوات الرجالية: من غسان صليبا إلى جيلبير جلخ وسيمون عبيد وإيلي خياط ونادر خوري، دفع الكل إلى الغناء. كل من استوجب أن يغني في مصلحة الدراما غنى: رفيق علي أحمد وأنطوان كرباج وفايق حميصي ويوسف شامل. أضحت الأغنية بوظيفة محددة. أضحت وظيفية. لها وظيفة محددة. أضحت أداة كأي أداة أخرى في المسرحية. الأغنية كالفواصل الموسيقية أو المقدمات. الأغنية كالديكور. الأغنية كالإضاءة. عنصر من عناصر كثيرة تؤلف الفضاء المسرحي الشامل. لن تموت مسرحية وتبقى أغنية. ذلك أن الأغنية شيء في المسرحية. المسرحية هي الكل بدوران الأشياء فيها.

مسرح من دون قناع

لم يعد المسرح قناع الأغنية الرحبانية، لم يعد المسرح ميالاً إلى الروح اليونانية المستعملة القناع الأشهر في الدرامات العالمية. ذلك أنه: وضع الممثل في المسرح اليوناني القديم قناعاً يضحك أو يوحي بالأسى. أدرك الجمهور في ذلك المسرح العريق الغرض من وضع القناع على وجه الممثل. فهم مرمى وضعه. إذا اقتضت الضرورة أن يضع الممثل القناع من اتساع المسرح وصغر حجم الممثل بالنسبة إلى المسافات الشاسعة. أخفى القناع معالم الوجه ليرسم - هو نفسه - الوجه الضاحك أو الحزين. ولكي يجبر الممثل على تضخيم وتفخيم الصوت بواسطة البوق الذي يزوّد به القناع عادة. لم يعد المسرح قناع الأغنية الرحبانية. أدرك الكثيرون ذلك في تجربة منصور الرحباني إثر وفاة شقيقه بشخصيته الأخرى. شخصية خارج النمط التلفزيوني والإذاعي في المسرح في مصلحة شخصية المسرح - المسرح أو المسرح الكيان الكلي. لا خداع ولا زيف ولا وهم إثر ذلك. بل حقيقة أن المسرح هو فضاء. وأن الفضاء مدى. وأن المدى بلا ثبات. شيء خيالي مقارنة بالتجربة الرحبانية بـ «الأسود والأبيض». أحد أبطال الحياة الجديدة: مروان الرحباني. شاب عمر دنياه بالرسم والتشكيل من دون أن تكبحه شهرة المسرح الأول ولا قوة المسرح الأول ولا حضور المسرح الأول بأدواته وعناصره الأبرز: صوت فيروز في المقدم.

بتنا أمام فراغ يملؤه الرسم الدرامي والتشكيلات المسرحية. لا سطوة للفلكلور بعد. بقي الرقص كما تبقى الحياة. بقي الرقص كما بقي الصوت. اختار منصور الرحباني بقاء الرقص الأشبه بالحياة. رقص بأسنان تعبيرية سرعان ما سلك دروبه في الحلول الإخراجية الجمالية. إن موسيقى المسرحيات الأخيرة كشفت مرجعيتها في تلك المعادلة الضخمة: سيطرة الموسيقى على جملته في مراحل حياته الأولى. ثم سيطرة جملته عليه في مراحل حياته الأخيرة. غرف منصور وأسامة وغدي الرحباني من موسيقاهم كما غرفوا من الموسيقات العالمية الأخرى: من كارل أورف إلى موزار ومن بتهوفن إلى باخ ورخمانينوف والفلكلور السوري أو فلكلور الشاطئ السوري. هكذا أضحى غير النافع نافعاً في المرحلة هذه. لا تمجيد هنا ولا أطناب. بلاإشارات تبقى خاضعة للقراءة والتمحيص والمراجعة. لا أقول بأنني مستسلم أمام ما عمّره منصور الرحباني على الضفة الثانية من التجربة الرحبانية، حين أشير إلى ما أنجزه في قفزه فوق نهر التجربة الأولى (مع عاصي وفيزوز) إلى الضفة الأخرى، إلى ضفته الشخصية المنفردة.

انقلاب في فنية المسرح

قدم منصور الرحباني إنتاجاً مسرحياً ضخماً في المسرح بأشعاره ورواياته. أحدث انقلاباً في فنية المسرح. قاد بذلك حركة تجديد، لايزال ينهل منها المسرح الرحباني على ضفته الأخرى. الأرجح أن الكثيرين سيتأثرون بها بعد برهة. لأنها تمتلك الفاعلية على التأثير في الآخرين بحلولها الجمالية وسط العصر الجديد. قدم منصور الرحباني إنتاجاً مسرحياً نقل المسرح الرحباني من عصر «المانيفل» إلى عصر الآلة، الآلة الضخمة. لن أقول إنه بيسكاتوري هنا، لكي لا أبدو متفلسفساً، لن أشير إلى إشارات بريشتية في مسرحه. لم يعد مسرحه مسرح تزجية وقت بانتظار الأغنية. صار المسرح كرسي عرشه الجليل. تخلى الرجل عن سوءات المسرح القديم، هذه ثروة أضيفت إلى ثروته الجديدة، تعاون مع مروان وأسامة وغدي على البحث عن الصفرة الحادة، صفرة تؤكد حضورهم الجديد في مسرح جديد هو مسرح الغابة بمشاهد المتتالية المتوالدة بالأشكال والألوان. تمتع منصور الرحباني بذلك بشباب متدفق جديد، صاحبته قوة وحب المغامرة. لم يحس بدبيب الكهولة في عظامه. لم يثقل عليه شعره الأشيب، حين أخذه عزمه إلى إعلان «اللا استسلام» وهو ينتمي إلى العصر الجديد بالمسرح الجديد.

أيقن منصور الرحباني أن لا فائدة إلا بالركض وراء الإصلاح. فعل. أوقن أن ثمة ملاحظات كثيرة تقال في مسرحه، أوقن بأنني صاحبها، غير أن صوتها يخفت أمام إنجازه الكبير وغيابه الكبير وتدفق الجمهور الكبير إلى مسرحه الكبير.

 

 

عبيدو باشا






 





المطربة لطيفة تشدو بصوتها في مسرحية «حكم الرعيان»





لطيفة مع الممثل اللبناني أنطوان كرباج